ما طبيعة حركة "السترات الصفراء" في فرنسا؟ هل هي حركة اجتماعية عفوية أم مقدمة لفعل سياسي جذري؟ إذا كانت الحركات الاجتماعية تصنع مقدمات التغيير؛ فهل ما يجري في باريس وأخواتها قادر على خلق التغيير؟
لا تتجاوز حركة "السترات الصفراء" الفعل الاحتجاجي العفوي، والتعبير عن الغضب الناتج عن انتهاك الدولة الفرنسية لمستويات الرفاهية، التي كان يعيش عليها المواطن الفرنسي، لكنّ الصورة التي رسمتها عن نفسها؛ هي أنّها حركة عفوية تعتمد الفعل العاطفي، ولا ترتكز على مسوغات منطقية تربط الوسائل بالغايات؛ حيث ظهرت قوية، لكن بغايات لا ترقى إلى حركة اجتماعية ذات أفق سياسي، كما غلب عليها "التسطيح"، وهو رديف موضوعي للحركة التي لا تتوفر على قيادة ورؤية واضحة، والتسطيح هنا ليس بمعناه القدحي، لكن بمعنى الانطلاق من اليومي والمعيش بدل الانطلاق من الأفكار والأطروحات.
حركة عفوية تعتمد الفعل العاطفي، ولا ترتكز على مسوغات منطقية تربط الوسائل بالغايات
لكن رغم عفويتها؛ فإنّها تحمل في طياتها بذور "ثورة" سياسية وفكرية كبيرة، ليست بالضرورة أن تكون الحركة واعية بما تحمل؛ فأيّ تغيير جذري يبدأ من شعور عام لدى المواطنين؛ مفاده أنّ شكل النظام لم يعد قادراً على تلبية حاجياتهم، هذا الشكل ينتج عنه عدم المساواة وانتشار الفقر والاستبداد، وهنا لا ينبغي الخلط بين الاستبداد والقمع؛ فأشدّ أنواع الاستبداد هو ما تتم ممارسته بواسطة مؤسسات دستورية، انتخبها من يمارس عليه التسلط، ممارسة التسلط لا تتم دائماً عن طريق الرصاص والقمع، لكن بواسطة التشريعات، التي تخدم اللوبيات الاقتصادية والصناعية.
قصة الفرنسي مع الثورة دورية، تنطلق من فعل احتجاجي، وتنتهي بإنتاج أفكار ومفاهيم فلسفية، منذ خمسين عاماً؛ عرفت فرنسا الثورة الثقافية، التي قادها الطلبة، وانضم إليها مفكرون وفلاسفة، على رأسهم فيلسوف الوجودية، جون بول سارتر، ويمكن القول إنّها ثورة مجتمع الوفرة؛ بمعنى أنها لم ترفع مطالب سياسية واجتماعية، لكن حملت المطلب الثقافي.
اقرأ أيضاً: تظاهرات "السترات الصفر" هذه حصيلة الموقوفين والمصابين
مثلت رغبة الشباب في الثورة على التقاليد الثقافية والاجتماعية، ورغم أنّ الدولة حينها لم تستجب لمطالب الطلبة، لكن هذه اللائحة تم تنفيذها بالكامل، في عهد الرئيس الراحل، جيسكار ديستان، وللمرة الأولى تُطرح في فرنسا مفاهيم الحرية الفردية وغيرها.
اليوم بلغ الفرنسي حدّ الإشباع فيما يتعلق بالحريات والحقوق، حتى ظهرت حركات مناهضة لفكر التحرر الغربي، غير أنّه، في مقابل الإشباع في هذا المجال، أصبح يعاني من الفقر على مستوى الحقوق الاقتصادية.
اقرأ أيضاً: الليبراليون العرب على المحك!
قد يزعم البعض أنّ الاحتجاجات هنا تختلف عن الاحتجاجات هناك؛ فباريس دولة ديمقراطية، بينما في باقي البلدان ليس الأمر كذلك، الناس لا تحتج من أجل الديمقراطية، فهذا احتجاج النخب، الناس تحتج من أجل الخبز.
ماكرون وعد بخطة استثمارية، تم الترويج لها كثيراً، لكن في التنفيذ تبيّن أنّها خطة ليبرالية متوحشة، ووعد أيضاً بإلغاء 120 ألف وظيفة في القطاع العام، لمدة 5 أعوام؛ من خلال قانون التقاعد المبكر، ووضع خطة لخفض معدلات البطالة، وتعهد بإعفاء 80% من الأسر محدودة الدخل والمتوسطة من ضريبة السكن، باعتبارها غير عادلة، لكن من جاء به كان له رأي مخالف.
اقرأ أيضاً: هل الإسلام متوافق مع الحداثة والديمقراطية؟
لقد عجز الاقتصاد الفرنسي، الذي يبلغ حجمه نحو 2.8 ترليون دولار، ويمثل نسبة 15% من اقتصادات منطقة اليورو، المقدّر حجمها بنحو 17 ترليون دولار، عن السير بالسرعة نفسها التي يسير بها الاقتصاد الألماني في التقدم، فمنذ 15 عاماً؛ كانت الدولتان الكبيرتان في الاتحاد الأوروبي تتمتعان بمستوى معيشي لا يضاهى، أما اليوم؛ فمستوى المعيشة في ألمانيا أكبر من نظيره الفرنسي بخمس مرات.
كانت معدلات البطالة في فرنسا وألمانيا، عند بدء التعامل بالعملة الأوروبية الموحدة، 8%، أما اليوم فقد انخفض معدل البطالة في ألمانيا ليصبح 4%، بينما ارتفع في فرنسا ليقترب من 10%، فمن بين كل 4 شباب فرنسيين تحت سنّ الـ 25 عاماً، هناك شخص عاطل عن العمل.
وتميز الاقتصاد الفرنسي بسياسات اجتماعية، ومارس نوعاً من الممانعة تجاه العولمة وسياسات الرأسمالية، في الوقت الذي تبنّتها دول العالم، وجيء بماكرون لضرب هذا التوجه؛ فخطة ماكرون، التي اتجهت لملاءمة الاقتصاد الفرنسي مع نظرائه، تسببت في الضغط الاجتماعي.
اقرأ أيضاً: من ديمقراطية السلف
الخارجون اليوم للاحتجاج لا تهمهم انتخابات برلمانية، ولا وجود أحزاب وديمقراطية، لكن يهمهم ما يأكلون؛ لقد عاشت فرنسا على الوفرة، واليوم تدخل عصر اقتصاد الندرة، لقد ظلّت تحتكر خيرات إفريقيا، التي أصبحت اليوم مزدحمة بالقوى العالمية والإقليمية، ودخول فرنسا معركة الربيع العربي كان من أجل ضمان موقع قدم لاقتسام الخيرات، لم يعد لدى أصحاب المصالح الكبرى ما يقدمونه لمن لا مصلحة لهم، بالتالي؛ لم يعد مهماً لدى المواطن الفرنسي الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
يبدو أنّ الفرنسي، اليوم، يسعى للخروج من العبودية، قد يستشكل علينا البعض بالانتخابات الحرة والنزيهة؛ فهل هذا يفيد مواطناً أصبح رهينة لدى المؤسسات الرأسمالية؟
اقرأ أيضاً: الدولة من عصور الغلبة إلى الديمقراطية
لقد مرّ مفهوم دكتاتورية الخبراء سريعاً، وسط زحمة مفهومين مركزيين؛ دكتاتورية البروليتارية، والديمقراطية الليبرالية، غير أننا اليوم قد نقف على مفاهيم جديدة بعد شيخوخة الديمقراطية، التي لا تقل عن الدكتاتوريات في السيطرة، إذا كانت الأولى تسيطر بالقوة والسلاح؛ فإنّ الثانية تسيطر بالهيمنة على صناعة القرار وإخضاع المواطن لها، تحت عناوين شتى، ليصل إلى مواقع اتخاذ القرار المدافعون عن جماعات المصالح، ويتحول المواطن في هذه اللعبة إلى عبد يتم استغلال صوته.
قديماً، قال ماركس: "تمّ خلق البرلمان للتهريج، أما القرارات فتصاغ في مكاتب الشركات"، وما تزال القرارات تصاغ في مكاتب الكارتيلات الكبرى، وفي البرلمان تتم المصادقة عليها.
اقرأ أيضاً: حدود السلطة، حدود الديمقراطية وأبعاد التنوير
يخرج الناس من أجل مطالب صغيرة، لكن الأحداث قد تفجر أسئلة ضخمة، أحياناً لا تتوفر القدرة على مصاحبة التطورات بالأفكار، فتنتج عنها كمية كبيرة من التسطيح، تقتل القديم ولا تلد إلا كائناً مشوّهاً.
تحدّث مفكرون كثيرون عن نزع السحر عن العالم، وقد تولى الفيلسوف الفرنسي، مارسيل غوشيه، التصدي لهذا الموضوع، في كتاب حمل العنوان ذاته، وكان أول من استعمله ماكس ويبر، على مستوى الدقة المفهومية، وإلا فهو مفهوم قديم، الغرض منه بناء رؤية جديدة للعالم، وتوليد آليات جديدة للتعاطي معه، تعتمد على العلم والمعرفة دون غيرهما.
سحر الديمقراطية أعمى العيون لزمن طويل عن الممارسات الاستبدادية التي تتم باسمها
لقد اختفت المفاهيم التي كانت تُظهر العالم بسحره القديم، لتولد مكانها مفاهيم جديدة، من بينها مفهوم الديمقراطية، هذه المفاهيم الجديدة اتخذت لها طابع العالم الساحر.
سحر الديمقراطية أعمى العيون لزمن طويل عن الممارسات الاستبدادية التي تتم باسمها، الديمقراطية تمنح المواطن حقاً واحداً لا أكثر؛ حقّ التصويت لمن يشاء، هذا دون الحديث عن أساليب التأثير والسيطرة على الإعلام، كما تكلم عنها تشومسكي، لكنّ الفائز بتلك الأصوات يستعملها حيث تشاء مصالح الكبار، ولا يهتم بتاتاً بمصالح الهيئة الناخبة؛ فما قيمة الديمقراطية؟!
لم يتبقَ للديمقراطية من قيمة، بعد أن نزعت عنها الحركات الاحتجاجية سحرها، ومن المؤكد أنه بعد أن تهدأ العاصفة، سواء حققت السترات الصفراء بعض أهدافها، أو فشلت في ذلك، سيتم تفجير العديد من الأسئلة، التي ستحتاج إلى زمن من الأجوبة.
ما قيمة الديمقراطية والحرية في غياب العدالة الاجتماعية؟
اقرأ أيضاً: إشكالية الديمقراطية في العالم العربي
رؤية الفرنسي اليوم، التي هي رؤية عامة؛ هي أنّ الديمقراطية لا تتحقق دون توزيع عادل للثروات، وتحقيق مستوى من المساواة الاجتماعية، حتى لو كانت تحت سقف الرفاهية؛ الأسئلة الصعبة اليوم: ماذا بعد أن شاخت الديمقراطية ونُزع عنها سحرها وجمالها؟ وأيّ شكل من أشكال النظام سيعوض رحيلها؟
مشكل الديمقراطية اليوم؛ أنّها هرمت حتى ظهرت تجاعيدها، وهي تحتضر، أو على أبواب الموت، المفاهيم مثلنا لها حياة وموت، تولد من رحم المعنى، وتنمو وتشبّ وتكبر وتهرم وتموت؛ لهذا يبقى حتمياً ميلاد مفهوم جديد، وإلا سيعيش العالم أمام شبح اسمه الديمقراطية، بعدما يتم تحنيط جسدها الميت، ستكون جثة بلا معنى أو روح.