تكرار الدعوة لأمر ما يعني أن الدعوة أو الدعوات الأولى فشلت أو لم تتم الاستجابة لها. لذلك كرر المسلمون الدعوة مرة أخرى وضمن ظروف مختلفة. ومن الواضح عدم وجود اتفاق واقتناع كاملين بسبب عدم انتشار الدعوة واستمراريتها. إذ يختلف المهتمون من البداية حول مفهوم ومصطلحات يفترض أن تكون بديهية، مثل: هل هو إصلاح أم تجديد؟ ويختلف الكثيرون حول: أهو تجديد للفكر الديني أم للخطاب أم للتراث؟ وهكذا يظهر التنافر من البداية قبل طرح القضايا الكبرى.
تحيط بنقاش موضوع التجديد أسئلة أولية هامة، مثل: هل دعوة التجديد تعبير عن رغبة شعبية عامة ومطلب جماهيري، أم مجرد اهتمامات نخبة أو مثقفين ومتخصصين؟ فقد يريد عامة الناس دينهم، كما هو كائن الآن، ويرونه قادراً على الإجابة عن كل أسئلتهم وحل كل مشكلاتهم، طالما هو صالح لكل مكان وزمان. وقد تفسر هذه الفرضية أسباب تعثر التجديد الديني.
لذلك من البداية لابد أن نتوقع فشل الدعوة الفوقية للتجديد، وعلى دعاة التجديد البحث عن آليات تمليك الدعوة للناس العاديين وأن تصبح دعوة التجديد شاغلاً حقيقياً لهم وجزءاً أصيلاً من همومهم. لكن هذه مهمة صعبة لأنها تطاول عملية تغيير المجتمع كله.
وهنا نمسك بأصل قضية التجديد وجذرها، فنحن نظن خطأ أن المشكلة في الرأس (الأفكار) ولكنها في الواقع الاجتماعي، فالمجتمعات العربية الإسلامية متخلفة وراكدة، وما زالت غالبية شعوبها تعيش تحت خط الفقر، وتتجاوز الأمية في أغلب دولها نسبة الـ70 في المئة، وتتفشى فيها الأمراض المستوطنة وتنعدم المياه الصالحة للشرب والسكن اللائق.
لا أقصد من هذا القول الشرطَ الميكانيكي بين البناء التحتي والبناء الفوقي، ولكنني أؤكد صعوبة أو استحالة أن ينتج مجتمع متخلف أو راكد تجديداً أو نهضة فكرية.
هل يعني هذا التوقف عن الدعوة حتى تتم عملية التنمية العادلة والمستقلة، أم أن هناك معارك فكرية وثقافية لا بد من خوضها للتمهيد لتأسيس ظروف التجديد؟ من المعتاد أن يطرح مطلب التجديد أو الإصلاح في أحوال الأزمات أو ظهور تحديات جديدة تتطلب استجابة مناسبة، فالدعوات السابقة جاءت مع ظهور خطر خارجي (منذ الصليبيين وحتى الاستعمار الفرنسي ثم البريطاني والخطر الصهيوني والإمبريالي الأميركي)، ويأتي التحدي الحالي كاسحاً وخطيراً يتمثل في العولمة.
لقد ارتبطت دعوة التجديد بسؤال النهضة: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وكان رد البعض سهلاً، وهو أنهم تخلوا عن دينهم فتخلى الله عنهم. وهذا التيار يمثل السلفية في الفكر الإسلامي، لأنه يعتقد أن مستقبل المسلمين خلفهم لأنهم لن يفلحوا إلا بما أفلح به الأولون لتمسكهم بالكتاب والسنة، وظلت المرجعية هي السلف الصالح. هذا وقد طبعت هذه الماضوية البنية الذهنية لأغلب المسلمين حتى اليوم، وهذه عقبة كؤود في طريق أي تجديد.
يواجه الواقع المسلم المعاصر تحدي العولمة الذي يخالف في وقعه التحديات الماضية. فهو لا يأتي بأساطيله وجيوشه وإرسالياته ومدارسه، فالعولمة تدخل مباشرة إلى غرف نومنا في شكل تلفاز ولاب توب أو موبايل أو طعام توصيل - كنتاكي أو بيتزا، فالعولمة صارت كالقدر الإغريقي لا نقدر على صدها أو ردها بل نكتفي بطلب اللطف.
تلقي ظاهرة العولمة على عملية التجديد الديني عبئاً فكرياً ثقيلاً على عاتق المسلمين، خاصة مع غياب الأدوات المعرفية القادرة على فهم الظاهرة ثم مواجهتها. وهنا يبرز السؤال المركزي: ما هي القوى الاجتماعية المؤهلة للقيام بعملية التجديد؟ أو بطريقة أخرى ما هي النخبة أو الطليعة القادرة على التصدي لمغامرة اجتراح تحديد جذري وحقيقي وليس شكلانياً؟ ومن الغفلة اعتقاد أن المؤسسة الدينية يمكن أن تقوم بعملية التجديد، لأن في ذلك نوعاً من الانتحار الذاتي، فالتجديد نسف لسلطتها المعرفية والدعوية، وقد حصنت نفسها بالتأكيد ونجحت في احتكار صفة «أهل الذكر» وقصرتها على نفسها. وهي تتصدى لكل من يقترب من القضايا الدينية بالقول بوجود شروط ومؤهلات معينة لا بد من توافرها، بدءا بمعرفة أسرار اللغة العربية. وهذا شرط تعجيزي يصعب تحديده أو قياسه بصورة مطلقة.
ويتميز رجال المؤسسة بعنفهم اللفظي وقدرتهم على تخويف المخالفين، وهذا الموقف المضاد لأي حوار أو تطوير لنقاش أو فكر، يعود ليقينهم بأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة ويحرَّم عليهم المساومة فيها أو التساهل. وقد أشهروا أسلحة التكفير والرّدة وتهمة ازدراء الأديان في وجه كل من يدعو للتجديد أو ينقد فكرهم الخاص الذي يعتبرونه هو الإسلام، وأن كل من ينقده يريد هدم الدين، كما يحوّل بعضهم، في إطار الإرهاب الفكري، كلمة «تجديد» إلى «تبديد» الفكر الديني.
وقد نجحت هذه الاستراتيجية في تحجيم محاولات التجديد والإبداع، إذ فرضوا ظاهرة التراجع أو الانسحاب عن المواقف الفكرية لأشخاص كطه حسين وعلي عبدالرازق وخالد محمد خالد، بالإضافة للتوقف المبكر وعدم مواصلة المشروعات الفكرية الجزئية. فقد توقف حسن حنفي عند عدد واحد فقط من «اليسار الإسلامي» وتوقف ليث كبة عن إصدار «إسلام 21»، وكذلك مجلة «الاجتهاد» لفضل شلق، ومجلة «المسلم المعاصر»، و «منبر الحوار»، و «المنار الجديد» وغيرها، ولم ينجح تنظيم «الإسلاميين التقدميين» التونسي، على رغم خطابه التجديدي التقدمي، بأن ينتشر جماهيرياً وينافس حزب «النهضة».
فمن الواضح أن التجديد الديني في بلادنا متعثر وعاجز ومستعصٍ على التحقق، ويعود ذلك في الأساس إلى ضعف التطور المجتمعي والسياسي. ففي أميركا اللاتينية حيث يحتدم الصراع الطبقي وتصعد الأحزاب اليسارية والاشتراكية، توصلت تلك المجتمعات إلى أفكار لاهوت التحرير وتم تحريك كثير من ثوابت الكنيسة على رغم سطوتها. وهذا يعني أن معركة التجديد الديني هي نضالات كثيرة في ميادين عدة.
حيدر ابراهيم علي-عن"الحياة"