هشام النجار لـ"حفريات": الإسلاموية أداة لخدمة مشروعين قوميين التركي والفارسي

هشام النجار لـ"حفريات": الإسلاموية أداة لخدمة مشروعين قوميين التركي والفارسي

هشام النجار لـ"حفريات": الإسلاموية أداة لخدمة مشروعين قوميين التركي والفارسي


16/01/2024

أجرى الحوار: عماد عبد الحافظ

تركيا تحت قيادة أردوغان مثلّت  الداعم الأكبر لجماعة الإخوان طيلة الأعوام الـ (10) الماضية، التي أعقبت سقوطها من الحكم ودخولها في صراع مع الدولة المصرية، ويعود ذلك إلى الخلفية الإيديولوجية التي ينتمي إليها الرئيس التركي وحزب العدالة والتنمية الحاكم، حيث إنّ الحزب وعلى رأسه أردوغان يُعدّ نسخة متطورة من جماعة الإخوان، جاءت بعد انفصال عن الجماعة في تركيا وتأسيس حزب بأفكار وأهداف مختلفة نوعاً ما، لكن ظلت الروابط قائمة بين الحزب وبين الجماعة، سواء في مصر أو في الدول الأخرى، كما يعود إلى سياسة أردوغان التي اعتمدت على توظيف الجماعة لخدمة عدد من أهدافه الداخلية والخارجية؛ وتعددت صور الدعم من حيث منح أفراد الجماعة الهاربين إلى تركيا ملاذات آمنة من أجل إعادة ترتيب الأوراق ومواصلة الصراع مع الدولة المصرية من خلال ممارسة العديد من الأنشطة التنظيمية والإعلامية عبر قنواتها الإعلامية ومواقعها الإلكترونية.

لكنّ العديد من العوامل دفعت تركيا مؤخراً إلى أن تغير من سياستها بعض الشيء، وتسعى لإجراء تفاهمات مع مصر ومع عدد من الدول في المنطقة؛ وكان من بين نتائج ذلك تغيير السياسة المتبعة تجاه الإخوان وتخفيف الدعم المقدم بدرجة غير كبيرة، فكيف ستؤثر نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز فيها أردوغان على طبيعة العلاقة مع جماعة الإخوان من جهة، وعلى طبيعة العلاقة مع الدولة المصرية من جهة أخرى؟ أسئلة يجيب عنها الباحث المصري في الحركات الإسلامية في هذا الحوار.

هنا نص الحوار:

كيف تقرأ نتائج الانتخابات الرئاسية التركية الأخيرة من حيث أبرز أسباب فوز أردوغان، ودلالاته؟

اكتسب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على مدار عقدين خبرات متراكمة في كيفية إدارة حملة انتخابية ناجحة وسط ظروف معقدة سياسياً، وبات يمتلك في يده معظم خيوط هذه اللعبة ويتحكم فيها باحتراف ملحوظ، وفي الوقت المناسب يلعب بمختلف هذه الخيوط، فهو يخاطب مختلف الناخبين باللغة التي يريدونها ويفهمونها، ويلعب على وتر تحسين الخدمات والمعونات لمن يريد وعلى وتر الإيديولوجيا والنزعات القومية والخطاب الشعبوي لمن يريد، ومن اللافت أنّه وصل بالحالة السياسية التنافسية إلى وضع وسط بين نقيضين؛ فلا المعارضة الموجودة حالياً بالقوة القادرة على إلحاق هزيمة به، ولا هي مختفية تماماً ومغيبة بالكليّة، فيُقال إنّه ألغى التعددية وعصف بالمعارضة وبات الحاكم الأوحد للبلاد، فالرجل أضعف المعارضة ومارس التضييق عليها، لكن أبقى منها على القدر الذي يستطيع معه إكمال الشكل الديمقراطي التعددي للاستحقاق الانتخابي، وعلى الرغم من التشابك والاقتراب بين مختلف فصائل المعارضة والايحاء بأنّها تمتلك خطة لتغيير مشهد السلطة لصالحها؛ إلا أنّها لم تنجح في إحداث فارق كبير، ووضح أنّ حزب العدالة والتنمية، حتى في ظل تدني شعبيته وفي وجود وضع اقتصادي مضطرب، قادر على الحفاظ على مكانه في مشهد السلطة دون تغيير كبير، حيث وضح أنّه بات متشبعاً بثقافة الفوز، ولديه الخبرات والقدرات التي تمكنه كل مرة من تحقيق الانتصار، فضلاً عن أنّ الحزب مستمر في استفادته من كل التفصيلات على الساحة لصالحه، حتى هزيمة الإسلام السياسي، وهو تياره وحليفه، استغلها لتوجيه فصائل هذا التيار للداخل التركي ومساعدته في التخفيف من آثار الزلزال المدمر وإدارة حملات الدعاية الانتخابية، وباختصار فإنّ كل أداة وورقة يستطيع اللعب بها يستخدمها حتى النهاية بدون تردد لصالحه.
 

الرئيس أردوغان وحزبه احترف البراغماتية، وأنا أعتبر أنّ النفعية هي إيديولوجيته الأولى، وليس أيّ خط سياسي أو تاريخي أو ديني آخر، فكل هذه الخطوط كانت أدوات لتحقيق مصالح لا أكثر

وبالنسبة إلى الدلالات؛ فبدون شك، وعلى الرغم من الاختلاف مع الرئيس التركي في العديد من السياسات والأفكار والتوجهات والمواقف، خاصة فيما انتهجه في السابق ضد الدول العربية مستخدماً فصائل تيار الإسلام السياسي والجهادي، وفي الأخير اللوم حتى هنا لا يقع عليه، فهو يسعى لتحقيق مصالح بلده بالشكل الذي يراه هو، إنّما اللوم على الأدوات وعلى الجماعات التي ارتضت أن تقوم بتلك الأدوار والمهام القذرة ضد أوطانها في مرحلة من المراحل، إلا أنّه لا جدال في أنّ الرجل أثبت أنّه أحد الأرقام المهمة والصعبة في المشهد الإقليمي والدولي، وعلى المستوى السياسي المحلي، ودشن تجربة رغم كل الملاحظات عليها وكثرة منتقديها من جهة، وداعميها من جهة أخرى، تجعله مذكوراً ومدروساً في المستقبل كأحد صناع تاريخ هذه الحقبة، والدلالة الثانية متعلقة بطبيعة المشهد التركي الحالي وتقلبات الإقليم، فالرئيس أردوغان وحزبه احترف البراغماتية، وأنا أعتبر أنّ النفعية هي إيديولوجيته الأولى، وليس أيّ خط سياسي أو تاريخي أو ديني آخر، فكل هذه الخطوط كانت أدوات لتحقيق مصالح لا أكثر، وأظن أنّ قدرة الرجل على القفز في المحطات وعلى مرونة الحركة لتفادي المطبات والفخاخ وامتلاك القدرة على تبديل المواقف وعدم الجمود على موقف بعينه ومواكبة المستجدات هو ما ساعده على البقاء في المشهد لفترة طويلة وعلى الاستمرار في تحقيق الفوز.

 العديد من العوامل دفعت تركيا مؤخراً إلى أن تغير من سياستها بعض الشيء

تسببت سياسة أردوغان الداعمة لبعض التنظيمات الإسلامية في إحداث التوتر بين تركيا وعدد من الدول الأخرى، وقد اتخذ مؤخراً بعض الخطوات الهادفة لإصلاح علاقاته الخارجية؛ برأيك هل كان جاداً في ذلك؟ وهل سيقوم بالمضي في هذه السياسة، أم أنّها كانت تتم في إطار اللعبة الانتخابية لكسب مزيد من الأصوات؟

المسألة منذ البداية تتعلق بالواقعية السياسية، فرجل سياسي متمرس كأردوغان من غير المنطقي أن يتعامل بعقل حالم وبأطروحات أقرب إلى الخيال وبعيداً عن الواقعية السياسية، وهذا هو ما يميزه عن قادة تنظيمات الإسلام السياسي، وبدون شك فإنّ اضطرار الرئيس التركي لتغيير سياسته الخارجية مبني على قراءة دقيقة للواقع بالنظر إلى أنّ التيار الذي يعتمد عليه بشكل رئيسي للتحكم في المنطقة ومدّ نفوذه بالعمق العربي وفرض كلمته إقليمياً ودولياً قد فشل فشلاً ذريعاً، وأظهرت التجربة أنّ فروع جماعة الإخوان، حتى الفرع الذي أبدى تطوراً عن غيره وبعض المرونة في الخطاب، وهو الفرع التونسي، يفتقد تماماً لخبرات رجال الدولة وحنكة ممارسي السياسة، وانهيار فروع هذا التيار في كل النسخ العربية دون استثناء وتعرضها للهزائم الانتخابية والسياسية أكبر دليل على أنّ إمكانياته متواضعة جداً، ولم يكن يستحق كل هذا النفخ الدولي والإقليمي، ولا تفصيل مثل هذا المشروع الضخم لتصعيده وتمكينه، لأنّه عندما ارتداه اكتشف الجميع أنّه ليس على مقاسه، وما دامت أداة المشروع قد هزمت، فلم يكن هناك مفر من إجراء تعديلات كبيرة لاستدراك الخلل، قد لا تكون متعلقة بالتخلي تماماً عن الإخوان وعن الإسلاموية بشكل عام، لكن باتت هناك قناعة أنّ خطاب وممارسات وتحالفات الماضي لا تناسب الواقع الحالي ومستجداته، خاصة أنّ القوى العربية الفاعلة، والتي كانت مستهدفة بهذا المشروع، صنعت فارقاً كبيراً الآن على مستوى تماسك الدولة والتأثير في الملفات المهمة وإثبات حضورها في المشهد الإقليمي سياسياً وثقافياً وحضارياً، مقابل تراجع كبير ونقمة شعبية على الحالة الطائفية والميليشياوية والحزبية الإسلامية المرتبطة بالتدخلات الإقليمية غير العربية سواء في سوريا أو لبنان أو العراق أو اليمن أو ليبيا، ولم يكن أثر تلك الحالة السلبي محصوراً في النطاق العربي والشرق أوسطي، بل عانت من آثاره السلبية كل دول العالم، ولذلك أعاد الكثيرون النظر في جدوى دعم جماعات الإسلام السياسي وفي مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي كانت تركيا والإخوان في القلب منه، لذلك تعامل الرئيس التركي بواقعية مع التطورات لتحقيق مصالح حزبه أوّلاً ومشروعه ثانياً، لأنّ الاستمرار بالأدوات المهزومة يضرّ به، وعدم اللحاق بالمستجدات يجعل تركيا في الخلف متأخرة عن القوى الفاعلة التي تكتلت وصاغت تصورات مشتركة لتحقيق مصالحها في شرق المتوسط وفي الساحات العربية؛ إذن هناك جدية بدون شك في التحولات وإجراء التعديلات، لكنّها تظل في سياق إجراء التعديلات بدون إحداث تحول فارق ومحوري، فهذا ليس من طبيعة العقل البراغماتي الذي يتحسس خطاه ويخطو بحرص وحذر وفقاً لظروف كل مرحلة ومقتضياتها، خاصة أنّ جماعة الإخوان، وإن تراجعت كثيراً بالمنطقة العربية، فإنّه ما يزال لها وجود قوي في ساحات تهم أردوغان، منها أوروبا وآسيا وبعض دول أفريقيا.

هل من الممكن أن يقوم أردوغان بزيارة مصر في الفترة المقبلة، كما أشيع من قبل؟

 هذا وارد جداً، وهي الخطوة المنطقية التالية وفقاً لتسلسل الأحداث، فبعد التنسيق الأمني حدث اتصال دبلوماسي وتبادل زيارات على مستوى وزراء الخارجية، وجرى أيضاً لقاء رئاسي بالدوحة على هامش بطولة كأس العالم؛ ولذلك فزيارة الرئيس التركي لمصر بعد فوزه بولاية ثالثة منطقية وفي محلها، وستكون بمثابة تتويج للخطوات السابقة وبداية انطلاقة لتطبيع كامل للعلاقات، وما يقتضيه ذلك من الدخول في الملفات الإقليمية ذات الصلة وفقاً لمعادلة المصالح المشتركة وتحييد ما يعرقل التسويات وتعظيم فرص التلاقي على رؤى أكثر قرباً وأجدى لتحقيق التوافق، علاوة على التركيز على الشق الاقتصادي والإنمائي بما يفيد البلدين، وأرى أنّ هذا اللقاء يستحق بالفعل وصفه بالتاريخي ككل اللقاءات التي سطرها التاريخ كعلامة فارقة في مسيرته، لأنّه فارق في مستقبل المنطقة والعالم، ويطوي مرحلة وصراعاً مثقلاً بالجراح والشحن والدماء والضحايا، ليبدأ مرحلة أخرى على طريق تكريس الاحترام وتقدير قيمة ومكانة الدول وإظهار الحرص على استقرارها وعلى مصالح شعوبها.

كيف ترى طبيعة العلاقة بين أردوغان وحزب العدالة والتنمية وبين الإخوان، هل هي علاقة تحكمها الإيديولوجيا أم المصلحة؟

 في نظري الإيديولوجيا مجرد أداة، حتى وإن كانت حاضرة في خلفية المشهد وفي الشعارات، فهي مجرد خيط وقطعة تتحرك في اللعبة وليست هي الهدف، أو أنّ خدمتها هو المراد، إنّما هي أداة لتحقيق أهداف أخرى؛ فالإسلاموية بشقّيها السنّي والشيعي هي أداة لخدمة مشروعين قوميين التركي والفارسي، ومن يدقق يجد أنّ ما يجمع بين الإخوان والخومينية من جهة الإيديولوجيا أكبر وأعمق ممّا يجمع بين الإخوان والأردوغانية، فأردوغان نفسه طلب من إخوان مصر عام 2011 احترام العلمانية وغضبوا منه، وقادة إخوان مصر لا يميلون للأسلمة المتدرجة على طريقة أردوغان، وإنّما يميلون لنموذج دولة المرشد كما في إيران، وإحلال الجماعة سريعاً محل الدولة من خلال انقلاب ثوري شامل يقلب الأوضاع خلال أشهر قليلة رأساً على عقب؛ ولذلك استقبل الإخوان قاسم سليماني وكانوا بصدد تشكيل حرس ثوري، أمّا الأردوغانية، فمختلفة كثيراً عن هذا النهج، لأنّها تجعل العلمانية في الخلفية وتبقي على مظاهر الدولة المدنية ولا تطبق الحكم الشمولي الديني بشكل فج، لكنّ المصلحة السياسية تقتضي واقتضت توظيف الإيديولوجيا، رغم الاختلاف بين النموذجين، لأنّ أردوغان نافس آيات الله على الاستفادة من جماعة الإخوان باعتبارها أكبر حركة إسلامية في العالم، ولأنّه لا يتردد في اللعب بكل ما هو متاح أمامه لتحقيق مصالحه، وهذا لا يمنع وجود تلاقي في التصورات الفكرية، فأردوغان وتياره بل حركة ميللي غورش جميعها مؤسسة على تنظيرات محمد قطب شقيق سيد قطب، ولكنْ هناك فارق في طريقة التطبيق وأسلوب التعاطي مع الواقع، فالحركة التي أسسها نجم الدين أربكان عام 1966م، وهي وعاء الأحزاب الإسلامية في تركيا الحديثة، رسم قطب لها الخطوط العريضة والخطط لإقامة دولة إسلامية في تركيا، واصفاً الجيش التركي الحامي للعلمانية بحامي الجاهلية التي ينبغي مواجهتها بجهادية إسلامية، طارحاً مقاربة قطبية بين الحالتين التركية والمصرية، وحدد قطب لأعضاء مللي غورش الطريق نحو إقامة الحاكمية الإلهية بتركيا عبر تغيير الوضع القائم بالكلمة أو بالنضال المسلح لإزاحة كافة أشكال التغريب الثقافي، ومثلت أطروحاته وتنظيراته الأساس الفكري والمنهجي للحركة، لكنّ أردوغان ليس مثلاً كأسامة بن لادن الذي تأثر أيضاً بمحمد قطب وتتلمذ على يديه، فالأخير فتى حالم مضى بأفكار مطلقة زُرعت بعقل شخص لم يتربى على الدهاء والنفعية فبعثرها برعونة في جبال أفغانستان وأوديتها الوعرة، بينما اجتمعت في أردوغان التنظيرات والمناهج التكفيرية مع الميكافيلية والانتهازية، وهو من أثبت جدارته كسياسي براغماتي ووصل إلى رئاسة الوزراء في أنقرة، ليس لأنّ المنهج صحيح، لكن لأنّ العنصر البشري براغماتي مناور ساعدته الظروف الدولية حيث رضخ الجيش التركي ومن ورائه الدولة العميقة لضغوط الغرب وقبل نتائج الانتخابات أيّاً كان الفائز بها، ووضع أردوغان المبادئ التي تعلمها من محمد قطب مؤقتاً في درج مكتبه بمجلس الوزراء، وتالياً بالقصر الرئاسي مُظهراً الكثير من التلون في سلوكه السياسي، مبقياً على علاقات تركيا الاستراتيجية مع إسرائيل، وعلى قاعدة أنجرليك الأمريكية جنوب البلاد، داعياً جماعة الإخوان في مصر لتأسيس دولة علمانية على غرار النموذج التركي، ولم تتأثر رغم ذلك علاقة محمد قطب وأردوغان، واعتبر استمرار مريده في السلطة تعويضاً عن إخفاق أسامة بن لادن حتى في نيل ربع سلطة، حتى جاء موعد فتح أردوغان الدرج وإخراج برامج قطب لتطبيقها بعد اندلاع الحرب الأهلية في سوريا عام 2011م مع حاجة أردوغان لإسقاط النظام السوري واستبداله بنظام إسلاموي موالٍ له.

زيارة الرئيس التركي لمصر بعد فوزه بولاية ثالثة ستكون منطقية وفي محلها

ما أبرز المحددات التي سوف تحكم سياسة أردوغان تجاه الإخوان في الفترة المقبلة؟

 أوّلاً الالتزام بشروط ومقتضيات المصالحة والتقارب التركي العربي بمعنى الدوران من الاستدارة التركية خطاباً وممارسة، وهذا يتطلب تغيير طريقة التعاطي الإخواني مع الواقع المصري والاعتراف بشرعية نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي وعدم انتقاده بالشكل الذي كان في السابق، فضلاً بالطبع عن عدم التحريض على العنف والثورة والتمرد سواء المسلح أو السلمي، وفي هذا السياق أبدت إحدى جبهات الإخوان، وهي جبهة لندن، مرونة، وعرضت تنازلات كبيرة في مرحلة من المراحل بهدف قبولها في الحوار الوطني أو حتى قبولها بدون دور سياسي أو منافسة على السلطة، ونلاحظ في هذا السياق أنّ النظام التركي يتوخى إبعاد الأصوات الزاعقة والمثيرة للجدل مثل أخيراً وجدي غنيم، بينما يحتفظ بالشخصيات الأقل حدة، والتي ترى فيهم أنقرة إمكانية الاستفادة منهم في خدمة مصالح حزب العدالة والتنمية، والمحدد الثاني متعلق بحاجة الإخوان الماسة لاستمرار هذا المستوى المتدني من العلاقة لضمان استمرار إيواء قادتها وعناصرها في ظل الارتباك والتيه الذي تعيشه الجماعة، خاصة أنّ إيران هي الأخرى في طريقها لتطبيع العلاقات بينها وبين الدول العربية، ممّا يعني أنّ الجماعة في طريقها لفقدان أهم حلفائها، وهو ما يحتم عليها الحفاظ على ما هو موجود ومتاح وفقاً لتوجيهات المركز، مع التحلي بسياسة الصبر والنفس الطويل ريثما يجدّ جديد في المشهد، أو تطرأ ثغرة تنفذ من خلالها الجماعة، وهذا السيناريو، وإن كان على المدى البعيد وارداً حدوثه بالنظر إلى أنّ السياسة متغيرة وكثيرة التقلب.

هل تتوقع أن تستمر سياسة أردوغان تجاه إخوان مصر في تركيا كما كانت، أم سوف يحدث فيها تغيير؟ وما حجم هذا التغير؟

الرئيس التركي تحكمه البراغماتية في كل مراحله وتحولاته وتحالفاته وعلاقاته منذ بداياته الأولى في المشهد السياسي، منذ انقلابه على أستاذه أربكان وتدشين حزب جديد أقلّ حدة في التوجه الإسلاموي إلى اليوم، وعلى مستوى علاقاته مع إخوان مصر في تركيا فهي خاضعة لهذا المبدأ الأردوغاني الثابت؛ بمعنى أنّه يوظف الجماعة في الداخل التركي لخدمة أهداف الحزب، وحتى اليوم ما تزال أنشطة عدد كبير من قادة الجماعة وعناصرها ناشطة في الدعاية لحزب العدالة والتنمية في كل المناسبات، كمناسبة التخفيف من تبعات وآثار الزلزال المدمر، وكذلك خلال الاستحقاق الانتخابي الرئاسي، وفي هذا الصدد سيكون حزب العدالة والتنمية بحاجة أيضاً لجهود نشطاء الجماعة في تركيا خلال الانتخابات المحلية المقبلة، أمّا ما يتعلق بالنفوذ الخارجي، فهذا نسبي ويختلف من ساحة إلى أخرى، حيث قلّ وحدثت عليه تعديلات كبيرة فيما يتعلق بالساحات العربية، لكنّه لم يحدث فيه تغيير كبير بشأن حضور الجماعة في أوروبا حيث يستغلها أردوغان للضغط على بعض القوى الأوروبية، وكذلك في بعض الساحات الأفريقية والآسيوية.

ما سيناريوهات الإخوان المتوقعة حال اتخاذ إجراءات أكثر تقييداً تجاههم من جانب تركيا؟ وهل يملكون بدائل، وما أبرزها؟

السيناريوهات مفتوحة لكنّها تظل محكومة بالبراغماتية الأردوغانية وبالعقل الاحترافي البارع في اقتناص المصلحة في الظروف المختلفة، ولذلك فأنا أرجح ألّا يتخذ الرئيس التركي من تلقاء نفسه إجراءات حادة تفصل تماماً بينه وبين الإخوان، ولكنّه سيتعامل مع كل حالة على حدة وفقاً لمقتضيات المصلحة، كما حدث مثلاً مع حسام الغمري ووجدي غنيم، لكنّه في العموم سيبقي على ورقة الجماعة قابلة للاستخدام والتوظيف في أيّ مرحلة آتية، خاصة أنّ الألعاب التفاوضية في الملفات الإقليمية ستحتاج أوراقاً للمساومة وتبادل الصفقات، أمّا البدائل، فموجودة لكنّها تظل بوصفها مكاناً للإيواء والهرب أكثر منها مكاناً لممارسة النشاط في سياق تحالف إقليمي، كما كان الحال عندما كان مشروع الإسلام السياسي بقيادة تركيا قائماً، وحتى المملكة المتحدة هناك محددات لمزاولة مثل تلك النشاطات وليس الباب على مصراعيه، ومن البدائل ماليزيا وكوسوفو.

ما يجمع بين الإخوان والخمينية من جهة الإيديولوجيا أكبر وأعمق ممّا يجمع بين الإخوان والأردوغانية

هل تملك مصر أوراق قوة تجاه تركيا تمكنها من الضغط من أجل اتخاذ أردوغان عدداً من الإجراءات تجاه الإخوان؟

بالأساس كان ما اتخذته مصر أوّلاً حيال الإخوان بتقويض الجماعة وإنهاء نشاطها وتجفيف منابعها الاقتصادية وخلخلة هيكلها القيادي وإيصالها إلى هذا المستوى من الانقسام والتفكك والتشرذم أحد أهم أوراق القوة، فقد أحرقت ورقة الأتراك الرئيسية بالإضافة إلى إلحاق الهزيمة بمختلف جماعات التكفير المسلح وتأمين الحدود واستعادة سيناء من يد الإرهاب، ومن وجهة نظري فملف الإخوان لا يشغل حالياً الأولوية في العلاقات أو النقاشات، لكنّه بالطبع ليس غائباً، ومعروفة جيداً ما هي مطالب مصر حياله، أمّا الأولوية، فممنوحة للملفات الإقليمية سواء الملف الليبي أو ملف شرق المتوسط أو التدخلات التركية في الساحات العربية، وتستطيع مصر ممارسة الضغط بما اكتسبته وحققته في مختلف هذه الملفات وغيرها من تقدّم ملحوظ أثبتت خلاله للجميع أنّها رقم حيوي في مختلف المعادلات، وسيكون من السذاجة مجرد التفكير في تجاوزه أو عدم احترامه وتقديره، إذا أرادت هي الضغط لتصعيد الإجراءات ضد الإخوان.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية