قد لا يكون التعبير دقيقا ومناسبا دوما حين نستعمل عبارة “الإرهابي التائب”، لكن للضرورة أحكامها، والحق يقال أيضا، فإن “التوبة” درجات، أوّلها شعور بالشك في جدوى العنف عمليا، أو بوادر الشك في ضمانات الثواب الأخروي، ومنتهاها قد يبلغ درجات الشك في جميع الثوابت والمسلمات الموصوفة بـ”معلوم الدين بالضرورة”.
في مسار الشك هذا، قد لا يستقرّ “الإرهابي التائب” عند مستوى معين؛ فقد يتأرجح حينا من الدهر في مواقفه ومزاجه، ما قد يثير الريبة في أمره، ويجعل التصنيف ملتبسا أحيانا، لكن يجب أن ندرك في آخر المطاف بأن التحول من التكفير إلى التنوير صيرورة شاقة وعسيرة، قد تأخذ قسطا من الزمن، وقد تتعثر عند حدود معينة، وقد تنتكس في بعض الأحيان، لكن نتائجها حين تتحقق تكون مثمرة وحاسمة بكل المقاييس.
فمن باب المفارقات التي يجب استحضارها في هذا المقام أن الصادق في تطرفه سيكون صادقا في تراجعه أيضا حين يقرر امتلاك الشجاعة الكافية للتراجع، لا سيما عندما يتعلق الأمر بأحد “المريدين”، وهذا بخلاف الإسلامي الموصوف بالوسطية والاعتدال، والذي لا ينتهي الحوار معه في العادة إلى أي نتيجة مؤكدة طالما “كل يوم هو في شأن”، يُسمعك الكلام الذي تريد سماعه، يمنحك الوجه الذي تود أن تراه، وفي آخر المطاف لا تدري مع أي الأقنعة تتعامل؟ والمؤكد أن لا وجود لشيء اسمه المشروع الإسلامي خارج دائرة الجهاديين المتطرفين. لذلك، في مواجهة هؤلاء لا يملك الإسلاميون المعتدلون من أطروحة مضادة غير الهمس “بعدم الاستعجال”.
بكل تأكيد –أو هذا هو الأهم- ليس دورنا أن نتفرّج على الحال وننتظر المآل ثم نصدر الأحكام، أو نزعم بأننا كنا نمتلك توقعات صادقة، أو كنا نعلم ما لا يُعلم، لكن دورنا الحقيقي أن نساهم في ترجيح المآلات الإيجابية مهما بدت ضئيلة. وللتذكير أيضا فإن البشائر الواعدة لا تبدو في البدء وفي العادة إلا كفرص ضئيلة.
أولى منطلقات التعامل مع “الإرهابيين التائبين” أن ندرك أن للتراجع درجات متفاوتة في المستوى النفسي والثقافي، يصعب أن نؤطرها بواسطة معايير قانونية أو أخلاقية نهائية. لذلك يبدو العالم بأكمله حائرا في إيجاد الوصفة المناسبة للتعامل مع “الإرهابيين التائبين”، سواء من هؤلاء من تورط في جرائم قتل، أو من رجع من ساحات القتال، أو من كان على وشك تنفيذ عمليات إجرامية، أو من أنهى عقوبته السجنية.
عموما، لكل جريمة عقوبة مناسبة. وعدم الإفلات من العقاب قاعدة أساسية من قواعد العدالة، لكن في ما وراء العقاب يبقى السؤال مقلقا ومعلقا: كيف نتعامل مع الإرهابي أثناء وبعد انتهاء مدة العقوبة؟ لن تكون الإجابة بسيطة طالما “التوبة” صيرورة تستغرق زمنا وتتميز بوضعية نفسية ووجدانية بالغة الدقة والتعقيد.
رأس الخيط الأساسي الذي يجب الإمساك به أن ندرك بأن “الإرهابي التائب” يعاني من حالة عاطفية بالغة الهشاشة، تلازمه وقتا قد يطول وقد يقصر، وذلك بسبب أزمة ذنب مركبة، مزدوجة، وذات اتجاهين متضاربين:
ثمة من جهة أولى اتجاه يدفع به نحو الشعور بالذنب إزاء الجرائم التي قد يكون اقترفها أو كان ينوي اقترافها، يقابله من جهة ثانية اتجاه يدفعه نحو الشعور بالذنب بسبب خوفه من فقدان إيمانه الديني جراء الخطوات التنويرية التي يكون قد بدأها.
أثناء تراجعه لا يعرف أين يجب عليه أن يتوقف؟ هنا مكمن الخوف لديه. عادة ما يقال له: توقف عند الوسطية والاعتدال، لكنه أعلم الناس بأن الوسطية والاعتدال مجرد منطقة منزوعة المواقف، أقرب إلى النفاق الديني منها إلى التدين الصادق، في حين أنه أحوج ما يكون إلى مواقف تعيد إليه توازنه الروحي بوضوح وصدق وانسجام. إن مطلب الانسجام لهو مطلب روحي بالأساس. لذلك تظل مواقفه متسمة بنوع من الهشاشة التي تجعله معلقا بين نوعين من المخاوف: الخوف من أن يقوده التراجع إلى فقدان دينه، والخوف من أن يعود مرة أخرى إلى فقدان ذاته. هناك ثلاث مراحل أساسية يمر بها الإرهابي:
أولا، مرحلة الاكتشاف، حيث يبدأ في اكتشاف شيوخ وخطب وأيضا جماعات تهيئ له ظروف “الاقتناع بالفكرة”، بل علينا في واقع الأمر أن نستبعد الكلمتين معا، “الاقتناع” و”الفكرة” فالمجال مجال التسليم عوض الاقتناع، تماما مثلما يتم تسليم العقل للمشعوذين والكهان؛ والمجال أيضا مجال تهييج الانفعالات السلبية بدل إنتاج أي فكرة. رغم ذلك، تبقى فرصة التراجع في هذه المرحلة سانحة وممكنة لكنها تحتاج إلى خطط عمل ثقافية بالغة الدقة وهادفة، يُستحسن أن يساهم فيها “إرهابيون تائبون” بتأطير من ناشطي التنوير العمومي، ومثقفي الإسلام الإصلاحي.
ثانيا، ذروة الاندفاع، وهي المرحلة الأشد خطورة؛ لأن التراجع فيها يصبح مستعصيا ما لم يتلق المرء صدمة عنيفة. هنا يكون لمؤسسات الدولة دور أساسي.
المرحلة الثالثة، هي مرحلة التجرؤ على النظر في المرآة والتساؤل، من أنا؟ ماذا أفعل؟ لماذا أفعل؟ إنها بلغة بليغة بداية التفكير في الذات.
أفلاطون نفسه من أكد بأن التفكير لا يكون ممكنا إلا في الأشياء التي تثير في العقل انطباعين متناقضين. هذا ما يحدث بالضبط حين تثير صورة الذات لدى الإرهابي انطباعين متناقضين: مجرم أم مجاهد؟ غالبا ما تبدأ هذه المرحلة في فترات السجن الانفرادي حين تختلي الذات بذاتها، بمعزل عن غرائز الجموع و”القطيع” ، لكنها أيضا مرحلة انتقالية قد تمتد إلى ما بعد العقوبة السجنية زمنا طويلا، وتحتاج إلى مقاربة إصلاحية متكاملة. في كل الأحوال، ثمة ثلاث حاجيات يحتاجها الإرهابي التائب:
أولا، يحتاج إلى التخلص من عقدة الذنب. لأجل ذلك يجب أن يقوم الخطاب الذي نقوله له على المبدأ التالي: الإرهاب جريمة بالفعل، والمسؤولية الجنائية انتهت بانتهاء العقوبة، لكن الأصل أننا جميعنا مذنبون وليس الإرهابي وحده. ثقافتنا بالكامل مذنبة لأنها هي التي دفعت به وبأمثاله إلى أن يتصرفوا بالنحو الذي تصرفوا به. لا داعي للاستمرار في شعور بالذنب لن يثمر سوى الخيبة وربما النكوص مجددا. بلغة نيتشوية صريحة: يجب أن نساعد “الإرهابي التائب” على تحويل الشعور بالذنب، باعتباره ضمن غرائز الانحطاط، إلى دافع إيجابي وخلاق. هنا، بدل الاكتفاء بإخضاع “الإرهابيين التائبين” للمراقبة الأمنية –وهو إجراء ضروري لكنه لا يكفي- يمكن أن نحولهم إلى طاقة مساهمة في الإصلاح الثقافي، لا شرط في ذلك سوى أن يكون الخطاب التأطيري هادفا وفعالا.
ثانيا، يحتاج “الإرهابي التائب” إلى تديّن عاقل متناغم وبسيط أيضا، وبنحو يساعده على ترميم الخراب الروحي الذي تعرض له في سنوات التطرف، لكن، يجب أن نعترف له بأن هذا المطلب غير متوفر كما ينبغي. يجب أن نعترف له بأننا لا نستطيع أن نوفي له مطلبه في “تدين عاقل” إلا إذا ساهم معنا في بنائه. علينا ألا ننسى بأن لدينا ثلاثة مستندات دينية: القرآن المكي، التصوف النظري والإسلام الإصلاحي.
ثالثا، يحتاج “الإرهابي التائب” إلى إعادة تأهيل حتى يصبح مواطنا فعالا. هناك مؤسسات تحتاج إلى كفاءات ومهارات اكتسبها “الإرهابيون التائبون” عبر مسارهم. هناك منظمات مدنية بوسعها أن تحتضنهم، أو تساهم في إعادة تأهيلهم، وبنحو يساهم في تنمية غرائز الحياة على حساب غرائز الموت.
سعيد ناشيد-عن"العرب" اللندنية