الرئيس التونسي يعد بحوار وطني.. ولكن مع من؟

الرئيس التونسي يعد بحوار وطني.. ولكن مع من؟


06/10/2021

الحبيب الأسود

يقول الخبر إن الرئيس التونسي قيس سعيد أبلغ نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن حوارا وطنيا سيجري قريبا في تونس، لكن اللافت أن هذه المعلومة وردت في بلاغ قصر الإليزيه وغابت عن بلاغ قصر قرطاج بما يشير بوضوح إلى أهميتها كطلب ملحّ تقدم به ماكرون، ولكن دون أن تخرج عن دائرة الرد في صيغة مجاملة من الرئيس سعيد.

الأمر ذاته سبق أن حصل في السابع من أغسطس الماضي عندما أعلن بيان صادر عن الرئاسة الفرنسية أن الرئيس سعيّد تعهّد بتقديم خارطة طريق للمرحلة المقبلة وبأسرع وقت، وهو ما لم يتحقق إلى حد الآن. علينا أن ندرك أن الرئيس التونسي يرفض كل أشكال الضغط وهو عنيد عندما يتعلق الأمر بقناعاته ومواقفه، وهذا ما عبّر عنه في مناسبات عدة، ولكنه لا يريد قطع جسور التواصل مع الشركاء الأجانب.

أثار الحديث عن إمكانية الاتجاه نحو حوار وطني في تونس جدلا واسعا. كثر هم الذين دخلوا في مرحلة التخمين عن موعد الحوار والأطراف التي ستشارك فيه. البعض يحاول استعادة تجربة الحوار الوطني للعام 2013 التي قادتها أربع منظمات وطنية توجت بجائزة نوبل للسلام للعام 2015، وهي الاتحاد العام التونسي للشغل (العمال) والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة (أرباب العمل) وعمادة المحامين والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، لكن ذلك الحوار وإن كان نجح في حينه في تجاوز أزمة طاحنة بعد اغتيال الزعيمين المعارضين لحكم الإخوان وهما شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وأخرج البلاد من احتمالات الانحدار نحو مربع الفوضى الشاملة، إلا أنه كان السبب في التصديق على دستور 2014 الذي أدى إلى أغلب الأزمات اللاحقة، كما كان وراء تدوير مشروع الإسلام السياسي الذي تجسد في تحالف حركة النهضة مع نداء تونس كنتيجة لضغط دولي كان من أبرز علاماته اللقاء الغامض الذي جمع في أغسطس 2013 بين راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي في باريس، والذي قاد البلاد إلى توافق كارثي كان أبرز ضحاياه حزب نداء تونس الفائز في انتخابات 2014 عندما اخترقه الإخوان من الداخل وشرعوا أبوابه لعواصف التصدع والانشقاق حتى أنه بلغ مرحلة التفكك قبل أن ينهي العهدة البرلمانية.

والواقع أن الرئيس قيس سعيد كان يتابع تلك الأحداث وغيرها بعين المحّلل والقارئ والمراقب، وهو يعرف أن الإسلام السياسي لا عهد له ولا ميثاق، ويدرك جيدا أن حركة النهضة تمتاز بقدرة تكاد تكون فائقة على استغلال مواطن الضعف ليس فقط في خصمها السياسي وإنما حتى في حليفها، وكل من تحالفوا معها خلال السنوات العشر الماضية انتهوا إلى الانهيار الشامل بدءا من حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بزعامة المنصف المرزوقي وحزب التكتل من أجل العمل والحريات بزعامة مصطفى بن جعفر ثم نداء تونس بزعامة الباجي قائد السبسي والاتحاد الوطني الحر لسليم الرياحي وصولا إلى قلب تونس بزعامة نبيل القروي الذي انتهى به الوضع موقوفا في سجن الحراش بالعاصمة الجزائرية.

ويضاف إلى ذلك أن قيس سعيد لا يحبّذ التعامل مع الأحزاب ولا يرى فيها مصلحة، وفكريا لديه قناعة بأن زمن الأحزاب ولّى، وهي قناعة بدأت تنتشر على نطاق واسع في أغلب الدول المعتمدة على نظام الديمقراطية التمثيلية بعد أن تراجع اهتمام المواطنين فيها بالسياسة والانتخابات، كما يحمّل سعيد أحزاب بلاده المسؤولية عن حالة الخراب التي وصل إليها الوضع، وعن انتشار الفساد وتحول البرلمان إلى حلبة صراع ومتاجرة بالولاءات وتستر على الفاسدين وتصديق على قوانين مشبوهة، وهو في هذا السباق يضع الجميع في سلة واحدة، ولا يرى أن حال تونس سيستقيم بالإبقاء على الوضع دون تغيير راديكالي، كما يرى أن القانون الانتخابي بشكله الحالي يساعد على الدفع بالفاشلين والفاسدين والانتهازيين للسلطة، وأن الدستور يحتاج إلى تعديلات جوهرية، وأن النظام السياسي المعتمد منذ العام 2011 غير صالح ولا يمكن التعويل عليه في تحقيق أي إصلاح، بل أن الرئيس ومن خلال مواقفه وتصريحات له، يبدو أنه لا يثق في النخبة السياسية الحالية ولديه انتقادات لجميع الأطراف تقريبا، وإن كان كثيرا ما يتلافى ذكر الأسماء أو المواقع من باب احترام المقامات كما يقول.

وحتى عندما كان عليه إجراء مشاورات سياسية لاختيار الشخصية التي سيكلفها بتشكيل الحكومة بعد الإطاحة بحكومة إلياس الفخفاخ في يوليو 2020، رفض الرئيس سعيد أن يستقبل ممثلي الأحزاب البرلمانية وأن يتحاور معهم مباشرة، وطلب منهم أن يوجهوا إليه مقترحاتهم مكتوبة لينظر فيها، وهو ما أكد أنه رافض لهم ولأحزابهم وسياساتها ومقترحاتها، وأنه لا يحبّذ التعامل معهم. يمكن أن نعود قليلا إلى الوراء، فعندما ترشح للانتخابات الرئاسية للعام 2019 تقدم بصفته مستقلا، وعندما انتقل إلى الدور الثاني تدافعت الأحزاب لدعمه دون أن يكون قد طلب منها ذلك، لقد كانت تعمل على استغلال اقترابها منه دون أن يبدي حماسة لذلك.

حتى بعض الأحزاب التي كانت تبدو وكأنها قريبة منه بالفعل، وهي قليلة العدد، لم تعد كذلك اليوم، فالرئيس يتجه نحو مشروع لا يريد له أن يرتبط بأي طرف حزبي، ويرفض بشكل مطلق أن يكون محسوبا على أي طرف أو أن يُحسب عليه أي طرف، ولاسيما في هذه الظروف التي يريد فيها أن يكون مستقلا عن الجميع، مكتفيا بأن لديه قاعدة شعبية واسعة تتجاوز الأحزاب ومجلس النواب، ومستعدا لتحمّل مسؤوليته في إدارة المرحلة القادمة وفق ما يراه صالحا ودون أن يكون في حاجة إلى الرأي أو المشورة من خارج الدائرة المحيطة به والتي لا تتميز فقط بأنها محل ثقته وإنما هي كذلك شريكة له في قناعاته الفكرية ورؤيته للمستقبل السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد.

نأتي للسؤال المهم: إذا كان الرئيس سيدخل في حوار وطني فعلا، فمع من سيكون ذلك الحوار؟ الجواب واضح ولا يحتاج إلى اجتهاد كبير: لن يتحاور لا مع الإخوان ولا مع غيرهم، لن يجلس مع الأحزاب ولن يحرج نفسه بتخيير زيد عن عمر، أو فلان عن علان، سيتشاور مع المنظمات التي ستكون على تماسّ مع الحكومة وعلى رأسها اتحاد العمال وأرباب العمل والفلاحين والمرأة، ومع منظمات أخرى كهيئة المحامين ورابطة حقوق الإنسان وجمعية نقابة القضاة، وسيعقد جلسات مع بعض الأكاديميين والخبراء في اختصاصات متعددة ذات علاقة بالدستور والاقتصاد والمالية، لكن المجال الأوسع سيكون للاجتماع بممثلي الشباب، ولاسيما في المناطق الداخلية.

الرئيس سعيد يرى أن مشروعه المستقبلي يعتمد بالأساس على الفئات الشبابية التي كانت وراء ترشحه للرئاسيات وفوزه بها، والتي يعوّل عليها في تنفيذ رؤيته الإصلاحية للمستقبل، وهي رؤية يدرك أنها ستصطدم بالكثير من الحواجز والعراقيل ولاسيما من الأحزاب وبعض اللوبيات، ولكنه سيسعى إلى فرضها من خلال الطبقات الشعبية التي يرى نفسه مؤتمنا عليها ومدافعا عن حقوقها المهضومة، وفي مقدمتها الشباب الذين سيكون لهم مركز الصدارة في أي حوار وطني قادم.

عن "العرب" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية