دراما البحث عن هوية مصر في ظل صعود تيارات الإسلام السياسي

دراما البحث عن هوية مصر في ظل صعود تيارات الإسلام السياسي

دراما البحث عن هوية مصر في ظل صعود تيارات الإسلام السياسي


24/02/2024

هشام الجندي

لم تكن رحلة أسامة أنور عكاشة مع الكتابة والتأليف عموماً والدراما التليفزيونية خاصة مسألة تمضي في الفراغ، أو تبعد كثيراً عن كونها تعكس قناعات المؤلف وأفكاره وهواجسه وأسئلته المُلحّة التي تزدحم داخل عقله وروحه، مما يدفعه لتقديم عمل تلو الآخر نحو مشروع كامل يلتئم عبر اشتباكه أكثر من مرة مع حُقبٍ تاريخية مضت تعكس وجه مصر التاريخي وتداخل الثقافات والهويات المتعددة وماهية تفاعلها في الشخصية المصرية وكذا تطوّرها في مرحلة لاحقة وتبدّل أحوال مفصلها الحضاري –الطبقة الوسطى– خلال عقد الثلاثينات وما تلاها عَبر عقود الملكية.

هذا بالإضافة إلى تأثير ثورة تموز/ يوليو 1952، وما أنتجته على الشخصية المصرية وتطورات تراجعها في عهد الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، وما عُرف بسياسات الانفتاح وارتباط ذلك بصعود تيارات الإسلام السياسي وموجات العنف المتلاحقة التي ضربت استقرار المجتمع المصري، خاصة عقود الثمانينات والتسعينات.

من الصعوبة فصل مسلسل “الشهد والدموع” بجزأيه الأول والثاني عن ملحمة “ليالي الحلمية” بأجزائه المتتابعة، ولا ينبغي النظر وتدقيق وفحص مشاهد الحب وأشياء أخرى بعيداً عن كافة مراحل المجتمع المصري وما طرأ عليه من تغيرات.

كما لا يمكن فصل دراما “أرابيسك” عن أُخريات قدّمها الراحل أسامة أنور عكاشة، خاصة “زيزينيا والراية البيضاء والمصراوية”، سيما فيما يتعلق بهوية البلاد وقيمة إدارة التنوع وحتمية الاستفادة من حضور الثقافات المتعددة وجذورها وامتداداتها.

الدراما وأزمة حضور الإسلامويين

أسامة أنور عكاشة، أحد أهم المؤلفين وكتّاب السيناريو في الدراما المصرية والعربية، والذي تُعتبر أعماله التلفزيونية الأهم والأكثر متابعة في مصر والعالم العربي، عرف التاريخ جيداً وأدرك كمية أهمية أن تبصر الدول ذواتها الحقيقية من خلال التاريخ الاجتماعي، وحقيقة طبقاتها وارتباطاتها المعلنة والخفية بالأنظمة السياسية ومصالحها في صعود طبقات محددة، والحفاظ على تقدّمها الاقتصادي والسياسي على مصالح أخرى.

أدرك عكاشة وصديقه السيناريست وحيد حامد، أنهما في نفس المضمار “الدراما”، رغم أن الأول مال كثيراً نحو الدراما التليفزيونية بينما راح الثاني عميقاً نحو السينما، غير أن الاثنين انتصرا معاً لقيمة الفن الحقيقية ومبتغاها صوب رفع درجة الوعي واستبصار قيمته في رؤية المستقبل واعتبار أن الحاضر حين تقبض على حقيقته وتدرك عثراته، يضحى عتبة صلبة يمكنك الارتكاز عليها والانطلاق من خلالها.

ثمة واقع يصعب إنكاره جرت مقاديره في الدراما التليفزيونية تبدى من خلال غض البصر عمداً عن أزمة حضور جماعات الإسلام السياسي وثقله تياراته المتطرفة وعملياته الإرهابية في الأعمال التي تقدمها الشاشة الصغيرة “التلفزيون”، الأمر الذي تجلّى مع الأجزاء الأولى من مسلسل “ليالي الحلمية” الذي قدم رؤية تاريخية درامية لتطور المجتمع المصري وجذوره الطبقية وتفاعلات تلك الطبقات مع بعضها البعض وسياقات المواجهة ضد “الاحتلال الإنكليزي” في ذلك الوقت.

غير أن المؤلف أسامة أنور عكاشة، غفل وربما قاصداً عن الإشارة أو التعرّض لنشأة وحضور تيار “الإخوان المسلمين” خلال عقد الثلاثينات وما تلاها رغم حرصه الشديد على تبيان دور اليسار المصري وتمركزهم بين طبقات العمال والمصانع كجماعة إيديولوجية، بيد أن ذلك تغيّر قليلاً مع الأجزاء المتقدمة من العمل وتحديداً في الجزء الخامس من المسلسل مع شخصية (توفيق) الممثل علاء مرسي المنتمي لجماعة إرهابية ويتورط في عدة جرائم قتل وتصفية ويواجه ملاحقات أمنية.

التطرّف في الثمانينات بمصر

بدا جلّياً أن عقد الثمانينيات أمسى مرحلة زمنية تجلّت من خلالها أزمة  التطرّف في مصر، وحضرت بقوة حوادث التفجيرات ومحاولات الاغتيال نحو الشارع المصري وشخصيات بعينها بشكل متكرر، وأثار قلقاً بالغاً من تلك الإشكالية ومدى تأثيرها على واقع ومستقبل المجتمع والبلاد،

وبالتالي هذا الأمر ككل دفع الكثير من كتّاب السيناريو نحو طرح تلك القضية ومعالجتها بشكل وافٍ عبر نوافذ عديدة كانت الدراما واحدة منها خاصة خلال عقد التسعينات وما تلاها من سنوات.

حرص الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة ورفيق دربه المخرج الراحل إسماعيل عبد الحافظ، على بلورة ذلك والاشتباك مع ما تم إغفاله في الأجزاء الأولى من دراما “ليالي الحلمية” وكان ذلك من خلال شخصية الابن (توفيق)، الأمر الذي دفع جماعة النقّاد لاتهام صنّاع العمل، كون تلك الشخصية دخيلة على نسيج الدراما و تم اقحامها في خطوط العمل وشخصياته استجابة لصوت الدولة الرسمي في معالجة تلك الأزمة.

إلى ذلك دافع المخرج الراحل إسماعيل عبد الحافظ عن شخصية (توفيق) الأبن في أكثر من حديث صحفي وقال: “شخصية توفيق غير مصطنعة لأنني على المستوى الشخصي رأيت شخصيات مثله بعد أن التقطته هذه الجماعات الإسلاموية وحّولته من شخص متسامح إلى آخر بشع عبر غسيل مخ طويل وقد مهّدت لذلك درامياً من خلال تراكم الإحباطات المترتبة على الظروف البيئية والتي جعلته مؤهلاً لذلك وأنا من خلال شخصية (توفيق) أريد أن أقول للشباب إن الدّين سمح وأيسر من ذلك وأكدت في العمل أن المسؤولية بالأساس تقع علينا جميعاً وهذا تحذير للجميع للتصدي للخطر الخارجي الذي ينفذ إلينا من خلال الهزات العنيفة التي حدثت في المجتمع”.

يتابع مخرج العمل إسماعيل عبد الحافظ حديثه عن مشهدية التيار المتطرف وبروز التيارات الإسلاموية آنذاك، قائلاً: “أريد أن أقول إن ظهور هذا التيار نتيجة وليس سبباً فقد نشأ بسبب تدهور الأوضاع وعدم وجود الخطة القومية والهدف العام الذي يجعلنا نذوب في مشروع قومي ففي فترة الاستعمار كان الهدف هو التحرر وفي حقبة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، كان الهدف هو التنمية والحرب وكانت الأحلام تنزل إلى أرض الواقع ويتم تنفيذها، ثم ما لبث أن تغيّر الأمر، والآن يحاول العدو أن يصبح صديقاً وجاءت مشكلات البطالة والاقتصاد لتفرز إفرازات الفساد والتطرّف، والشعب يحاول أن يحيى يومه فقط بعيداً عن هؤلاء وهناك قوى تتربّص وتنتظر أن تضرب وتحوّل مصر إلى حروب أهلية”.

وعلّق عبد الحافظ على موضوع القلق من التيارات الإسلامية المتشددة بعد مهاجمتهم وقال: “ما تم رصده في ليالي الحلمية حول التطرّف هو المنطق الصحيح فالولد بلا أب ولا أم ويقع تحت يد الجماعات ليتمّ غسيل مخّه وليصوّروا له الأشياء بشكل خاطئ من قبل من هم أكبر منه وأعتقد أن هذه الشخصيات تركت أثراً لا ينمحي داخل المشاهدين”.

استغلال المتطرفينَ للأزمات المجتمعية

إذاً وفي تقديري الخاص تفطّن مؤلف “ليالي الحلمية” أن تكون شخصية  (توفيق توفيق البدري) الذي تلقفه التطرف وجماعات الإرهاب نقطة درامية تعود إلى ذلك الأب التائه طبقياً واجتماعياً (توفيق البدري)، الذي أدى دوره الممثل حسن يوسف، إذ يمثل الطرف الفقير والهامشي في عائلة رأسمالية عتيدة تنتمي لـ”حزب الأحرار الدستوريين”، أحد الأحزاب التي انشقت عن “حزب الوفد القديم”، وعانى كثيراً من غياب الرعاية الأبوية والمجتمعية وتطور حالة المجتمع بعد هزيمة حرب حزيران/ يونيو عام 1967 مما جعله عضواً فاعلاً في تلك الجماعات الأصولية ويداً باطشة باسمها.

يرتبط ذلك أيضاً مع تطور ملامح شخصية (رقية البدري) الممثلة عبلة كامل، الأخت غير الشقيقة لشخصية (سليم البدري) الممثل يحيى الفخراني، بيد أن حقيقة الأمر كونها أخته الشقيقة والأب الباشا بدل ذلك حتى ينفرد الابن (سليم) بالميراث كله ويبتعد عن تداعيات الزواج خارج طبقته، وشخصية (سليم) كانت أرستقراطية ابن الباشاوات والذي سافر من مصر بعد ثورة تموز/ يوليو ثم عاد في مرحلة الانفتاح الاقتصادي ليتوسّع أكثر في المجال الاقتصادي.

وبالتالي هذا سياق يصعب غفله كون (رقية) ابنة الباشا العتيد من زيجة لأم تنتمي لطبقة دنيا من عائلة السماحي في حي الحلمية ومن خلال تلك العائلة تنحدر عدة شخصيات تعكس الانتماء السياسي لـ”حزب الوفد” وللبطولة الشعبية لشخصية (زينهم السماحي)، الممثل سيد عبدالكريم وشقيقه (طه السماحي)، الممثل عبدالعزيز مخيون، الذي يحارب المحتل ويقدم روحه في عمليات مجابهة الاحتلال.

كما وكان لـ(زينهم السماحي) قهوة الحلمية التي يتجمع فيها كل أبناء الحلمية وكانت ملتقاهم الفكري والأدبي ومجالس أنسهم واستماعهم للأخبار الهامة عبر الراديو في القهوة ومناقشة مواضيعهم الشخصية والسياسية والوطنية.

من خلال ذلك بدا للمؤلف أفق ومستقبل تلك الشخصية وملامح توازنها واستقرارها النفسي، إذ تتحرك حياة الشخصية درامياً عبر الرجلين الذين يدخلون حياتها كأزواج عندما تكون زيجتها الأولى من المهندس (حلمي خليف) الممثل سامح الصريطي، تلك الشخصية الانتهازية التي ترفع شعارات أي مرحلة وتتبنى مقولاتها ثم ما تلبث أن تنقلب على ذلك كله متى ما تغيرت المقادير ثم زواجها من شخصية أخرى تعمل في دول الخليج حيث الثروة الطارئة والتحالف مع عمليات الإرهاب وغسيل الأموال، الأمر الذي يصيغ رؤية مؤلف العمل بحقيقة الوقوع في ظلمة التطرف والجماعات الأرهابية رهن غياب الهوية بكافة مضامينها سواء الطبقية وما يلحق بها من وعي ومعرفة وماهية حقيقية.

لأجل ذلك كله، من الصعوبة بمكان فصل دراما أسامة أنور عكاشة عن بعضها البعض، خاصة فيما يتّصل ويمتد بمشروعه الحقيقي وهو الانكفاء على أهمية وحتمية احترام التنوع التاريخي والحضاري وضرورة إدارته بشكل يعظّم من قيمته وسرد مشروع تتكامل رؤاه من خلال خطط تنموية شاملة ترتبط عميقاً من ديمومة الحيوية للمجتمع وتعظيم إمكاناته وتعزل كافة الروابط فيما بينها ومقولات التطرف والهدم.

وبشكل عام، استطاعت الدراما المصرية، ولاسيما أعمال أسامة أنور عكاشة، أن تنتج أعمالاً تسرد بعمق قضايا وأزمات المجتمع المصري على امتداد السنوات الفائتة، وكيف استغلت جماعات الإسلام السياسي والتنظيمات الإرهابية هذه التقلبات والأزمات العامة لجهة مصالحها وأجنداتها، وكيف تغلغلت في البُنى المجتمعية من أجل العبث بها وترسيخ أفكارهم المتطرفة، خاصة خلال فترة الثمانينات والتسعينيات.

عن "اندبندنت عربية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية