"خسرتُ حياتي"... سيرة داعية يتحسر على عمر ضاع في الإسلام السياسي

"خسرتُ حياتي"... سيرة داعية يتحسر على عمر ضاع في الإسلام السياسي

"خسرتُ حياتي"... سيرة داعية يتحسر على عمر ضاع في الإسلام السياسي


09/01/2024

تُكتبُ السّير الشخصية عادةً بشكل غير مفضوح. ويحاول كاتبها أن يتوارى عن الموضوعات الحادة والمنعرجات التي حدثت في مسيرته الحياتية، بشيء من الكناية أو التورية أو التطرق الجزئي لها دون الولوج في تفاصيلها، حفاظاً على قرابة معينة مع شخصيات تلك الأحداث، أو تاريخ لا يُراد أن تنكأ جراحه، أو سعي شخصي للاحتفاظ بسرديات لا ينبغي البوح بها للرأي العام.

وقلّما وجدنا كتّاباً دوّنوا ذكرياتهم، وتجاربهم، دون صِدام مع الماضي، أو مع شخصيات مرقتْ في حياتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية. بل قلّما وجدنا من استخدم منطق الوضوح والمكاشفات والتعرية في أحيان كثيرة. ونأخذ على سبيل المثال: الفيلسوف المصري عبد الرحمن البدوي، في ذكرياته التي كانت تصفية حساب مع الكثير من الفاعلين في حياته الأكاديمية والثقافية، وكذلك التونسي محمد شكري، الذي أصبح روائياً شهيراً عبر مدونته السردية المسمّاة "الخبز الحافي". وهي رواية كشفت عن قساوة الحياة الأسرية التي عاشها شكري ومعاناته مع السلطة الأبوية في حياته.

وعلى هذا الطراز الفضائحي، يكتب المفكر العراقي غالب الشابندر عن تجربته الفكرية والسياسية في حزب الدعوة الإسلامية، في مذكرات شغلت الرأي العام المحلي؛ حيث لم يسبق أن شغلت سردية شخصية الرأيَّ العراقي كما هي سردية الشابندر. ولربما يعود ذلك إلى جرأتها الحادة في نقد قوى الإسلام السياسي الشيعي، وتوقيت نشر هذه السردية الملائمة مع غضب العراقيين المتنامي مع من يحكم البلاد على مدار عقدين من الزمن.  

لماذا "خسرتُ حياتي"؟

يعنونُ الكاتب والداعية السابق غالب الشابندر ذكرياته بعنوان جدليّ فيه الكثير من الندم والتحسُّر على حياة قضاها في صفوف الحركة الإسلامية في العراق. "خسرتُ حياتي"، سردية (إصدار دار البيضاء في بيروت) تناولت خلاصة الجيل الإسلامي المؤدلج في إطار يرى "الإسلام هو الحل" ولا بديل عن ذلك.

غلاف الكتاب

وتُعدّ تجربة الشابندر تجربة الإنسان الداعية الذي خبر الحزبية العراقية، وحركات الإسلام السياسي الشيعي. وُلد المفكر العراقي في محافظة واسط عام 1947م، وانتمى في باكورة حياته إلى صفوف الحزب الشيوعي العراقي، لكنّه ترك اليسار العلماني، الذي انتمى إليه لرغبة عاطفية طبقية، إلى جهة اليسار الإسلامي، الذي تمثل بحركة "المسلمين العقائديين" في خمسينيات القرن الماضي. ومع اندثار تلك الحركة، انتقل للعمل ضمن حركة "جند الإمام" الشيعية، وهي حركة "مخلصة" لأفكار المرجع الشيعي محمد باقر الصدر (أُعدم عام 1980)، ليختم تنقلاته الحزبية مع صفوف حزب الدعوة الإسلامية، حيث كان من أبرز الكوادر الفكرية والثقافية للحزب.

هاجرَ الشابندر مع سائر الإسلاميين الشيعة إلى دولة الكويت، حينما اعتلى صدام حسين سدة الحُكم عام 1979م، هرباً من الملاحقة الأمنية التي طالت الخصوم السياسيين لحزب البعث الحاكم حينذاك. وبُعيد انتصار الثورة الخمينية في إيران، انتقل للعيش كلاجئ سياسيّ في العاصمة طهران، ومن ثم مدينة قم، ليستقرّ به المطاف في دمشق، بعد أن طردته السلطات الإيرانية نتيجة خطابه المناوئ لخطاب "الجمهورية الإسلامية" الذي يعتبره غالب الشابندر خطاباً قومياً في باطنه ومقاصده. واستقرّ به المطاف في التسعينيات لاجئاً سياسياً في السويد، ومن هناك بات يناوئ سلطة البعث التي انهارت على يد الأمريكان وحلفائهم في نيسان (أبريل) 2003، ومن ثم سلطة رفاقه في قوى الإسلام السياسي الشيعي، وتحديداً مظلة حزب الدعوة الإسلامية. للشابندر عدد من المؤلفات، منها: كتاب العقل (3) أجزاء، نقد أخبار السيرة النبوية (جزآن)، تفسير القرآن الكريم (قراءة معاكسة)، ماذا يجري في العالم (كتاب سياسي)، الحجاب في الإسلام - قضية ساخنة، العودة إلى الرصيف (رواية أدبية)، الأب القاتل (رواية أدبية).

عدم إيمانهم بالديمقراطية

وفي طور تناوله لعقيدة الإسلاميين السياسية، وكيفية علاقتهم بالدولة والنظام الديمقراطي الجديد، يؤكد الداعية السابق غالب الشابندر أنّ مجمل العاملين في الحركة الإسلامية العراقية، وحزب الدعوة على نحو الخصوص، لا يؤمنون بالديمقراطية، بوصفها آلية حقيقية للسلطة المنتخبة من قبل الجماهير. ويرى في سيرته المدوية بالفضائح لماضي المعارضة العراقية لسلطة صدام حسين، أنّ أفكار الرفاق العقائديين تحرّم الديمقراطية، وحقوق المرأة، وكافة الأنساق التي تكمل الحداثة المجتمعية، وعلمنة الدولة.

ويقول في الحلقة الـ (15)، التي تتناول العقيدة السياسية لرفاق الأمس: إنّ "أفكار الإسلام السياسي تُحرِّم العمل بالديمقراطية، وتلعن من يقول بالمسار الآلي الديمقراطي، وليس المضمون الاجتماعي الديمقراطي، كما أنّها تحرّم مصافحة المرأة الأجنبية".

هاجرَ الشابندر مع سائر الإسلاميين الشيعة إلى الكويت حين اعتلى صدام حسين سدة الحُكم عام 1979 هرباً من الملاحقة الأمنية

ويكشف الشابندر في ذكرياته عن تناقضات الإسلاميين بعد استلامهم السلطة: "بعد الحكم أصبحت الديمقراطية من جوهر الإسلام، بل هي الإسلام. حتى أنّ الداعية خضير الخزاعي (الوزير والنائب السابق لرئيس الجمهورية) كان يقول: إنّ الديمقراطية فُرضتْ علينا، فيما أسمعهُ بملء سمعي بحوار معه يمتدح الديمقراطية، ويزينها بما هو شائن في صميمها، أرأيتم النفاق؟!".   

إعلام إيران

ويتناول الإسلامي الشيعي غالب الشابندر في إحدى حلقاته بكتاب "خسرتُ حياتي"، موضوع الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، وكيف كان الإعلام الإيراني الناطق بالعربية ينشر أخباراً غير صحيحة بشأن تنفيذ عمليات مسلحة ضد النظام العراقي في حينها. بل يتهم الكاتب هذا الإعلام بـ "الكذب" وتزوير الحقائق لصالح النظام الإسلامي في إيران، ويلقي بشيعة العراق في الهلاك والمواجهة غير المتكافئة مع سلطة صدام حسين القاسية.

ويسرد ما كانت تفعله محطة الإذاعة الإيرانية أيام الحرب: "(عراق اليوم يبحث عن الحسين). كان هذا هو عنوان البرنامج اليومي الذي تبثه الإذاعة الإيرانية في طهران باللغة العربية. وقد كان لهذا البرنامج الدور الكارثي على الشعب العراقي، حيث كان البرنامج يحدد الجغرافيا التي يسلكها (المجاهدون العراقيون) فيما أرادوا الهروب من العراق إلى إيران، فيقصف بالطائرات في اليوم التالي، وتسدّ منافذه". ويضيف أنّ "البرنامج كان يتحدث أحياناً عن كيفية صنع قنابل يدوية وما شابه ذلك، وقبل هذا وذاك، الأخبار المبالغ بها عن (العمليات الفدائية) التي ينجزها (المجاهدون). وتبيّن فيما بعد أنّ أكثرها أخبار باطلة. وكان لها تأثير سلبي على الشعب العراقي، حيث كانت أجهزة صدام حسين تقدم على شنق وإعدام المئات من شبابنا في السجون، مع كل خبر يصدر من الإذاعة يفيد بأنّ عملية جهادية حصلت هنا أو هناك في العراق". 

الخلاص من الهيمنة

ويختم صاحب "خسرتُ حياتي" مذكراته التي تناولت الماضي القاسي الذي عاشه الإسلامي العراقي في أجواء إيران الإسلامية، محمّلاً تلك القيادات مسؤولية ما حدث وما جرى للعراقيين أيام المعارضة والسلطة معاً. ويرى أنّ جهود المناضلين ذهبت بعد سرقة النضال السياسي لصالح محاور حزبية معينة، تقف إيران من خلفهم. ويؤكد الحاجة إلى ضرورة تحرير الشخصية العراقية من تلك الهيمنة.

يرى أنّ جهود المناضلين ذهبت بعد سرقة النضال السياسي لصالح محاور حزبية معينة، تقف إيران من خلفهم

ويسرد الشابندر كيف تم الإجهاز على الروحية العراقية لدى الدعاة القاطنين في إيران، وكيف "ساهمت قيادات العمل الإسلامي بعد انتصار الثورة في قتل شخصية المجاهد العراقي، وقد مرّت عملية السلب هذه عبر خطوات ومفاصل، بجهود إيرانية وعراقية، محاولات مباشرة وغير مباشرة، وحتى الآن ما تزال الشخصية (المجاهدة) عبيدة هذا السلب".

ويعتقد الداعية السابق أنّه "إذا لم يكن هناك عمل جاد على تحرير هذه الشخصية من جديد عبر منهج فكري وعملي وسياسي، فستبقى جسراً لمشروع الأغيار، وبقرة للذبح، وسيبقى العراق فيما بعد صريع التخلف والذيلية والانهيار الاقتصادي والسياسي والفكري والاجتماعي".

مواضيع ذات صلة:

الإسلام السياسي: كيف تحولت آراء الفقهاء السياسية إلى "شريعة"؟

دولة جماعات الإسلام السياسي المستحيلة.. لماذا؟

هكذا فكّك المؤرخ ابن إياس أوهام الخلافة العثمانية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية