صنع الله إبراهيم لـ"حفريات": رجال الدين لا يحلون المشكلات بل يفاقمونها

صنع الله إبراهيم لـ"حفريات": رجال الدين لا يحلون المشكلات بل يفاقمونها


05/04/2018

رجال الدين لا يقدمون حلولاً للمشكلات التي نعاصرها، على العكس، فإنّ منهم من يزيد عملية الغليان المجتمعي في مصر ويفاقمها، بينما يكمن الحل في حصر الدين داخل دور العبادة، وعدم التدخل في علاقة تجمع الإنسان بربّه، تحت أيّة مظلة دينية، هذا ما يراه الروائي المصري صنع الله إبراهيم، صاحب "العمامة والقبعة"، و"التلصص"، ورائعته "ذات"، الذي رصدت تفاصيل المجتمع المصري في تحولاته، إبان نكسة 1967.

في "ذات" تعمّد إبراهيم تتبّع تلك العوامل الخفية التي تسللت ببطء إلى عقول المصريين، فأطاحت بالسمات الأصيلة فيه، إضافة إلى الغزو الثقافي الذي أحدثته تيارات دخيلة على المجتمع، هي في الأصل تيارات مرفوضة من غالبية المصريين، لكنّها استطاعت خلق ثقافة مهجّنة، لا هوية لها، وهو ما نعانيه الآن.

صنع الله إبراهيم يرى أنّ تجديد الخطاب الديني في العالم الإسلامي، ليس سوى "وهم" تقوده المؤسسات الدينية، ولا يمثل إلا "ترقيعاً" للمشكلة، لتعود الحالة إلى أسوأ ممّا كانت عليه.

إبراهيم: الأعمال الركيكة وحدها هي ما تساعدنا في تخيُّر الأعمال الجديدة، وتستطيع كشف الإبداع الحقيقي بسهولة

ويقارن إبراهيم، مصر سابقاً، بما يتكشّف من ظواهر عنف طائفي، وضغائن مجتمعية، ليخلص إلى أنّ تلك الضغائن ليست شيئاً أصيلاً في مصر، فالصداقة الحميمة، ورفقة السجن وسنوات العمر، لم تجمعه سوى بصديقه القبطي، الكاتب والروائي رؤوف مسعد، فالطائفية عرفها المصريون، في رأيه، منذ أن أطلق نظام السادات العنان لتيارات الإسلام السياسي، التي أشعلت الفتن حتى داخل الأسرة الواحدة.

يضع صنع الله إبراهيم، المجتمع المصري داخل إطار يصنعه المبدع، ليراه بعيني الناقد المحب، الشاهد على تلك التقلبات الفكرية والأيديولوجية، التي عملت على جعل المجتمع أكثر هشاشة، وليبرهن على أنّ ما نراه الآن يحدث، سواء على الساحة السياسية أو الثقافية، لا يليق بشعب مصر ونضاله عبر السنين، ولا بدماء الشهداء، وهو ما أعرب عنه الروائي المصري إلى جانب قضايا أخرى مثيرة في حواره مع صحيفة "حفريات".

وهنا نص الحوار الذي أجري في القاهرة الأسبوع الماضي:

تزاوج الأدب بالسياسة

كتاباتك الأدبية اتّسمت بقدر كبير من التأريخ السياسي، كيف ترى دور الأدب وأهميته في تكوين الوعي السياسي لدى الشعوب. ولماذا اخترت هذا اللون من الأدب تحديداً؟

الكتابة الأدبية يجب أن تشمل كلّ مظاهر حياتنا، والسياسة أحد أهم الجوانب التي تنعكس على حياتنا اليومية، فرغيف الخبز الذي يتناوله كل مواطن سياسة، مطبات الشوارع وزحام المرور سياسة، كلّ النواقص التي نواجهها سياسة، فلا بدّ أن تنعكس السياسة على كتاباتي الأدبية، كما أنّ الفترة التي نشأت فيها اتسمت بالتقلبات السياسية والإقليمية، كان لزاماً عليّ أن أتأثر بما يحدث حولي، فأنا لست سوى نتاج هذا المجتمع، الذي استفزّني كلّ ما فيه، لأكتب أدباً سياسياً بالمقام الأول.

والأدب بطبيعته، منذ وجوده، سهل الوصول إلى أفئدة الناس، فأيّ إنسان سهل أن يستمتع ويستمع إلى قصة جيدة أكثر من مقال سياسي، خاصة أنّ الأدب يجد فرصاً أكثر للتعبير بحرية أكثر عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية، بشكل مختلف عمّا تعبّر به المقالات أو التنظير السياسي.

هل ترى أنّ ثمة طفرات بالمشهد الثقافي العربي، بعد ثورات 2011، وأنّ الحراك إن لم ينتج تغيراً جذرياً في المشهد السياسي، فقد خلق واقعاً ثقافياً بطبيعة مختلفة؟

هناك نهضة ثقافية متمثلة في التعبير الأدبي والفني عن التطورات الحادثة، مواكبة لفشل هذه التحركات الثورية، وهناك زخم في الإنتاج الأدبي والفني، وهناك محاولات لتخطي المحظورات التقليدية الموجودة في هذا المجال، لكنّها تفشل نتيجة تعرّضها لقمع شديد.

إبراهيم: لم نكن نحلم بأن يأتي يوم يسقط فيه طواغيت العرب بهتافات شبابية بالميادين تفتح صدورها لتلقي الرصاص

يوجد أيضاً نوع من الإفلات من هذا الحصار، وظهور كثير من الأعمال التي تنبئ بتقدم كبير، لا شكّ في أنّ كثيراً من الأعمال رديئة، وتمثل ركاكة أدبية، ولها قرّاؤها، لكنّ الأعمال الركيكة وحدها هي ما تساعدنا في تخيُّر الأعمال الجديدة، وتستطيع كشف الإبداع الحقيقي بسهولة، هذا الجيل الذي يختلف عمّا سبقه يتميز بجرأة شديدة في واقعه، الحياتي والثقافي، وهذا بفضل وسائل الاتصال الحديثة، التي جعلت المستحيل ممكناً، والبعيد قريباً، فلم نكن نحلم بأن يأتي يوم يسقط فيه طواغيت العرب، بهتافات شبابية في الميادين تفتح صدورها لتلقي الرصاص، أو نسمات الحرية.

عبدالناصر والسادات ومبارك

في رواية "ذات"، رصدتَ تحولات المجتمع المصري بعد الانفتاح الذي صنعه السادات، ومرحلة ما بعد الناصرية، هل تكمن المشكلة، في رأيك، في السادات، أم المقارنة تمت بين نظامين كلاهما سيئ بشكل ما؟

النظام الناصري، ذو التناقضات الكثيرة، حسم المشكلات الاجتماعية، فبدت محاولته ناجحة في بدايتها، وتمثلت في عملية التصنيع والتحديث الشاملة، وهي عملية تضمن في إطارها إذابة المشكلات الطائفية وغيرها. أمّا السادات فقد لجأ إلى استغلال النزعات الطائفية، لتدعيم حكمه، ومحاربة الاتجاهات الناصرية واليسارية الموجودة في المجتمع، وهذا ما ورثناه من عهد مبارك.

فالثورة المضادة التي قادها السادات، ومن بعده مبارك، قضت على فرصة تطوير هذه الظواهر، وكان هناك عزم وقرار على أن تتحوّل مصر إلى مجتمع استهلاكي، يبتعد عن مشروعات التصنيع، وكلّ ما يتعلق بها من تطوير، فنجد أنّه لم تكن ثمة محاولة جادة لمعالجة هذا الوضع؛ بل هناك إغراق في اتباع السياسة ذاتها، ومزيد من فتح مجال للشركات العالمية، والانصراف إلى مشروعات ضخمة لا علاقة لها بعملية التصنيع، وما إلى ذلك.

غلاف رواية "ذات"

التباس الوضع الداخلي بالإقليمي

لماذا لم تستطع المعارضة المصرية، بعد حراك 25 يناير، وحتى بعد إسقاط نظام الإخوان، تقديم بديل حقيقي يقنع الشعب بأنّ هناك إمكانية لتحقيق مطالب الثورة؟

نحن قوم لم نفهم بعد إدارة التعدد؛ فالتعدد تسعى إليه جميع المجتمعات المتقدمة، أما نحن فنقتل أي تعدد، حتى لو كان بين أبناء الأسرة الواحدة، فالقمع عملية مستمرة تواجه بها أيّة أصوات معارضة من جهة التشريد، ومنع الظهور الإعلامي، وكافة أنواع القمع التي تؤدي إلى خفض تلك الأصوات، ومنعها من الوصول إلى الناس، سواء عبر صحف أو قنوات أو حتى منصات إعلامية معارضة، يلتف الناس حولها لتوجيههم.

كما أنّ وجود الأبواق المستمرة للناس، وجعل المواطنين مخبرين على بعضهم لدى الأجهزة الأمنية، عملية تجهض أيّة محاولة لاصطفاف معارضة قوية، أو خلق أيّة بدائل، أو حتى تعددية سياسية، تستطيع تحسين المشهد الذي يبدو غاية في السوء.

في المقابل؛ هناك مشكلات تتعلق بالمعارضة نفسها؛ فالمعارضة تفتقر للتنظيم، وليس لها قيادة يلتف الشعب حولها، وتركت المعارضة مجالاً مفتوحاً أمام الناس للخلافات كي تمزقهم.

كيف تبدو لك القاهرة عام 2018، والقاهرة التي ولدت فيها في ثلاثينيات القرن الماضي؟

القاهرة تغيّرت للأسوأ، لدرجة أنّه يخيَّل لي سؤال: هل تموت القاهرة؟

المدن كأيّة ظاهرة إنسانية؛ تمرض، وتموت، وتتجدّد، وربما تُبعث في شكل جديد؛ لأنّ التطورات التي تعرضت لها، لم تساهم في عملية الحفاظ على شكلها الجمالي الواضح الذي كان موجوداً في فترات سابقة، فلا يمكن تجاهل تأثير الحروب التي فرضتها إسرائيل علينا، وأنّ كثيراً من المهاجرين الذين لجؤوا إلى القاهرة بعد قصف مدن القناة، كان نتيجة إخفاق النخبة، التي لم تسعَ إلى تطوير أية مدينة خارج القاهرة، فأصبحت الدولة مركزية، وتظلّ عملية التنمية المركزية غير قادرة على تغطية كافة نواحي الحياة، وعاجزة عن تلبية تطلعات العديد من الناس، مشكلات القاهرة الحقيقية لا يمكن حلّها، إلّا بوجود سلطة ديموقراطية منتخبة بشكل ديموقراطي، تتألف من طوائف عديدة، وتشارك فيها نخبة الخبراء والمثقفين الذين تنتجهم مصر يومياً بالآلاف.

وضع الدين في حيّزه الطبيعي

ما يُسمى بـ "تجديد الخطاب الديني" هل تعتقد أنّه يحمل حلولاً لمشكلاتنا الاجتماعية والحضارية، سواء في الداخل، أو مشكلات الحوار مع الغرب كمجتمعات ترتبط بماضيها بشكل كبير؟

"تجديد الخطاب الديني"، في رأيي، ليس سوى عملية ترقيع للمشكلة الأساسية، وهي أنّ ما يفعله الفهم الخاطئ للدين هو نواة مشكلاتنا كمجتمع شرق أوسطي، فمن خلاله نرى الفتن الطائفية، والصراع بين أبناء الدين الواحد، وصراع الأيديولوجيات مع بعضها، حتى إنّ أبناء التيار الإسلامي أنفسهم يتقاتلون فيما بينهم، وتختلف مرجعياتهم.

يجب وضع الدين في حيّزه الطبيعي وهو حدود علاقة الإنسان بربّه داخل دور العبادة

وإن كنت أرى أنّ الحلّ النهائي للمشكلة، هو وضع الدين في حيّزه الطبيعي، وهو حدود علاقة الإنسان بربّه داخل دور العبادة، لكن ما نراه من سيطرة المؤسسات الدينية، على حياة الناس، وحتى على الطابع السياسي للدولة، يجعل هذا أمراً مستحيلاً، فنحن مجتمعات تعيش لخدمة الدين، مع أنّ الدين نشأ فقط لخدمة الإنسان. إنّ ما دفع أوروبا نحو مجتمع أكثر تطوراً كان تنحية القساوسة، وكنيستهم، عن الحكم، وعن السيطرة على عقول الناس، فرغم أنّ العملية كانت بطيئة في البداية، لكنّ الأجيال الجديدة تدفع عملية التغيير للأمام.

.. وظاهرة الإرهاب. هل هي "مفتعلة"، كما يدعي بعضهم، أمّ أنّ الإرهاب ظاهرة عالمية أصبحت إحدى أولويات الأجندات السياسية حول العالم؟

الإرهاب ظاهرة، كأيّة ظاهرة اجتماعية، لها مقومات، وآليات وحلول، ينبغي أن تخضع للفحص والتنقيب، والقضاء عليها ليس بالسلاح وحده، حتى وإن جاز استخدام السلاح.

طبعاً، هناك إرهاب، لكن أنا أو أحداً من الشعب، وربّما أيضاً الكثير من أفراد الأجهزة الأمنية، لا نمتلك معلومات دقيقة حول هذا الأمر، فعلى سبيل المثال؛ يحدث موقف يؤدي إلى تصفية عدد من الناس، نسمع عنه عبر الراديو أو التلفاز، ولا نجد تفاصيل، فعمليات مشابهة لا بدّ من ألّا تمرّ هكذا ببساطة، يجب أن تقدَّم لنا تفاصيل أكثر، بالتالي؛ تنشأ لدينا الشكوك، لنبدأ بالتفكير في أنّ ما يحدث ليس سوى تبرير لحالة المجال السياسي المغلق، واستخدام الإرهاب فزّاعة للناس، فتغلق الصحف والقنوات والمنظمات، بحجة أنّنا نكافح الإرهاب.

ما دفع أوروبا نحو مجتمع أكثر تطوراً كان تنحية القساوسة، وكنيستهم، عن الحكم، وعن السيطرة على عقول الناس

يبقى التساؤل؛ إذا كانت الأنظمة السياسية تحارب الإرهاب بالسلاح منذ أعوام، فلماذا يزيد معدل العمليات الإرهابية، سواء داخل مصر أو خارجها، ولماذا لا تبحث الأنظمة عن حلول أخرى، تساعدها في القضاء على الإرهاب، هل لقلة الخبراء المتمكنين من تفسير ظاهرة اجتماعية سياسية، أم لأنّ الأنظمة تستخدم الإرهاب القائم لترسيخ وجودها؟

هذه تساؤلات لا يطرحها صنع الله ابراهيم الكاتب، إنّما هي أسئلة تخطر ببال كلّ مواطن بسيط، يفكر بحيادية بعيداً عن الأبواق الإعلامية التي تغسل عقول البسطاء.

الصراعات الطائفية

لماذا تزايدت العمليات الطائفية في مصر، وصارت أكثر عنفاً واختلفت في آلياتها، هل حمل ظهور الصراع الطائفي مغزى سياسياً؟

بالطبع هناك مشكلة، وهي مشكلة قديمة الأزل، لا أحد يُنكرها، ولا نستطيع أن نحلل سببها، لكنّ المؤكد أنّ جذور المشكلة نشأت حين احتكرت الأغلبية المسلمة كلّ شيء، ولم تترك للأقباط أبناء الأرض وشركاء الحرب والسلام سوى الفتات، فاحتكروا السلطة وتوابعها.

في مصر، نجد صعوبة شديدة في أن يتصدّر المجال السياسي شخص غير مسلم، ونجد أنّ الإذاعة والتلفاز منابر للإسلام فقط، فأنا لا أفهم كيف نذيع الأذان 5 مرات يومياً، ولا يشار إلى إذاعة الشعائر الدينية للطوائف الأخرى، إلّا مرة واحدة في العام، وبالتأكيد هناك نوع من التكاتف داخل السلطة ومنافذها، ضدّ أيّة طائفة دينية غير المسلمين، وأيّ إنسان يستطيع ملاحظة ذلك، في أيّ مكتب حكومي.

في مصر نجد صعوبة في أن يتصدّر المجال السياسي غير المسلم ونجد أنّ الإذاعة والتلفاز منابر للإسلام فقط

منذ فترة، زرت شركة المياه، وجدت في المكاتب كلّها ملصقات ذات طابع إسلامي، ولا يوجد أي ملصق مرتبط بدين آخر، مع العلم أنّ هذه المكاتب ملك للشعب المصري كله، ومن المفترض أن يعبّر كلّ طيف عن نفسه، لكنّ هذا لا يحدث، ولن يحدث، طالما أنّ هناك أغلبية لها كلّ الحقوق، وغابت عنهم مفاهيم المواطنة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد، وما لاحظناه في ثورة يناير؛ أنّ هناك نوعاً من الاختفاء التام لأيّة نعرة دينية، وظهور نوع من الوحدة التي لم تتحقق قبل ذلك، إلّا في ثورة 1919، وفي المعارك السياسية التي خاضها الرئيس عبد الناصر، هناك شكوك لها ما يبررها في أنّ السلطة وأجهزتها متحيزة للأغلبية المسلمة، وهذا ما يدفع أبناء الطوائف الثانية للهجرة ومغادرة البلاد.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية