تأملات على هامش الغزو الروسي لأوكرانيا

تأملات على هامش الغزو الروسي لأوكرانيا


01/03/2022

بالنظر إلى مجموعة من ردود الفعل، والتعليقات المنتشرة حول مشهد الحرب الروسيّة الأوكرانيّة الدائرة حالياً، يتضح أنّ البعض ما زال مرتهناً بفترة الحرب الباردة، ولم يغادر بعد عوالمها الأيديولوجية، على الرغم من مرور 3 عقود على انهيار الاتحاد السوفياتي، وظهور جمهورية روسيا الاتحادية على أنقاضه المتهالكة، لكن البعض لم يدرك بعد أنّ الوريث الشرعي للتركة العسكرية الشيوعية، أدار ظهره تماماً للنظام الاشتراكي.

 

اقرأ أيضاً: تأملات على هامش الغزو الروسي لأوكرانيا

بسقوط الاتحاد السوفياتي، انتهى عصر كامل، وتراجعت أيديولوجيات ومذاهب لصالح أخرى، وكان ينبغي على اليسار وهو يشهد مرحلة الأفول، أن يراجع سؤال الاشتراكية والدولة، وأن يعيد صياغة مفاهيمه المركزية بناء على خبراته العملية الجديدة، بعد أن جرى اختبار النظرية في الحقل التداولي للبنى السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. وفي هذا الإطار، تأتي أهمية طروحات باري شيبارد، الذي طرح مفهوم رأسمالية الدولة السوفياتية على طاولة النقاش، لينفذ بمهارة معرفية، تدعمها تداعيات التجربة، إلى أبرز نقاط الضعف فيها؛ ليسلط الضوء على نمو الجماعة البيروقراطية، التي جعلت الدولة الشيوعية مشوهة، وغير قادرة على ابتكار أيّ حلول ناجزة، لأزماتها المتتالية.

سقوط الدولة لم يكن مدخلاً للاشتراكيّة الكاملة

في كتابه الدولة والثورة؛ اشتبك فلاديمير لينين، مع المعسكر الاشتراكي الرافض للربط بين سقوط الدولة، والانتقال إلى الشيوعية، مؤكداً أنّ مرحلة اضمحلال الدولة، هي أنسب فترة للانتقال إلى الشيوعيّة، لافتاً إلى أنّ البروليتاريا لا تحتاج إلا إلى دولة تسقط وتتلاشى، ليتم التحول التاريخي، واصفاً الفريق الأول بالانتهازيّة. وربما كان لينين يخشى من توغل البيروقراطيّة، وطبقة المستفيدين، ومن ثم الإفراط في تكريس رأسمالية الدولة، فأراد قطع الطريق أمامهم؛ بحرق المراحل أولاً لبناء النظام الذي كان أشبه برأسمالية الدولة، والتحول إلى التصنيع؛ لخلق طبقة عاملة قوية ومتماسكة، يمكن من خلالها تحقيق الانتقال فيما بعد، بعد أن تتلاشى الدولة ويتداعى النظام.

بسقوط الاتحاد السوفياتي، انتهى عصر كامل، وتراجعت أيديولوجيات ومذاهب لصالح أخرى، وكان ينبغي على اليسار وهو يشهد مرحلة الأفول، أن يراجع سؤال الاشتراكية والدولة، وأن يعيد صياغة مفاهيمه المركزية

كان لينين يدرك حجم التناقضات في بنية الدولة الاشتراكيّة الأولى، والتي اعتبرها مجرد محاولة حتميّة، عليه أن يشق بها الطريق المعبد بالثغرات والإشكاليات الكبرى، حتى يلتقي في المنتصف، عندما تترهل الدولة، مع قوى البروليتاريا الأممّية، ليحدث هذا الانفجار الثوري الطوباوي، الذي يسفر في النهاية عن تحقق الاشتراكية الكاملة. 

 

اقرأ أيضاً: "غازبروم" الروسية تلقي الكرة في ملعب الصين... وتوقع أكبر صفقة غاز

لكن ما توقعه لينين لم يتحقق، فمع تلاشي الدولة المترهلة وسقوطها في أوائل تسعينيات القرن الماضي، أخذت الرأسمالية في الصعود بقوة، مع تحرير سعر الصرف وانهيار الروبل. وبالتزامن مع تدهور الناتج القومي، أصرّ يلتسن على استراتيجية العلاج بالصدمة، لتظهر طبقة جديدة؛ عملت على الاستفادة من هذه الحالة، وأثرت بعد الطفرة التي حدثت في أسعار النفط، لينتج في النهاية بفضل المضاربة وأنماط الاقتصاد الريعي، ظاهرة جديدة هي شريحة المليارديرات، حيث أحصت مجلة "فوربس"، المتخصصة في الإحصائيات في عالم المال والأثرياء، عددهم في روسيا في العام 2008، بنحو 87 مليارديراً، معظمهم من ملاك الأسهم في الشركات العاملة في مجال النفط والغاز، وبحسب المجلة الأمريكية، فإنّ العاصمة موسكو في العام 2016، كان يقيم بها نحو 60 مليارديراً، تقدر ثروتهم الإجمالية بنحو 270.6 مليار دولار.

التفاوت الطبقي وقوة النظام

هذه الشريحة بالغة الثراء، تحالفت مع طبقة محدودة من المليونيرات، وتوثقت صلاتها بمؤسسات الدولة في عهد بوتين، الذي أحكم قبضته على الحكم، كما دار أصحاب المؤسّسات المالية والإعلامية الكبرى في فلك النظام، في وقت اتسعت فيه الهوة بين الطبقات، وتزايدت أعداد الفقراء بشكل غير مسبوق، وليس أدل من المشهد اليومي لجموع المعدمين، أمام دير مارثا ومريم في وسط العاصمة موسكو، لالتماس الطعام المجاني، على مدى التفاوت الطبقي الذي تعيشه روسيا، في ظل تراجع الدخول بنسبة 3.5 بالمئة في العام 2020، مع الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية الأساسيّة، وبحسب آخر تقرير صادر عن وكالة الإحصاء الفيدرالية الروسية، فإنّ نحو 13.3 بالمئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر، وذلك بالتزامن مع رفع معدل ضريبة القيمة المضافة، وزيادة الرسوم على المشتقات النفطية في السوق المحلية.

لم يكن أحد يتخيل، وهو يتابع السقوط المدوّي للإمبراطورية السوفياتيّة، في التسعينيات، أن يأتي اليوم الذي تقف فيه روسيا وحدها، في مواجهة حلف الناتو إلى هذه الدرجة

وعليه، يمكن القول إنّنا بصدد دولة كبيرة، يحكمها نظام قوي ومسيطر، متحالف مع أوليغاركية تمتلك المال وتحتكر الثروة. وفي ظل وجود معارضة ضعيفة، يقبع زعيمها أليكسي نافالني، في السجن، نجح النظام في تدعيم سلطاته، بفضل الآلة الأمنية الضخمة، مستفيداً من السيطرة على صناعة النفط، والتدخل العسكري المباشر وغير المباشر في بؤر الصراع هنا وهناك، بحيث فرضت روسيا نفسها كلاعب مركزي في أزمات الشرق الأوسط والقوقاز.

مفارقة تاريخيّة

لم يكن أحد يتخيل أن تصبح ألمانيا قادرة بعد معاهدة فرساي، في العام 1919، على تجاوز حدودها السياسيّة، أو مناوءة القوى الكبرى، لنحو نصف قرن على الأقل، بعد نزع سلاح الراينلاند، ووضع إقليم سار الصناعي، تحت إدارة عصبة الأمم لمدة خمسة عشر عاماً؛ لمراقبة عملية التصنيع، بالإضافة إلى خسارة ألمانيا لنحو 13 في المئة من أقاليمها الأوروبيّة، وكل مستعمراتها في الخارج، لكنّ الأخيرة نجحت وفق نظام شمولي، في نفض آثار الهزيمة سريعاً، لتغزو كل أوروبا شرقاً وغرباً بعد عقدين، حتى أنّها لم تكتف باستعادة الألزاس واللورين من فرنسا، بل أمعنت في التقدم، واحتلال فرنسا نفسها.

رغم أنّ الدوافع الروسيّة ربما تكون مفهومة، في ظل رغبتها كقوة إقليميّة فاعلة في شرق أوروبا في الدفاع عن مجالها الحيوي، لكن الاندفاع العسكري السريع ينذر بعواقب أخرى في المستقبل القريب

ربما أيضاً لم يكن أحد يتخيل، وهو يتابع السقوط المدوي للإمبراطورية السوفياتيّة، في تسعينيات القرن الماضي، أن يأتي اليوم الذي تقف فيه روسيا وحدها، في مواجهة حلف الناتو إلى هذه الدرجة، وتحدي الولايات المتحدة بهذه الجرأة، والغزو أمام أعين القوات الأمريكية، ومع اختلاف المضامين والعناصر التي هيأت للحدث، إلا أنّ القدرة على التحرك العسكري الضخم في الحالتين، ربما يفضي إلى القول إنّ الإرث العسكري لا ينحصر فقط في الآلات والمعدات، وإنّما في العقلية التي تدير الدولة، والخلفية التي تدفع تجاه المواجهة مهما كانت المغامرة محفوفة بالمخاطر، وأنّ هيمنة فرد أو مجموعة أفراد على القرار، مع امتلاك ترسانة عسكرية مدمرة، قد يفسح الطريق أمام تكرار سيناريوهات الماضي، ورغم أنّ الدوافع الروسيّة ربما تكون مفهومة، في ظل رغبتها كقوة إقليميّة فاعلة في شرق أوروبا في الدفاع عن مجالها الحيوي، وتأمين خطوطها الأولى، لكن الاندفاع العسكري السريع، وبهذا الحجم، ينذر بعواقب أخرى في المستقبل القريب.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية