شغب دبلن.. وأقصى اليمين من هولندا إلى الأرجنتين

شغب دبلن.. وأقصى اليمين من هولندا إلى الأرجنتين

شغب دبلن.. وأقصى اليمين من هولندا إلى الأرجنتين


26/11/2023

محمد قواص

تزامنت أحداث الشغب الخطيرة التي اندلعت، الخميس، في شوارع دبلن في إيرلندا على يد جماعات اليمين المتطرّف، مع فوز هذا اليمين أيضا في الانتخابات العامة في هولندا. جرت هذه الأحداث بعد أيام على فوز المرشح المنتمي لأقصى اليمين في الانتخابات الرئاسية الأرجنتينية خافيير ميلي.

وإذا ما كانت الجماعات الشعبوية في أوروبا تنهل من وعاء واحد ضد الهجرة والإسلام والمسلمين، فإن تلك في أميركا الجنوبية تعبّر عن غضب من ليبرالية متوحشة تدفع بقيّم وسياسات غير قادرة على حلّ معضلات البلاد في القرن الواحد والعشرين، إضافة إلى أن حراكها سواء في البرازيل سابقا وفي الأرجنتين حاليا يستوحي قوته من دونالد ترامب والترامبية في الولايات المتحدة، ليأتي ميلي ويبشّر بـ "نهاية الانحطاط".

ولئن يتقدم اليمين المتطرّف في إيطاليا وتشيكيا وصربيا وبولندا وهنغاريا وسويسرا والسويد وغيرها وهذه الأيام في هولندا، فإن الأمر ليس طارئا ولا هامشيا وليس نزوة انتخابية، بل هو مسار مستقرّ في صعوده وإن يشتد رواجه ويخفت ليؤكد السياق ولا ينفيه. وحين عبّرت وزيرة الداخلية البريطانية المُقالة سويلا برافرمان عن وجهات نظر في حكومة المحافظين في لندن ترقى إلى مستوى العنصرية، فذلك أن اليمين المصنف معتدلاً بات يستعير أدواته من مخازن اليمين المتطرّف ونصوصه.

ولم يتمكن اليمين المتطرّف في الحكم في كل الدول التي استطاع تسجيل اختراق انتخابي بها من توفير الترياق الأمثل لحلّ معضلات باتت بنيوية للتعامل مع ظواهر الهجرة. وإذا ما تأملنا مسار جورجيا ميلوني، زعيمة اليمين المتطرّف في إيطاليا منذ وصولها إلى الحكم في أكتوبر 2022، نستنتج التزامها بقواعد الدولة وأصول الإدارة واحترامها لمعايير السياسة الخارجية واتّساقها مع شروط العمل داخل الاتحاد الأوروبي على الرغم من خطابها السابق المنتقد للنادي الأوروبي.

بمعنى آخر، فإن ما هو متطرّف في طروحات اليمين الشعبوي بات من أدوات الفوز داخل صناديق الاقتراع بغضّ النظر عن نجاعة الحلول القصوى التي يطرحها. وإذا ما ذهب زعيم اليمين المتطرّف في هولندا خيرت فلدرز إلى اعتماد خطاب كراهية حادّ ضد الإسلام والمسلمين والإسلاميين مطالبا بمنع المساجد وحتى منع القرآن الكريم، فذلك لأن لهذا الخطاب سوق رحب داخل مجتمع متقبل لعملية تعليق مشاكل البلاد على مشجب الهجرة والإسلام.

وفيما كان التطرّف اليميني في أوروبا في العقود السابقة عيبا وعارا و "حراما" لارتباط أفكاره بتلك النازية والفاشية التي راجت قبل وخلال الحرب العالمية الثانية، فإنه في السنوات الأخيرة باتت شعارات هذا التطرّف مقبولة تجدّ تفهّما لدى جمهور اليمين التقليدي وتجذب شرائح من داخل المجتمع العمالي أو اليساري تقليديا. ويتولى هذا اليمين وجماعاته اصطياد أي فرصة أو إشاعة (كما في حال حدث دبلن) لسوق الشارع نحو العنف تحت شعار حماية الذات ضد الآخر.

والأرجح أن اعتماد اليمين المعتدل (حزب "الجمهوريون" الديغولي في فرنسا وحزب المحافظين في بريطانيا مثالا) خطابا متطرّفا في تناول شؤون الهجرة والإسلام -إلى درجة أن تطرح لندن نفي المهاجرين إلى رواندا- دفع الناخبين إلى تفضيل التصويت للأصل في هذا التطرّف -أي اليمين الشعبوي- بديلا عن يمين سبق تجريبه على رأس الحكومات ويعتبرونه فاشلا في حلّ مشاكل البلاد في السنوات الأخيرة.

واللافت أن هذا اليمين المتطرّف تخلّص من نصوص تقليدية تنهل من النازية والفاشية الغابرة واعتبُرت معادية للسامية، وراح باتجاه التعبير عن دعمه المطلق والمفرط لإسرائيل ولفاشييه في الحكم وخصوصا بمناسبة عملية "حماس" في غلاف غزة في 7 اكتوبر الماضي. وقد اعتمدت رئيسة حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرّف مارين لوبن خطابا متعاطفا مع اليهود في فرنسا متعهدة بالعمل على الدفاع عن أمنهم ضد ارتفاع معدل الاعتداءات التي تعرضوا لها منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة في قطاع غزّة.

والواضح أن اليمين المتطرّف الذي يسعى للوصول إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع (فيما كان ينشط خارج النظم السياسية قبل ذلك) يطوّر الحجج التي توفّر له موجات جديدة من الأصوات بغضّ النظر عن تناقض هذه الحجج مع التاريخ الايديولوجي لقادته السابقين وبغضّ النظر عن شعبوية الشعارات وعدم منطقية تطبيقها. ففيما تتّخذ لوبن الابنة تكتيكاً مدافعا عن إسرائيل واليهود في فرنسا، فإنها مع ذلك لم تستنكر ما كان صدر عن والدها الزعيم التاريخي للحزب، جان ماري لوبن، حين فجّر غضبا في فرنسا إثر اعتباره عام 1987 أن المحرقة اليهودية هي "تفصيل" في التاريخ.

والواضح أن اليمين المتطرّف يجد القبول والترحيب في موسم الأزمات ومراحل عدم اليقين. ناهيك من أن غياب الحدود الايديولوجية في هذا العالم ورواج صراع دولي (الصين وروسيا من جهة والغرب من جهة ثانية) على قاعدة المصالح لا على أساس القيّم، يعيد تعويم هاجس الهوية الذي قد يجده الناخب في ما يستنسخه اليمين المتطرّف من أفكار اعتُقد أنها باتت بالية متقادمة. ومن يراقب الاندفاع الغربي في دعم إسرائيل يلاحظ توفّر حاضنة كبرى لليمين واليمين المتطرف تتيح الصعود نحو القمم.

واللافت أن التيارات الشعبوية في أوروبا واميركا اللاتينية تعبّر عن تفهّم لروسيا بقيادة فلاديمير بوتين وعن نزوع إلى عدم الالتحاق بالولايات المتحدة في مسارها في الصراع مع الصين. ويعني ذلك أن هذه التيارات تفتك في صعودها بكل الزّاد السياسي الليبرالي الذي ساد العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وخصوصا منذ اندثار الحرب الباردة. ومع ذلك فإن اليمين المتطرّف الذي سجّل اختراقات في هولندا (37 مقعدًا من إجمالي 150 مقعدًا) قد لا يتمكن من الحكم بسبب صعوبة العثور على ائتلاف حكومي، وهو أمر فهمه اليمين المتطرّف في السويد الذي فضل دعم رئيس حكومة محافظ حتى تتيسّر ظروف محلية ودولية أفضل لم تعد حلما وبعيدة المنال.

عن "سكاي نيوز عربية"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية