الحياة على ذمة الموت: عائلات غزاوية تعيش في المقابر

الحياة على ذمة الموت: عائلات غزاوية تعيش في المقابر


29/11/2021

في منزل متهالك مكوّن من غرفة واحدة، تغطيه ألواح معدنية، وسط مقبرة الشيخ شعبان، وسط مدينة غزة، يسكن الفلسطيني صلاح الغربي، وعائلته المكوّنة من ثمانية أفراد، حياة الأموات، بعد أن ضاقت بهم أرض الأحياء، وتُركوا يزاحمون الأموات والعيش إلى جوار قبورهم، لتتلوّن حياتهم بالسواد الممزوج بنكهة الموت، بعد أن عصفت بهم رياح الفقر، رغم أنّ قلوبهم ما تزال تنبض بالحياة.

السيدة فاطمة كحيل تعيش في المقبرة وتداوم منذ فترة على تناول الأطعمة الخفيفة، ولم تتناول عائلتها اللحم والدجاج منذ ما يزيد عن ثلاثة أشهر

ورغم رفض الغربيّ الحديث لنا عن معاناته في البداية، بعد تذمّره، بحسب قوله، من الصحفيين الذين لم يجلبوا له سوى العديد من المشاكل مع المؤسسات الحكومية التابعة لحركة حماس بغزة، نتيجة تسليط الضوء على هذه المعضلة في وسائل الإعلام؛ يسرد الغربي (48 عاماً) تفاصيل حياته البائسة، ويقول خلال حديثه لـ "حفريات": "منذ 27 عاماً وأنا أعيش، وعائلتي، داخل المقبرة، عندما لم أجد مكاناً آخراً يؤويني، فكان ذلك المكان خيارنا الوحيد، بعد أن أجبرتنا عليه الظروف المعيشية الصعبة التي يعانيها قطاع غزة"، ليصطدم بصره وعائلته كلّ صباح ومساء بشواهد القبور والأضرحة التي تتوسط منزلهم، وتغفو أعينهم إلى جوارها.

مقبرة الشيخ شعبان

وبحسب وزارة التنمية الاجتماعية بغزة؛ فإنّ نسبة انعدام الأمن الغذائي في صفوف سكان القطاع بلغت 70%، كما أنّ نسبة الفقر والبطالة وصلت، خلال العام 2019، إلى ما يقرب من 75%، في حين أنّ 33,8% يعيشون تحت خطّ الفقر المدقع.

ووفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطينيّ؛ فإنّ 68% من أُسر القطاع، لا تستطيع تغطية نفقاتها الشهرية (مستلزمات البيت الأساسية من غاز وفاتورة الكهرباء والماء والمأكل والملبس)، وتعود الأسباب للأزمات المركبة التي تعيشها غزّة.

اقرأ أيضاً: تردّي الأوضاع الاقتصادية يدفع سكان غزة إلى أفران الطين

ووصفت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، عام 2020، بالأسوأ في غزة، لا سيما بعد أن باتت الأوضاع أشدّ صعوبة، بعد أن شدّدت (إسرائيل) حصارها على القطاع، وأوقفت الكثير من الدول المانحة دعمها لسكان غزّة، وقلّصت المؤسسات الدولية من مشاريعها التشغيلية، وزاد الطين بلّة؛ الإغلاق الشامل في القطاع بعد تفشّي كورونا.

لماذا اختار المقبرة؟

وتابع الغربي، الذي يعاني من عدة أمراض مزمنة، والحسرة والألم يملآن قلبه، بأنّه "بعد أن ضاقت به السبل من قيام الجهات الرسمية والمؤسسات الخيرية بإيجاد منزل يؤويه وعائلته، اختار مساحة صغيرة من المقبرة، لا تتجاوز مساحتها 40 متراً، لبناء منزل متواضع من الحجارة المتهالكة والصفيح، لتتوزع بين جنباته عدة قبور، كغرفة النوم التي ضمّت داخلها قبرين، والمطبخ الذي يوجد فيه قبر تستخدمه زوجته لوضع الأواني عليه لضيق مساحته".

وصفت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، عام 2020، بالأسوأ في غزة

ولفت إلى أنّ "العيش داخل المقبرة ليس سهلاً، وكلّ شيء هنا يذكّرنا بالموت, حتى أطفالي تجدهم يلهون بين المقابر وشواهدها، لتسرق منهم أيّة لحظة من الممكن أن تشعرهم بالحياة كبقية الأطفال، نحن شبه أموات، على الرغم من أنّ قلوبنا تنبض بالفقر والحصار واليأس، الذي نعيش في كنفه، في مأوى لا يليق بحياة الآدميين"، مؤكداً أنّه يبقى طوال الليل متيقظاً، خوفاً على أبنائه من القوارض والثعابين والعقارب، التي تقاسمهم مكانهم الذي يعيشون فيه".

الخبير الاقتصادي معين رجب لـ"حفريات": الفقر المدقع الذي تعانيه بعض العائلات في غزة، والتي تعيش غالبيتها في المقابر، تزيد عمالة الأطفال في سنّ مبكرة

ويبلغ دخل أسرة الغربي 750 شيكل (210 دولار أمريكي) يحصل عليها كمساعدات من قبل وزارة التنمية الاجتماعية، كلّ ثلاثة أشهر، وهي مساعدة لا تفي بأدنى متطلبات حياته المعيشية، كما يساعده أطفاله بتنظيف القبور وبيع بعض الحلويات في سوق الزاوية وسط غزة، للحصول على مبلغ  10 شواكل خلال اليوم (دولارين ونصف دولار أمريكي)، مبيناً أنّ عائلته تستخدم موقد الحطب لطهي الطعام وإعداد المشروبات الساخنة.

اقرأ أيضاً: لماذا لا تستطيع مزارعات غزة الوصول إلى أراضيهن؟

وبيّن الغربي أنّ"عائلته تبقى أياماً عديدة بلا طعام، ويقتصر قوت يومهم على شرب كوب من الشاي وتناول قطعة صغيرة من الخبز لسدّ رمق أطفاله، متمنياً: "أحلم باليوم الذي أخرج به من بين أسوار المقبرة والسكن في بيت يتّسع لعائلتي، حتى تزول همومي التي تعجز الجبال عن حملها، لأتمكّن من العيش حياة كريمة وآمنة".

أمراض نفسية صعبة

ولم تكن حياة المواطنة فاطمة كحيل، التي لا تبعد سوى أمتار قليلة عن منزل الغربي، بأفضل من غيرها، والتي تقول في حديثها لـ "حفريات": "منذ أن ارتبطت بزوجي، قبل 15 عاماً، وأنا أعيش في شبه منزل صغير ومتهالك تصدّعت جدرانه وتشقّقت أرضيته، لأنّ بناءه يعود لـ 41 عاماً، ويتكوّن من غرفتين، وتتوسطه ثلاثة أضرحة، ومغطى بألواح من الصفيح ومطبخ يقع خارج المنزل، بين قبرين، ولا تغطيه سوى قطعة من القماش، لتحميهم من أشعة الشمس والأمطار خلال الشتاء.

فاطمة كحيل

وتضيف كحيل (45 عاماً)، وهي أمّ لسبعة أبناء: "الرعب والخوف يراودني طوال الوقت، في ظلّ الظروف غير العادية والصعبة التي نعيشها وسط الأموات، وهجمات الحيوانات المفترسة، التي تقتحم الغرف في كلّ لحظة، وتكون مختبئة غالباً بين شقوق جدرانها، وداخل الفراش والأمتعة، وهو ما يشكّل خطراً حقيقياً على حياتنا وأطفالنا".

اقرأ أيضاً: طيور السِمان تقطع آلاف الأميال لتقع في شباك صيادي غزة

وتابعت: "أطفالي يتّخذون من القبور خلال فصل الصيف مهجعاً للنوم عليها، نظراً للحرّ الشديد داخل المنزل، إلا أنّ ذلك لا يخفي الخوف الشديد الذي ينتاب وجوههم عند دفن أيّ متوفى، وهو الأمر الذي أدّى إلى إصابة بعضهم بأمراض نفسية صعبة، كالتبول اللا إرادي، من هول المشاهد المرعبة التي يشاهدونها بشكل شبه يومي".

وبيّنت كحيل أنّها "تداوم منذ فترة على تناول الأطعمة الخفيفة، كالزعتر والفلفل الأحمر، ولم تتناول عائلتها اللحم والدجاج منذ ما يزيد عن ثلاثة أشهر، فزوجها مصاب بشلل رباعي، بعد سقوطه من علو أثناء عمله في البناء قبل ثمانية أعوام"، مشيرة إلى أنّها "تعتمد في كثير من الأحيان على بقايا الأطعمة التي يجدها أبناؤها أثناء بحثهم في حاويات القمامة المجاورة للمقبرة".

اقرأ أيضاً: لماذا أضحى جيل التسعينيات في غزة جيلَ التعساء والمنكوبين؟

وأكدت كحيل أنّها "طرقت أبواب جميع المؤسسات الحكومية والخيرية لتأمين سكن لها ولعائلتها، إلا أنّ وعودهم جميعاً كانت بلا جدوى، لينهك اليأس والفقر حياتهم البائسة".

انحرافات سلوكية

بدوره، يعزو الخبير الاقتصاديّ، معين رجب، خلال حديثه لـ "حفريات" أسباب لجوء عدد من العائلات الفقيرة للمقابر، ومجاورة الموتى، إلى "سوء الأوضاع المعيشية التي يعانيها أكثر من 70% من السكان في غزة، والتي بيّنته تقارير عدة لمؤسسات دولية"، مبيناً أنّ "تدمير مئات المنازل خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة خلال العام 2014، دون أن تتمّ إعادة بنائها من جديد، بعد تملّص عدد من الدول المانحة من وعودها نحو القطاع، ساهم بشكل كبير في هروب هذه العائلات نحو الإقامة والسكن بشكل مجاني، وهذا لن يكون متاحاً سوى بين الأموات داخل المقابر".

معين رجب

ويرى أنّ الظروف المعيشية القاسية التي يعانيها سكان المقابر "تجعلهم يتّسمون بصفات سلبية وانحرافات سلوكية؛ كارتكاب العمليات الإجرامية، والسطو، والسرقة، والتسوّل، واستغلالهم من قبل عصابات المخدرات، وذلك لتوفير قوت يومهم بطرق غير قانونية، في ظلّ عدم التفات الجهات المختصة لمعاناتهم".

اقرأ أيضاً: أيادي الخير الإماراتية تترفق بآلام الفلسطينيين في قطاع غزة

وأكّد رجب أنّ "الفقر المدقع الذي تعانيه بعض العائلات في غزة، والتي تعيش غالبيتها في المقابر، تدفع نحو الزيادة في عمالة الأطفال في سنّ مبكرة، وبالتالي حرمانهم من حقوقهم الصحية والتعليمية، إضافة إلى معاناتهم من أوضاع نفسية مستعصية، ستبقى عالقة داخل أذهانهم لفترات طويلة من الزمن، بفعل ظروفهم المعيشية المجاورة للموتى، لا للأحياء"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية