أكثر من ستين بالمئة ممن تركوا الجماعة مهيّؤون في أي وقت للعودة إذا عادت الجماعة مجددا إلى المشهد، نظرا لافتقارهم لمشروع نقدي للأصول الفكرية.
لم تأل جماعة الإخوان جهدا في استخدام جميع الوسائل الملتوية للضغط على كوادرها المنفصلة للعودة إلى حضنها، ولم تتوقف عن محاولات احتواء معلني التوبة وإجبارهم على العودة والرضوخ لتعليماتها، مستخدمة الروابط الاقتصادية والإعانات التي تقدمها لهم لدعم أعمالهم ومشروعاتهم، حتى تحافظ على كيان التنظيم.
شهود بمدينة قويسنا في محافظة المنوفية شمال القاهرة، نقلوا لـ“العرب” قصة عائلة إخوانية موّلت لها الجماعة مشروعا خاصا بمتجر لمواد التنظيف قبل أن يتم إلقاء القبض على أفرادها -أحدهم إمام مسجد- في العام 2013.
قدمت العائلة في هذه الأثناء ما عرف بإقرارات التوبة التي خرج بموجبها الآلاف من مظلة التنظيم، لتباشر العائلة إدارة المشروع، لكن من واقع الزعم بأنه ملك خالص لها وليست للإخوان علاقة به، ثم تبرّأوا من صلتهم بالجماعة وتوسعوا في التجارة ليفتتحوا إلى جانب المشروع الأول متاجر أخرى.
اطلعت “العرب” من مصادر خاصة على قصص واقعية لأسر انتمت في السابق إلى جماعة الإخوان، وتعاني حاليا من أوضاع اقتصادية صعبة، الأمر الذي لعب دورا في قرار ترك أعداد منها للجماعة والتخلي عن أفكار الجماعات المتشددة.
وضع البعض من المراقبين العامل الاقتصادي والمعيشي في مقدمة دوافع ترك الجماعة والانخراط في مشاريع تجارية ومضاعفة ساعات العمل.
بعض الأسر التي ازدادت فقرا ألحقت أبناءها بالقتال في سوريا وليبيا في صفوف تنظيمات مسلحة هناك، وبعضها ترك الجماعة وانتقل إلى مستوى أقل في المكانة الاجتماعية، لكن ظلت النسبة الأقل ضمن الكتلة الساكنة التي تمتنع عن إبداء مواقف معلنة تجاه الأحداث السياسية الجارية.
قال مختار نوح القيادي السابق في جماعة الإخوان إن نشاط الجماعة الخيري تضـاءل، وألغيت العـديد مـن الأعمـال الخيرية والاجتماعية، وهو ما صاحبه فتـور في حمـاس الشبـاب لأن يضحي وينصح، مـؤكدا على أن نسبة تقارب الـ60 بالمئة تركت الجماعة.
في المقابل، وجد مراقبون وقيادات شابة سابقة بجماعة الإخوان أن العامل المادي يأتي تابعا لعوامل أخرى جوهرية، بالنظر إلى أن هناك العديد من أعضاء الجماعة لم يكونوا مستفيدين ماديا منها وتخلوا فعليا عنها، بعدما تكشفت لهم الكثير من الحقائق، وبعد اعتناقهم قناعات جديدة.
العامل المادي وفق رؤية البعض من الخبراء، كان مؤثرا بشكل رئيسي في حالة رجال الأعمال والتجار الكبار داخل الجماعة، ممن رأوا أن الصراع الذي تخوضه ضد الدولة سوف ينعكس سلبا على مستقبل استثماراتهم، فاضطروا إلى إعلان التبرّؤ منها.
عماد علي، وهو الذي قاد مراجعات شباب الإخوان مؤخرا في سجن الفيوم جنوب القاهرة، رأى أن أزمة الجماعة الاقتصادية أسهمت في تقييد حركة المراجعات عندما وظفت قيادات الجماعة ورقة الإعانات المالية في الضغط على الأعضاء، بالنظر إلى أن نسبة كبيرة منهم تمّ فصلهم عن وظائفهم الحكومية، وليس لأسرهم مورد بديل عن مساعدات الجماعة.
ولفت عماد علي لـ“العرب” إلى أن القيادات قامت بحرمان البعض من الأعضاء من الإعانات المادية التي بدأت الجماعة في صرفها عقب أحداث 3 يوليو 2013 ممن تجاوبوا مع فكرة المراجعات التي طرحها الشباب.
وشدد على أن نسبة كبيرة من الأعضاء تجاوبت مع أطروحاتهم النقدية التي طالت الأفكار المؤسسة لمشروع التنظيم، لكنهم رضخوا لإرهاب القيادات وابتزازهم نتيجة ظروفهم المادية الصعبة.
فضلت قيادات الجماعة صيغة إقرارات التوبة، وطلب العفو بعد انتشار فكرة المراجعات، ولا تترتب على الأولى شيوع حركة نقدية تخلق انشقاقا مؤثرا قد يهدم بنية التنظيم فينفض أعضاء الجماعة من حولهم.
ورأت القيادات في السماح لخروج الأعضاء من السجون نتيجة لإقرارات توبة ذات أثر فردي محدود، أهون من خروجهم نتيجة حركة مراجعات نقدية تشق صف الجماعة وتربط الانفراجة التي حدثت لهم بمسار تحكمه أفكار مناهضة لمشروع الجماعة الفكري.
منشقون عن جماعة الإخوان وجدوا أن نسبة تقارب العشرين بالمئة ممن تركوا الجماعة حتى لو لم يعلنوا عن ذلك صراحة، أجروا فعليا مراجعات تمتد لنقد الأفكار المؤسسة لمنهج التنظيم، بناء على رؤية ترى أن الأخطاء التي وقعت فيها الجماعة هي في الأساس نتيجة لخلل في الأصل الفكري. مقابل نسبة أكبر تقارب الستين بالمئة جمدت عضويتها، على خلفية قناعة مفادها أن هناك أخطاء وقعت فيها قيادات الجماعة بشأن أسلوب إدارة التنظيم وطبيعة تعاطيه مع الأحداث منذ يناير 2011.
هذه النسبة لا تربط مأزق الجماعة الحالي بأصول الخلل الفكري الضارب في بنية المنهج، إنما تفسره بتواضع مستويات القيادات الحالية السياسية والإدارية ولأخطاء مرحلية وقعت فيها القيادة.
لذلك وجدوا أن النسبة الأكبر ممن تركوا الجماعة مؤخرا مهيّؤون في أي وقت للعودة إذا تغيرت الأمور وعادت الجماعة مجددا إلى المشهد، بالنظر لافتقارهم لرؤية شاملة تمكنهم من امتلاك مشروع نقدي للأصول الفكرية يقود لانتقالهم بالكامل خارج إطار فكرة الإسلام السياسي. ويربط البعض من المحللين بين تعاظم ظاهرة الإسلام السياسي في الثمانينات بتفاقم الأزمة الاقتصادية وهيمنة القيادات الأصولية على قطاعات عريضة من النشاط الاقتصادي عن طريق البنوك وشركات الاستثمار الخاصة.
كانت جماعة الإخوان قد نشطت طوال عقود بعد خروج أعضائها وقادتها من السجن في عهد الرئيس الراحل أنور السادات في تأسيس ما يشبه الدولة الموازية بمشاريع استثمارية تضم مدارس وشركات ومستشفيات خاصة.
التوسع في النشاط الاقتصادي وفر للجماعة فرص تعويض للجمود الفكري على منهج سيد قطب وحسن البنا دون تطوير بالنظر إلى سيطرة الجناح المتشدد على قيادة الجماعة، بمنح الهبات المادية والإسهام في العديد من الأنشطة الخيرية لقطاع واسع من المؤيدين والمتعاطفين مع الجماعة.
مع دخول الجماعة في أزمتي السجن والهروب إلى الخارج وبروز النزاعات على القيادة بعد عزل الجماعة عن السلطة في مصر، بدأت مرحلة ممارسة الضغوط والابتزاز باستخدام المال، وكان مصير من يخالف رؤية الجماعة الحرمان من الدعم والإعانة.
وشدد خبراء في شؤون الحركات الإسلامية على أن الأزمات الاقتصادية لم تحل دون وقوف غالبية المصريين بجانب الدولة في مواجهة جماعات التطرف وتيار الإسلام السياسي.
هشام النجار-عن"العرب" اللندنية