غسان أبو ستة: سردية سياسية للطبيب الغزاوي

غسان أبو ستة: سردية سياسية للطبيب الغزاوي

غسان أبو ستة: سردية سياسية للطبيب الغزاوي


29/11/2023

تبدو سيرة الطبيب غسان أبو ستة للوهلة الأولى شبيهة بما هو معروف عن الأطباء المناضلين أو الملتحقين بالثورات. لكنها سيرة استثنائية لتلازم المنحى السياسي والمنحى الطبي في حقلٍ حسّاس جداً، ألا وهو إصابات الحروب والتعامل مع جرحى الحروب. وعلى هذا، تمكن أن يراكم تجربة هائلة أدخلته عالم الأنتروبولوجيا الطبية سواء عبر الانتفاضات في فلسطين المحتلة، أو عبر الحروب التي استهدفت وما زالت تستهدف قطاع غزة والعراق وسوريا.
يروي الدكتور غسان أبو ستة، أن صيف العام 1982 كان الحدّ الفاصل بالنسبة إلى جيله، وعندما يعود قليلاً في الذاكرة إلى الوراء فإنه يجد أن الشأن الوطني كان أحد الهموم الأساسية لعائلته بسبب هويّتها الفلسطينية ووجودها في الكويت؛ غير أن والده كان يشعر بضرورة إبعاده عن السياسة كممارسة، لأنه كان يرى في التعليم الخلاص للشعب الفلسطيني.

من جهة أخرى، كانت العائلة تعيش وضعاً سياسياً خاصاً، وذلك لوجود أعمامه في غزّة، وبالأخص عمّه عبدالله ووطأة الإرث الذي تركه في العائلة، إذ كان من قادة ثورة 1929 ومن ثمّ ثورة 1936، كما أنه كان من الذين نظّموا العمل الفدائي بعد نكبة 1948، وأكمل هذا العمل الفدائي في جنوب الأردن عقب حرب 1967 إلى أن قضى خلال في معارك جرش مع الجيش الأردني في أيلول/سبتمبر 1971.  

“كان الالتزام السياسي دائم الحضور في حياتنا العائلية؛ مدرستي الابتدائية هي مدرسة دار الحنان التي كانت تديرها سلوى أبو خضرا رئيسة اتحاد المرأة الفلسطينية والعضو في المجلس الثوري لحركة فتح. كانت هذه المَدْرَسَة “فلسطينية” بامتياز، أي كنا نرفع العلم الفلسطيني يوميّاً ونهتف “عاشت فلسطين حرّة عربية”، ونُحيّي كل مناسبة وطنية في المدرسة. وأذكر أنه يوم سقوط مخيّم تل الزعتر (للاجئين الفلسطينيين) شمال شرق بيروت، أخرجونا من الصفوف لكي تشرح لنا سلوى أبو خضرا تطورات الوضع في تل الزعتر ومأساة أهل المخيّم.

انتقل أبو ستة إلى الالتزام السياسي في وقتٍ انطبعت في ذهنه قصّة أطفال “الآر.بي.جي” الذين كانوا في سنِّه أو أكبر قليلاً

“الولد الشاطر”.. والطب! خلال تلك المرحلة كنا نلامس حالات كثيرة من نوع أن المُدرّسة فلانة “غابت” بسبب استشهاد شقيقها، أو أن أحد العاملين في المدرسة “غادر واختفى”، ونعلم لاحقاً أنه ذهب إلى لبنان لينضم إلى صفوف الثورة. إلى أن جاء صيف 1982 الذي شهد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت، وفي حينه كنت في سن الثالثة عشرة، وهو الأمر الذي ساعد في تبلور الوعي السياسي لديّ بعيداً عن “الحياة الطبيعية” التي كنت أعتقد أن كل العائلات تعيشها، خصوصاً أن وضعنا في البيت كان مختلفاً.

هكذا، انتقل أبو ستة إلى الالتزام السياسي، في وقتٍ انطبعت في ذهنه قصّة أطفال “الآر.بي.جي” الذين كانوا في سنِّه أو أكبر قليلاً، وهي القصّة التي تكرّرت في مخيّمي الرشيدية وعين الحلوة، وبعدهما بأشهر قليلة شهد قصة الطفل اللبناني نزيه قبرصلي الذي كمَنَ للجيب الإسرائيلي في صيدا؛ فكل هذه الأمور ساهمت في دفعه نحو الالتزام السياسي، بينما تبلور لديه الاتجاه لديه لدراسة الطب لأن والده كان طبيباً، فضلاً عن أن التقليد الثقافي للعائلة العربية والفلسطينية يقول بأن “الولد الشاطر”، والمجتهد طبعاً، عليه الذهاب إلى كلية الطب التي تتميّز بأنها تتطلب علامات عالية.

أي شخص كان يعيش في الكويت خلال تلك الفترة كان يعرف أن لناجي العلي تأثيراً في وعيه السياسي، لأن ناجي كان دائماً يربط السياسة بالإنسان العادي المقهور وبالقضية الفلسطينية بوصفها قضية الإنسان الفلسطيني المقهور


“كان والدي سليمان يُصرّ على أنه في حال اخترت دراسة الطب، فإن عليَّ أن أكون متميّزاً من خلال حصد أعلى العلامات التي تخوّلني دخول أرقى جامعات الطب، أو أن أصرف النظر عن دراسة الطب. ثم طرأت أمور كثيرة ساعدت في تكوين مساري، منها وصول هاني الهندي إلى الكويت عقب محاولة اغتياله في قبرص(1)، والصداقة التي كانت تربط العائلة به، والعلاقة التي كانت تربطني بأولاده أيضاً، وانفتاحي على كرمه حيث أنه كان يسلّفني الكتب من مكتبته ويتفرّغ للتحدّث معي إذ اكتشف اهتمامي بالموضوع السياسي. وأي شخص كان يعيش في الكويت خلال تلك الفترة كان يعرف أن لناجي العلي تأثيراً في وعيه السياسي، لأن ناجي كان دائماً يربط السياسة بالإنسان العادي المقهور وبالقضية الفلسطينية بوصفها قضية الإنسان الفلسطيني المقهور. كنت كل يوم صباحاً أفتح صحيفة “القبس” وأجد بصمات ناجي العلي التي ساعدت في بناء الوعي لديّ. ونظراً إلى أنّني كنت متفوّقاً في المدرسة، فقد كان سهلاً عليّ بين سن الـ14 والـ18 الانغماس بالعمل السياسي الذي كان الوالد يعتبره ملهاة تُبعد عن الدراسة. وبالفعل كان التميّز الأكاديمي مثابة تمويه أو حماية، لأنه عندما تكون الأول أو الثاني في الصف لا أحد يساوره الشك بأنك تقضي الويك آند في مكتب الجبهة الشعبية في منطقة “حَوَلّي” في الكويت، ولذلك كنت أدرك بأن الذي سيفتح أمامي المجال لأفعل ما أريده سياسياً هو التميز الأكاديمي”.

من الكويت إلى غلاسكو

لاعتبارات تتعلق بالنظام البريطاني، كان ينبغي أن يتقدّم الطالب لهيئة موحّدة لكل جامعات بريطانيا قبل سنة ونصف تقريباً من موعد الدخول للجامعة، ويذكر أنه في نهاية فصل الصيف الذي كان يفترض أن يقدم خلاله طلب الانتساب للجامعة، اعترى غسان ولأول مرّة نوعاً من الشك حول هذه الخطوة، وأبلغ والده في حينه أنه يوجد في بريطانيا شهادة اسمها “PPE) “philosophy politics and Economics) فدار نقاش حاد بينهما مفاده أنه بعد الحصول على هذه الشهادة لا يمكنه إفادة الناس، بينما سيوفّر له الطب فرصة يستطيع من خلالها التأثير في مجرى حياة الناس بطريقة مباشرة. المهم أنه في النهاية تقدّم أبو ستة إلى جامعة غلاسكو وقُبلَ في كلية الطب فيها صيف 1989 وهي تعتبر إحدى كليات الطب الأربع الرئيسية في بريطانيا. في هذا الوقت بالذات، تكوّن لديه الإحساس بأن “مرحلة الكويت” انتهت، خصوصاً أن السلطات هناك كانت تمارس تشديداً على الإقامات وعلى أبناء المقيمين، بحيث أنه في أي وقت من ارتياده الجامعة قد يتعرّض لإلغاء الإقامة في الكويت، علماً أن والده هاجر إلى الكويت في العام 1953.

مع تخرجه في العام 1993 انتهت مرحلة بالنسبة إلى الدكتور أبو ستّة لتبدأ مرحلة جديدة في ضوء تداعيات عمليّة أوسلو والحرب على العراق

“كانت الرحلة إلى غلاسكو تنطوي فعلاً على طيّ صفحة الكويت قبل حصول الاجتياح العراقي، وإن كان الأهل ما زالوا يعيشون في الكويت. وهذا لا يمنع من أن أسجّل أن الكويت أعطت المجتمع الفلسطيني فيها والذي كان يضم نحو 450 ألف شخص، مساحة أوسع من أي مكان آخر في العالم العربي للتعبير عن الهويّة الوطنية. أذكر أنه عندما كنّا نغادر الكويت إلى الأردن، كانت الأجواء هناك تفرض “قاعدة” عدم التحدّث بالسياسة إطلاقاً، وهو الأمر الذي كان بمقدورنا فعله في الكويت بكل حرية. ذهبت إلى غلاسكو وهناك اكتشفت وضعاً مختلفاً. أولاً على صعيد توافر الكتب، لأن الكويت لم يكن فيها مكتبات. فجأة كان يإمكاني أن أقضي النهار بكامله بين المكتبات التي تضع الكتب السياسية بين يديك فتقرأ بل تنغمس في قراءة كل شيء قد فاتك في مرحلة سابقة؛ في الوقت نفسه، كانت الانتفاضة الفلسطينية في أوجّها، ولا يزال المساران في حياتي سائرَين باتجاهَين مختلفَين ومتباعدَين، ذلك لاعتقادي أن الالتزام السياسي قد يأخذ الكثير من وقتي الدراسي، وبالفعل كانت الدراسة ومتطلباتها في كلية الطب تحدّ من قدرتي على توفير أي وقت للالتزام السياسي. في غلاسكو كان يوجد جمعيّة للعمل التضامني هي “جمعيّة العون الطبي للفلسطينيين” (MAP)، وبدأنا نحن كطلاب اعتماد هذا الإطار لتنظيم محاضرات على غرار كل النشاط الطلابي الفلسطيني في الخارج، وكانت المحاضرات تركّز على التعريف بالقضية الفلسطينية ونقل أخبار الانتفاضة. ومن خلال هذه الجمعية تعرّفت على مجموعة من الشباب كانوا أسّسوا “الفرع الاسكوتلندي لـ”MAP” وأصبحت عضواً في المكتب التنفيذي للجمعية الذي كان يكرّس مجمل نشاطه لجمع التبرعات وإنشاء عيادات في الأرض المحتلة وجنوب لبنان. كان ذلك قبل أن تظهر تجربة “MAP” في حرب المخيمات، ولم يكن لديها سوى 3 متطوعين إحداهنّ الدكتورة سوزن وايتيج وهي جرّاحة عظام بريطانية، إضافة إلى ممرّضة اسكوتلندية في مخيم شاتيلا، فكان هذا هو المدخل للجمع بين المعرفة الطبيّة والعمل السياسي”.

الطب والناس.. وثقافة التعاضد
في صيف 1990 قرّر غسان الذهاب إلى غزّة لأن إجازته في حينه كانت طويلة مدتها 3 أشهر، وكان عمّه ابراهيم أبو ستّة ما زال موجوداً وهو الذي كان ينجز معاملات زيارة لمّ الشمل. العم ابراهيم كان الشقيق الأكبر الثاني بعد عبدالله، وهو كان عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في عهد أحمد الشقيري ورئيس بلدية خان يونس، وبقي مع أولاده في قطاع غزّة بعد حرب الـ1967. بقي غسان في غزّة طوال 4 أسابيع، وراح يبحث عن لجان العمل الصحّي التي كان رباح مهنّا من مؤسّسيها، وكان العمل في ذلك الوقت يشمل عيادات متنقلة في المخيمات وعملاً صحيّاً تثقيفيّاً، وكذلك علاج جرحى التظاهرات في المستشفى الأهلي الذي كان اسمه المستشفى المعمداني، لأن الذين كانوا يصابون في التظاهرات يتخوّفون من الذهاب إلى مستشفى الشفاء لأنها كانت تحت الإدارة المدنية الإسرائيلية.

أبو ستة: العمل الطبّي أداة ناجعة لتنظيم المجتمع وتفعيله، وخلق نُظم وثقافة التعاضد، على نحو لا يوفّره العمل التنظيمي السياسي التقليدي، لأن الطب يجعلك في النهاية تصل إلى حياة الناس الخاصة مباشرة..، وإذا كنت عنصراً فاعلاً في القطاع الصحّي تستطيع أن تؤطّر أو تعبّئ الناس بطريقة فعّالة
 

ويستخلص من هذه التجربة الميدانية، أن العمل الطبّي أداة ناجعة لتنظيم المجتمع وتفعيله، وخلق نُظم وثقافة التعاضد، على نحو لا يوفّره العمل التنظيمي السياسي التقليدي، “لأن الطب يجعلك في النهاية تصل إلى حياة الناس الخاصة مباشرة، فأنت كطبيب تستطيع أن تكشف طبيعة حياة الناس، وإذا كنت عنصراً فاعلاً في القطاع الصحّي تستطيع أن تؤطّر أو تعبّئ الناس بطريقة فعّالة أكثر من أي عمل سياسي تقليدي. وهكذا أمضيت أربعة أسابيع في القطاع ثم عدت إلى عمان”.

الترابط بين المسارَين الطبي والسياسي

في هذه الفترة بالتحديد بدأ يتبلور لدى الدكتور غسان أبو ستة مفهوم الربط بين المسارين، الطبّي والسياسي، فقد أدرك في حينه أنه لا تناقض بين مسارَين يريدهما لحياته. ولمّا عاد إلى عمان بعد تجربة الأسابيع الأربعة، تلقى اتصالاً من أصدقاء في “مجموعة هارفرد للدراسات” (Harvard Study group) وهي هيئة مكوّنة من الطلاب الحقوقيين في جامعة هارفرد، وهؤلاء لم يكونوا من العرب وكان بينهم باكستانيون وأميركان فضلاً عن الصديقة سارة لي ويتسون وهي الآن رئيسة قسم الشرق الأوسط في (Human rights watch) ووالدتها من أرمن القدس. وكان هؤلاء قد ذهبوا إلى العراق بُعيد انتهاء حرب الخليج وأجروا هناك دراسة حول الأثر الصحّي لهذه الحرب، وكانوا يعملون أيضاً على مسح أكبر للآثار الطبية والاقتصادية لحرب الخليج، خصوصاً أن كل سرديّة الخطاب السياسي لحرب الخليج كانت تجري تحت عنوان “الحرب النظيفة”، وكانت “السي.ان.ان.” تنشر الفيديوات عن مسار دخول الصواريخ وكيف أنها كانت تستهدف فقط المبنى المحدّد، أي “الحرب المعقمّة”.

سيرة الطبيب غسان أبو ستة استثنائية لتلازم المنحى السياسي والمنحى الطبي في حقلٍ حسّاس جداً، ألا وهو إصابات الحروب والتعامل مع جرحى الحروب

كانت الدراسة تقوم على مسح ميداني لمعدّل وفيّات الأطفال سعياً إلى مقارنته بمعدل وفيّات الأطفال قبل الحرب في العراق، وكان هناك فريق يجري دراسة حول تدمير الاقتصاد العراقي، إلى جانب فريق آخر يعمل على البنية التحتية ومجاري المياه والصرف الصحّي، إلى فريق ثالث يعمل في دراسة القطاع الصحّي وأثر الحرب عليه. “كنت المنسّق بين فريقين، ذاك المختص بدراسة معدّل وفيّات الأطفال، وفريق دراسة القطاع الصحّي. كانت هذه تجربة مميّزة جداً بالنسبة إليّ، لأن دراسة معدل وفيّات الأطفال كانت ميدانية، أي أنك تختار منطقة وتحدّد فيها عيّنة من 20 منزلاً وتذهب إلى داخل كل بيت وتسأل عمّن توفّي في مرحلة ما بعد الحرب، وترى كيف أنك من خلال هذه المعرفة وهذا الإطار الطبّي ستدخل إلى بيوت العراقيين علماً أن أعدادها هائلة! وفي نهاية مرحلة المسح كنا قد غطّينا 9 آلاف بيت لمعاينة أثر الحرب عليها. ومن القصص التي سجّلتها في أحد البيوت بالمنطقة الوسطى من العراق، أنّني جلست في غرفة الاستقبال، وعادةً تكون مفروشاتها على الأرض، ولما ذهبوا لكي يحضرون الأوراق ظهرت سيّدة عجوز في الناحية الثانية للغرفة قبالة شهادة “مبروزة” على الحائط. وكان نص الشهادة يفيد بأن “القائد فلان استُشهد في قادسية صدّام البطل..” فنظرت السيّدة إليّ وقالت (خَدوا وِلدي وأعطوني ورقة). هذا النوع من المشاهد التي تبرز ديناميكيّة الأثر السياسي لتراكم الحروب على هذه المجتمعات، (حيث أن هذه السيّدة العراقية فقدت ابنها في الحرب العراقية – الإيرانية بينما آلاف آخرون ماتوا في الحرب الأميركية على العراق) أثار الأمر في نفسي وقعاً صادماً فأدركت أنّني أستطيع أن أتعلم من هذه الممارسة أكثر من أي عمل سياسي آخر”.

أبو ستة: معدّل وفيّات الأطفال في العراق بسبب الحرب والحصار، قد زاد بنسبة 400 بالمئة، أي أن ظروف الحصار والحرب أدّت إلى وفاة 500 ألف طفل عراقي تحت سنّ الخمس سنوات. لقد حصل ذلك في الـ1997 ولم تكن الحرب قد انتهت بعد
 

كنّا أول فريق يدخل إلى كربلاء والنجف بعد انتهاء الانتفاضات في العراق، وعندما دخلنا إلى الروضتين في النجف شاهدنا كيف كان صدّام حسين يضع صورته فوق ضريح الإمام عليّ وآثار التدمير في كربلاء. ومع انتهاء فصل الصيف عدت إلى غلاسكو وبدأت أعمل مع الفرع الاسكوتلندي لجمعية العون الطبّي الفلسطيني بالإضافة إلى متابعة دراستي. وبين الحين والآخر كانت تأتي من الضفّة أو من غزّة وفود فلسطينية إلى اسكوتلاندا وغلاسكو من أجل تقديم محاضرات حول الأوضاع الفلسطينية أو الخضوع لدورات تأهيل. ويومها بدأت ألاحظ مدى اختراقنا لمجتمع كان معادياً جدّاً لقضيّتنا، ذلك أنه عندما وصلت إلى بريطانيا لم تكن الصحف البريطانية تذكر كلمة فلسطيني من دون إرفاقها بكلمة “إرهابي”. فشهادة العامل في القطاع الصحّي سواء كان ممرّضاً أو طبيباً، كانت تخترق الجدار عند المتلقي البريطاني بطريقة أكبر من أي نوع من البروباغاندا السياسية التقليدية (…).
لندن والعراق مجدداً
مع تخرجه في العام 1993، انتهت مرحلة بالنسبة إلى الدكتور أبو ستّة لتبدأ مرحلة جديدة في ضوء تداعيات عمليّة أوسلو والحرب على العراق، “لأنني قرّرت والأصدقاء الذين كنت معهم في العراق مأسسة رؤيتنا وأن نعمل في إطار جديد هو مركز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في نيويورك، على أن يكون أهم مشروع نعمل عليه هو دراسة تأثيرات عملية أوسلو على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشعب الفلسطيني باعتبار ذلك هو الشقّ المنسي والمهمل من حقوق الإنسان” (…).

بعد نشر الدراسة الخاصة بأوسلو وتقديم خلاصتها النهائية إلى البرلمان البريطاني، عاد أبو ستة ثانية إلى لندن للعمل ضمن مركز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على قضية الحصار المضروب على العراق.

🎞

في العراق “اعتمدنا الأسلوب نفسه الذي طبّقناه في المرة الأولى لكي نقف على معدّل وفيّات الأطفال والأثر الاقتصادي والاجتماعي لحصار العراق. وبيّنت النتيجة أن معدّل وفيّات الأطفال في العراق بسبب الحرب والحصار، قد زاد بنسبة 400 بالمئة، أي أن ظروف الحصار والحرب أدّت إلى وفاة 500 ألف طفل عراقي تحت سنّ الخمس سنوات. لقد حصل ذلك في الـ1997 ولم تكن الحرب قد انتهت بعد، وعلى أثره حصلت القصة الشهيرة لبرنامج (60 minutes) على التلفزيون عندما سألَت مقدمة البرنامج وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت “هل أن وفاة 500 ألف طفل عراقي هي الثمن للتخلص من صدّام”؟ فردّت أولبرايت بـ”نعم” قاطعة”.

العودة مع الانتفاضة الثانية

واصل غسان أبو ستة عمله في النظام الصحّي وتابع الامتحانات التخصّصية التي كان من الضروري أن يخضع لها. وفي بداية الانتفاضة الثانية في سبتمبر/أيلول 2000، قرّر العودة إلى غزّة بعدما أخذ كل إجازاته دفعة واحدة لمدة أسابيع. “كانت مرحلة قاسية جدّاً بسبب وجود المستوطنات الإسرائيلية داخل غزّة، وكان الأطفال يتظاهرون ضدّ المستوطنات ويتعرّضون لإطلاق النار عليهم بغزارة على طريقة “الرش”. يومها، عملت في مستشفى ناصر في خان يونس. ولأن عائلتنا عندما انتقلت من بئر السبع في الـ1948 إلى مخيم خان يونس فضّلت أن أكون هناك. وخلال عملي في المستشفى، اكتشفت أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) يسمح بتغطية مصاريف أخصائي فلسطيني من الخارج يعمل في مؤسسات فلسطينية بالداخل. وفي الشهر الثاني عشر من سنة 2000 تزوجت، وبعدها بأشهر عدتُ إلى غزّة لتمضية 6 أشهر عملت خلالها في مستشفى العودة وهو المستشفى الذي أنشأته لجان العمل الصحّي بمخيم جباليا لعلاج إصابات الانتفاضات. وكانت هذه أطول فترة من حياتي أمضيتها في فلسطين، وتحديداً في القطاع حيث تسكن عائلة زوجتي وأعمامي أيضاً، وأنا قرّرت الإقامة في منزل عمّي وكنت أذهب لمستشفى العودة وأعود منها يوميّاً”.

هوامش:

(1) هاني الهندي 1927 – 2016. ولد في بغداد عام 1927 وتوفي في عمّان 2016، سوري الأصل وأحد مؤسّسي حركة القوميين العرب إلى جانب جورج حبش ووديع حداد وباسل الكبيسي وأحمد الخطيب. أحد مؤسّسي “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، تعرض لمحاولة اغتيال في قبرص عام 1981 ونجا بأعجوبة فاقداً ذراعه.

(*) راجع الجزء الأول من كتاب “سردية الجرح الفلسطيني” (عن دار رياض الريس للكتب والنشر)، بعنوان: خبرتي الطبية في غزة.. يومَ مارستُها في لندن!.

عن "بوست 18"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية