حرب جانبية بين الأزهر وإسرائيل

حرب جانبية بين الأزهر وإسرائيل

حرب جانبية بين الأزهر وإسرائيل


19/11/2023

محمد أبو الفضل

دخل الأزهر وشيخه أحمد الطيب في خضم معركة إعلامية وسياسية ظهرت معالمها بين إسرائيل وجهات عربية وإسلامية تبنت مواقف صارمة ضد ما يقوم به جيشها من انتهاكات في الحرب على قطاع غزة، وكان لافتا أن مجلة تحمل اسم الأزهر وتصدر أسبوعيا وتعبر عن توجهاته بادرت منذ اللحظة الأولى لتبني موقف حاد ضد إسرائيل، واستخدمت فيه كلمات خلطت السياسي بالديني والعسكري بالمدني.

لم تخل أعداد مجلة الأزهر منذ بداية عملية “طوفان الأقصى” من موضوعات وقضايا وعناوين تدين إسرائيل، وتنعتها بأوصاف قاسية تتناسب مع حجم ما ترتكبه من جرائم في حق سكان غزة، مستخدمة ذخيرة من العبارات الدينية التي تؤكد على خداع وكذب وافتراءات إسرائيل، وأخرى تاريخية تحمل إسقاطات متباينة، ما جعل دوائر يهودية تنتبه إلى هذا الخطاب وترد عليه باتهامات وانتقادات تارة، وتحريض القاهرة على الأزهر لردعه تارة أخرى، ولم تؤثر كلتاهما على قيادته أو تلجم خطابها.

ملأ الأزهر فراغا سياسيا على الساحة المصرية، فالنظام الحاكم مهما كان رفضه وتحفظه على ما تقوم به إسرائيل في غزة يظل محكوما بتقاليد سياسية وأعراف دبلوماسية، وكل وسائل الإعلام التي تسانده تلتزم قدرا من ضبط النفس، والمعارضة التي كانت تستخدم في مثل هذه الحالات لتعويض الحذر الرسمي وقيود اتفاقية السلام مع إسرائيل صوتها خافت بسبب ضعفها والقيود التي تكبل حركتها في الشارع خوفا من تداخل احتجاجات غزة مع أزمات اقتصادية طاحنة تعيشها شريحة من المصريين.

سعى الأزهر عن قصد إلى توظيف مساحة تركتها جماعة الإخوان وكل التنظيمات الدينية في مصر التي توارت جبرا أو استسلاما، وقفز عليها سريعا، لأن الاختفاء أو الانزواء لأسباب تتعلق به أو بالنظام الحاكم يفضي إلى إحراجهما معا، فالأزهر يقاوم للحفاظ على مكانته الرمزية بعد أن خفت دوره مع صعود نجم تيار الإسلام السياسي والجماعات المتشددة، والقاهرة محكومة بضوابط قد تمنعها من إعلان مواقف خشنة ضد إسرائيل، والتي تحظى حربها على غزة بدعم من قوى غربية كبرى.

التقط الأزهر الكثير من الإشارات التي تصب في صالحه وضاعف من وتيرة شن هجماته الإعلامية على إسرائيل وإصدار بيانات تجرّم ما تقوم به بحق الشعب الفلسطيني، وبدا توجهه كأنه يحظى بتأييد الحكومة المصرية، أو على الأقل جاء على هواها لسد فجوة بحثت عمن يملأها شعبيا في ظل ضعف المعارضة.

كما أن غياب جماعة الإخوان عن المشهد السياسي منذ سنوات عزز ورطة الحكومة في الجهة التي يمكنها أن تقود ردود الفعل الشعبية وتحرك بوصلتها، حيث كانت مزايدات الجماعة ومظاهراتها في مثل هذه المواقف تلعب دورا مهما وتوحي بأن الحكومة تتعرض لضغوط تفرض مراعاتها خشية من انفجار الشارع.

لا خوف من التعبئة التي يقوم بها الأزهر من خلال انتقادات مجلته أو بياناته النارية، فهما يخدمان رؤية الدولة التي رأت أن ما يجري في غزة ستكون له تداعيات عليها، وسعت نحو إجهاض سيناريو توطين سكان غزة في سيناء، وبدا الأزهر واحدة من الأدوات الناعمة التي يمكن توظيفها لإجهاض هذا الهدف، وتعلم إسرائيل حجم تأثيره داخل مصر وعدد كبير من المجتمعات الإسلامية.

استفاد الأزهر من علو الصوت الديني داخل إسرائيل، حيث استخدم رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو وبعض الأعضاء فيها مفردات توراتية مليئة بالمغالطات لحشد الرأي العام هناك، ومنح الحرب على غزة قداسة قد يستطيع نتنياهو بها تطويق تهاوي شعبيته وكسب ود اليمين المتطرف، لذلك نُظر لخطاب الأزهر على أنه معادل موضوعي على الضفة المقابلة، ولم يجد كبحا من القاهرة أو اعتراضا من بعض الدول ذات العلاقة الوثيقة بشيخه أحمد الطيب.

ارتاح النظام المصري إلى صوت الأزهر الزاعق ولم يظهر تململا واضحا بعد أن نشبت بينهما خلافات في قضايا داخلية عدة على مدار السنوات الماضية، تبنى فيها الشيخ الطيب مواقف جاءت على يمين ما يراه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، لكنها لم تخرج عن نطاق السيطرة السياسية عليها، وإن تركت جرحا معنويا بينهما، ظهرت معالمه من حين إلى آخر في بعض المحكات والمناسبات.

فهمت إسرائيل رسالة الأزهر وخلفياتها وروافدها ولم يكن لدى من توقفوا عند الخطاب الحاد شك حول حصوله على ضوء أخضر من الحكومة المصرية، لكن ما يخفف من مصداقية هذا التقدير أن موقف الأزهر جاء متسقا مع مواقف سابقة له، بها مغالاة ظاهرة وغير منبتة الصلة بحسابات الطيب الداخلية وعلاقته بالسلطة في مصر.

ما أقلق تل أبيب فعلا الوزن النسبي الذي يحظى به الأزهر في العديد من الدول الإسلامية في آسيا وأفريقيا، فإذا كان دوره المعنوي في مصر محدودا بسقف ترفعه أو تخفضه السلطة، فدوره في دول أخرى حيوي، حيث يتم التعامل معه بشكل به قدر كبير من الاحترام والتقدير، وربما القداسة أحيانا، وهو ما يعيق انتشار الرواية المضادة التي تتبناها إسرائيل وتسعى للترويج لها.

يمثل هذا العامل أحد أهم المكونات التي جعلت إسرائيل لا تستهين بخطاب الأزهر وتعمل على فرملته، وحثت كثير من الجهات الفاعلة فيها للرد عليه تباعا، وإضفاء صفات التشدد وهي تعلم أن قدرتها على تسويق هذه المسألة محدودة، فالأزهر معروف بوسطيته في الدول الإسلامية، وما يتردد حول وجود متطرفين فيه ليسوا بالكثافة التي تمكنهم من اختطاف هذه المؤسسة تماما، والتي باتت تحت قيادة أحمد الطيب تحظى باحترام في دوائر غربية في خضم ما يعلنه من خطاب حضاري أمام العالم.

تكمن أزمة إسرائيل في عدم قدرتها على ترويض الأزهر والضغط على قيادته، لأنه مؤسسة مستقلة وشيخه يتمتع بدرجة عالية من الحرية في تصوراته الدينية والسياسية لا تخفى على كثيرين، كما تفتقر تل أبيب إلى القدرة على التشكيك في رؤيته المعلنة وهو الذي يتمتع بشعبية ضخمة، وتحظى مواقفه باحترام من قبل أوساط مختلفة، في مقدمتها موقفه من العدوان على غزة الذي منحه حضورا يتجاوز عباءته الدينية.

يطرب البعض للحرب الجانبية بين الأزهر وإسرائيل على اعتبار أنها تعكس مواقفهم مع أو ضد هذه المؤسسة الدينية المثيرة للغط، وقد يرى آخرون أنها توفر طابعا دينيا للحرب التي فجرها الجناح العسكري لحركة حماس الإسلامية، يستغلها متطرفون لتأكيد رؤاهم التوراتية، وفي الحالتين أصبح ما يقوله الأزهر وما ترد عليه إسرائيل محل سجال ووفر قاعدة يريد عبرها كل طرف تثبيت رؤيته ودحض رؤية الآخر.

عن "العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية