مدن جديدة تعني فقراً أقل وتطرفاً أقل

مدن جديدة تعني فقراً أقل وتطرفاً أقل

مدن جديدة تعني فقراً أقل وتطرفاً أقل


04/10/2022

في ذروة اشتداد العمليات العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية، والدمار الهائل الذي خلفته، وقف رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل أمام مجلس العموم ووجه نداء لإعادة بناء قاعات المجلس المتضررة التي دمرها القصف الألماني، وقال حينها “نحن نبني مبانينا، وفي الغد تبنينا مبانينا”.

وهذا ما حصل في أوروبا كلها لاحقا. أما منطقة الشرق الأوسط فتشهد اليوم نهضة معمارية لافتة بالتوازي مع مشاهد معاناة المدن العربية، بغداد ودمشق والقاهرة وغيرها، طفرة تبدو هذه المرة أبعد من مجرد طفرة مالية، تنحو نحو النهوض الثقافي العربي عبر المدينة الجديدة.

يفرض ذلك تحديات عديدة تشهدها تلك المدن، ويشكل في الوقت ذاته فرصة كبيرة للدول الأم لتقديم مشروعها المدني بما تعنيه الكلمة من معان متعددة.

ظاهرة بناء المدن الجديدة استوقفت قبل سنوات باحثين ومؤرخين للعمران وتأثيراته الاجتماعية والسياسة والاقتصادية، لاسيما عبر كتاب “المدن الجديدة وتوسع المجتمع في مصر والشرق الأوسط” وغيره.

مدن الجيل الرابع

بناء المدن يبدو هو التحدي الأبرز اليوم للنهوض بدول الشرق الأوسط، ففيه العديد من الحلول لمشاكل الدولة والمجتمع

في مصر نرى نهوض مدن العلميْن الجديدة، برج العرب الجديدة والقاهرة الجديدة، وهي كانت تخضع باستمرار للمناقشات والمناظرات، وفقا لسحر عطية وهي واحدة من محرري الكتاب، وبما أنّ مدن الجيل الأول، التي تمّ بناؤها منذ أوائل الثمانينات، لن تصل بعد إلى هدفها السّكاني حتى بعد أكثر من 35 عاما، فإنه يجب تبنّي منطلق جديد في بناء مدن اليوم.

مدينة العلميْن الجديدة من ضمن مشاريع رؤية “مصر 2052“، والهدف من بنائها ‘تحقيق التنمية الحضرية المستدامة’ وفق تصميم جيّد، وتشريعات قابلة للتطبيق، وتمويل لبناء مجتمعات مستدامة.

ويمكن تحقيق ذلك من خلال تنويع القاعدة الاقتصادية، والقدرة على توفير المياه، إضافة إلى إمكانات الطاقة المتجدّدة، والأمن الغذائي وصنع علامة تجارية.

وتوجّه انتقادات عديدة لأساليب التمويل التقليدية لقطاع النقل العام في مصر، باعتبارها لا تتماشى مع صورة مدينة برج العرب الجديدة، ويدعو الباحثون إلى إجراء محاكاة لتجارب مماثلة ناجحة في هونغ كونغ والصين والدنمارك.

أما سياسات الإسكان فينصح الخبراء بأن يتم الاسترشاد بالتجربة الأميركية وتبعاتها، ومن بين أهم الملاحظات في هذ الشأن ملاحظة محمد سعيد المصيلحي الذي يحذّر صناع القرار في مصر من أنّ التراخي في تعديل إجراءات الإسكان سيقود السوق المصري إلى ‘فقاعة عقارية’ شبيهة بتلك التي حدثت في الولايات المتحدة.

و“الفقاعة العقارية“ متأتية من أن معظم المشروعات يتم بيعها بتسهيلات في السداد تصل إلى 10 سنوات، ونتيجة لارتفاع نسبة التضخم، فإن قيمة العقار مازالت أعلى من قيمة الدين، إضافة إلى أن عدد الوحدات الممولة عقاريا ليس كبيرا.

ومع ازدياد الطلب على شراء العقارات من داخل مصر وخارجها، دخلت الدولة طرفا في سوق العقارات وبدأت في إنشاء 20 مدينة جديدة في مختلف أنحاء البلاد، لاستيعاب نحو 30 مليون نسمة.

العشوائيات لعبت دورا في التحريض على بناء المدن، الأمر الذي من شأنه أن يخلق ”نقلة نوعية في حياة السكان“ في المناطق الجديدة التي سترى النور. والمدن الجديدة في مصر تشرف على إنشائها هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، التابعة لوزارة الإسكان المصرية، ومن المقرر إنشاؤها على مساحة 580 ألف فدان، وفقا لتصريحات مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء المصري، الذي أكد أن هذه المدن سوف تستوعب 30 مليون نسمة، وتوفر الملايين من فرص العمل، وتعرف اليوم باسم ”مدن الجيل الرابع“.

السوق العقارية المصرية حسب الأرقام الرسمية تحتاج إلى 200 ألف عقار سنويا. ويستحوذ قطاع العقارات على 14.4 في المئة من إجمالي الاستثمارات في القطاعات المختلفة، وهي أعلى نسبة بين قطاعات الاستثمار المختلفة.

الخروج من الوادي الضيق

مشروع بناء مصر للمدن الجديدة يجد له تفسيرا ثقافيا تاريخيا في كونه ينطلق بالأساس من محاولة الخروج من ”الوادي الضيق“، ويقصد بهذا التعبير المنطقة التي سكنها المصريون خلال الفترات الماضية. وتقول وزارة الإسكان إن المدن الجديدة هي العاصمة الإدارية الجديدة، وتجمع جنوب القاهرة الجديدة، و6 أكتوبر الجديدة وحدائق أكتوبر وامتداد الشيخ زايد، والفشن الجديدة، وملوي الجديدة، وغرب أسيوط، وغرب قنا، والأقصر الجديدة، وتوشكى.

إضافة إلى سفنكس الجديدة والوراق الجديدة، ومدينة العبور الجديدة، والعلمين الجديدة، والمنصورة الجديدة، وامتداد النوبارية الجديدة، وشرق بورسعيد، وغرب بورسعيد، وبئر العبد الجديدة في شمال سيناء.

وسوف تتضمن العاصمة الإدارية الجديدة إنشاء 20 برجا بأغراض تجارية وإدارية، إضافة إلى حي حكومي لمؤسسات الدولة، أما مدينة 6 أكتوبر الجديدة فتضم مشروعات عمرانية متكاملة، وسوقا للجملة، وميناء جافا، ومدينة للحرفيين. بينما ستكون في مدينة العلمين الجديدة أنشطة سياحية وسكنية متنوعة، وفي توشكى الجديدة منطقة صناعية وأخرى لوجيستية، ومنطقة جمعية المستثمرين الصينيين بمصر.

مدن فائقة في السعودية

مدينتا نيوم والملك عبدالله الاقتصادية تنموان بتسارع، وسط الكثير من الجدل بسبب تعقيدات الأهداف الاقتصادية والسياسية

في المملكة العربية السعودية تنمو مدينتا نيوم والملك عبدالله الاقتصادية بتسارع، بينما يبرز مشروع نيوم من بين برامج “رؤية المملكة السعودية 2030”، كواحد من أكثر المشاريع إثارة للجدل، بفعل تعقيدات أهدافه الاقتصادية والسياسية، والمخاوف النّاجمة عن ظهور ”مدينة خالية من قيود التأشيرة والجمركة وفق نظام رأسمالي بحت يحدّده رجال الأعمال“.

وسيجد مشروع نيوم نفسه بمواجهة العديد من التحديات، من بينها انخفاض أسعار النفط والعقبات البيروقراطية التي تمنع توفير بيئة جاذبة للاستثمار، إضافة إلى تداخل المشروع مع حدود إسرائيل.

أما مدينة الملك عبدالله الاقتصادية، فتبرز فيها فرص تكنولوجيا المعلومات والاتّصال، إلى جوار مشاريع سكك الحديد التي تربط المدينة بغيرها من مناطق المملكة.

وسيكون للمناخ دور في رسم مستقبل المدينتين، ما يمكن أن يكون فرصة إضافية لتقديم تكنولوجيا تتغلب على المغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة. مركز البناء في الشرق الأوسط ينتقل اليوم أكثر فأكثر إلى السعودية، بميزانية قدرها 1 تريليون دولار، وأسهم ذلك في نهضة شاملة في الاتصالات وتحول بنية المجتمع.

وكان الإعلان عن الشروع ببناء مدينة ”ذا لاين“ الخطية مثيرا للاهتمام والجدل في الحين ذاته، فالمدينة الجديدة سوف تتفرّد بخلوّها من الشوارع والسيارات وبالتالي فهي خالية من الانبعاثات الكربونية، إذ ستمد المدينةَ بالكامل طاقةٌ متجددة بنسبة 100 بفي المئة، وستُصمم وسائل التنقل والبنية التحتية لخدمة الإنسان وليس العكس كما يحدث في المدن التقليدية.

وستبلغ مدينة “ذا لاين” 200 متر عرضا، و170 كيلومترا طولا، و500 متر ارتفاعا فوق سطح البحر لتحتضن 9 ملايين نسمة، يعيشون في مناخ قالت السعودية إنه سيكون مناخا مثاليا على مدار العام، ويمكن الوصول إلى جميع المرافق في المدينة في غضون 5 دقائق مشيا، إضافة إلى إمكانية التنقل عبر قطار فائق السرعة، يصل بين أقصى نقطتين داخل المدينة خلال 20 دقيقة فقط.

مدن الشرق الأوسط الجديدة مختلفة عن تلك المدن التي ظهرت في الماضي، لكنها تستفيد من تجارب عالمية في تحويل مناطق متواضعة إلى مراكز تنموية فعالة، كما في حالة مدينة شنتشن التي تأسست في العام 1979 تم تحديدها كواحدة من أولى المناطق الاقتصادية الخاصة في الصين، وكانت تلك المدينة عبارة عن مركز صيد متواضع يضم حوالي 330000 شخص مع اقتصاد مخطط واتصال محدود مع العالم الخارجي، واليوم هي مدينة مترامية الأطراف تضم ما يقرب من 13 مليون نسمة وتعتبر مركزا رئيسيا للتكنولوجيا وللعلامات التجارية الصينية المعروفة اليوم مثل ”تنسنت“ أو ”هواوي“.

الصين كانت من الرواد الذين سارعوا إلى إنشاء المدن الجديدة، ويقول الخبراء إن بيكين صبّت كميات من الخرسانة المسلحة والأسمنت في مشاريع البناء من 2011 إلى عام 2013 أكثر مما استخدمت الولايات المتحدة طوال القرن الماضي، مما ساعد على إنقاذ مئات الملايين من الصينيين من الفقر وعزز مكانة الصين كقوة اقتصادية عالمية. وتبقى دبي النموذج الأكثر سطوعا، فقد استحوذت على الكثير من الاهتمام بهندستها المعمارية المبهرة وأشكال بناياتها التي تشبه بنايات مانهاتن.

وفي حين تتصدر طفرة البناء في السعودية عناوين الصحف، فإن طفرة الرهن العقاري تستحق أيضا المزيد من الاهتمام، مع الانتباه إلى أهمية الجغرافيا التي تتمتع بها المملكة ويمكنها استثمارها، في حين نرى دولا أخرى في المنطقة تأخرت كثيرا في الانتباه إلى أهمية هذا البعد، مثل الصومال، حيث يملك الصومال ساحلا طويلا على المحيط الهندي وبحر العرب، وهو مدخل إلى شرق أفريقيا، مع سهولة الوصول إلى البحر الأحمر وإلى مدينة جدة الساحلية الصاخبة.

لم يفعل الصومال شيئا يذكر للاستفادة من موقعة الجغرافي ولا يزال دولة فاشلة ومتخبطة، وكذلك لبنان الذي يمتلك موقعا جغرافيا مهما بإطلاله على البحر المتوسط، بينما تمكنت دولة الإمارات العربية المتحدة من كسر
قاعدة الظروف البيئية والجغرافية، فقد استطاع تغيير البناء القفز بالدولة إلى مصاف متقدمة جدا، وهي التي تضم 0.13 في المئة من سكان الكوكب الآن، بينما تضم حوالي 2.5 في المئة من تجارة الحاويات البحرية في العالم و1.5 في المئة من إجمالي التجارة الدولية.

خمس مدن جديدة في البحرين

انتقلت العدوى إلى دول المنطقة الأخرى، فشرعت مملكة البحرين بإعداد مخططات لإنشاء خمس مدن جديدة، ستزيد مساحة المناطق التعميرية بنسبة تفوق 60 في المئة، وهي مدن منطقة فشت الجارم، ومنطقة جزيرة سهيلة، ومنطقة فشت العظم، ومنطقة خليج البحرين، ومنطقة جزر حوار. وفشت الجارم جزيرة مساحتها 182 كيلومتر مربع محاطة بالقنوات المائية ومركزها المطار المستقبلي، تهدف إلى خلق مشاريع متعددة الاستخدام، وتروج المدينة لمبدأ التنقل المتكامل والمستدام.

أما جزيرة سهيلة فستكون مشروعا سياحيا وسكنيا، إلى جانب توفير مناطق متعددة الاستخدام، واستعمالات الأراضي تخلق مناطق سكنية وفرصا استثمارية وسياحية تجذب المستثمرين وتعزز السياحة. ويتكون مخطط منطقة خليج البحرين من عدد من الجزر الطبيعية، وتعزز نمو أشجار القرم، كما تسهم في خلق فرص استثمارية وسياحية. وسيتم تدشين مشروع سياحي يضم فنادق ومنتجعات ومناطق متعددة الاستخدام في جزر حوار.

بناء المدن يبدو هو التحدي الأبرز اليوم للنهوض بدول الشرق الأوسط، ففيه العديد من الحلول لمشاكل الدولة والمجتمع، وتكديس البشر في ظروف بدائية صعبة، لن ينتج سوى المزيد من الجهل والتطرف وانعدام الكفاءة، وكلها مشكلات تصب في صميم تخلّف أو تقدّم الدولة.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية