مع فلسطين أم مع حماس؟

مع فلسطين أم مع حماس؟

مع فلسطين أم مع حماس؟


18/12/2023

منذ بدء عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي انقلب العالم وعادت القضية الفلسطينية إلى السطح بوصفها الخبر الأول في كل وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية. وحظيت باهتمام بالغ لم تشهده منذ زمن طويل. غير أنّ الجدل بخصوص حركة حماس والجهاد الإسلامي عاد بقوة أيضاً، وثارت نقاشات عن الإسلام السياسي ومخططاته وتمويله وإمكانية دعمه، بين معارض لحماس بإطلاق؛ لأنها حركة تمثل أطرافاً إقليمية خارجية، وبأنها ذراع الإخوان المسليمين وفرعه في فلسطين، وهناك من ذهب إلى أكثر من ذلك فاتّهمها بأنها ذراع لإسرائيل محتجاً على ذلك بأنها كانت على مدى سنوات تتلقى تمويلات بضغط من نتنياهو، وأنّ حكومة نتنياهو قد تلقت إشعارات بأن حماس ستقوم بعملية وشيكة قبل العملية بأيام غير أن إسرائيل تجاهلت ذلك.

وبالتالي فقد وجد طيف واسع من المثقفين والناشطين العرب أنفسهم في مأزق بين مناصرة قضية الشعب الفلسطيني ومناصرة حركة من حركات الإسلام السياسي، فاضطر كثيرون إلى الصمت إزاء ما يحدث صمتاً مطبقاً كأنهم ينتمون إلى كوكب آخر، بينما صرح بعضهم بموقفه من حماس وأهمل الحرب على غزة وفلسطين عموماً وراح يقصف حماس يومياً  على المنابر ويكيل لها التهم حقّاً وباطلاً.

الذين يساندون حماس وغيرها من الفصائل المسلحة في أغلبيتهم الساحقة يرفضون الإسلام السياسي ويعرفونه كل المعرفة، غير أنهم في الوقت نفسه يعرفون طبيعة العدو الإسرائيلي وغاياته وأهدافه ونظرته إلى الفلسطينيين

 

وقد وجد أصحاب هذا الرأي أنفسهم يكررون حرفيّاً ما يقوله نتنياهو في حملته الدعائية ويكررون جمله ومواقفه بالحرف، فيقولون إن حماس هي حركة إرهابية وإنها السبب في تقتيل الفلسطينيين وإنها تحاصرهم منذ قرابة عقدين من الزمن وإنها منعت عنهم الغذاء والدواء ولم تفكر في تنمية قطاع غزة وإنها رمز للتخريب ولا تفكر في مصلحة الشعب الفلسطيني؛ بل في مصلحتها ومصالح الجهات التي تمولها... إلخ. وهي بالحرف الجمل نفسها التي كررها نتنياهو وما يزال يفعل، وقد أنفق أموالاً رهيبة على حملات الدعاية في أمريكا والغرب عموماً لنشر هذه المواقف على أوسع نطاق، لحشد الدعم لحربه ضد الشعب الفلسطيني في القطاع والضفة، وليجد المبرر لتهجيره والتنكيل به بكل الألوان، وها إن عداد القتلى يزيد، وأغلبيتهم الساحقة ليست من مقاتلي حماس والجهاد الإسلامي وغيرها من الفصائل الفلسطينية المقاتلة  في فلسطين، بل أغلبيتهم الساحقة من الأطفال والرضع والأجنة والنساء والأطفال الخدج. وبالتالي فإن العالم بأسره يدرك أن قضية إسرائيل ليست في القضاء على حماس بل القضاء على القضية الفلسطينية جملة وتفصيلاً، وفي حروبها السابقة على قطاع غزة جميعها كان هدف إسرائيل المعلن هو "القضاء على مخرّبي حماس"، وها إن حماسًا تشتدّ قوة وقدرة على القتال والتخطيط والصناعات العسكرية البسيطة يوماً بعد يوم، وها إن المقاومة تتمكن من تصنيع عديد القنابل والصواريخ وبنادق القنص تصنيعاً محلياً، وكما انتقلت من المقلاع إلى طائرة الزواري وقناصة الغول، ستصنع يوماً ما أسلحة أشدّ فتكاً لتخاطب المستعمر المتوحش بلغته التي لا يفهم غيرها.

وكي يكون الأمر أكثر وضوحاً لا بد من التأكيد على أن العالم العربي قد أسقط الإسلام السياسي من الحكم في بلدان عديدة بعد تجربته في السلطة واكتشاف "ديمقراطيته" الشكلانية المزيفة التي مارس خلالها أبشع الجرائم الانتخابية للوصول إلى السلطة، وبالتالي فإن الذين يساندون حماس وغيرها من الفصائل المسلحة في أغلبيتهم الساحقة يرفضون الإسلام السياسي ويعرفونه كل المعرفة، غير أنهم في الوقت نفسه يعرفون طبيعة العدو وغاياته وأهدافه ونظرته إلى الفلسطينيين.

إننا مع فلسطين والمقاومة الفلسطينية، لا مع حماس ومشتقات الإخوان المسلمين. وإننا ضد إسرائيل الصهيونية المتوحشة التي اغتصبت الأرض.. وما زالت عازمة على أكل ما تبقى من أرض فلسطين، قبل أن تمتد أذرعها إلى البلدان المجاورة

 

فهو أشرس عدو عرفته الأزمنة المعاصرة، يتفنن في تقتيل الفلسطينيين في عمومهم ولا يفرّق مطلقاً بين من ينتمي إلى حماس أو إلى الجهاد الإسلامي أو إلى الجبهة الشعبية أو إلى فتح أو إلى أيّ فصيل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ويعاملهم بطريقة واحدة غايتها القتل بكل الوسائل.

إن الفلسطيني واحد في عرف إسرائيل، وستقاتلهم وتقمعهم وتحرق بيوتهم وتجرّف زيتونهم وتحاصرهم وتهجّرهم وترتكب فيهم أبشع الجرائم مثلما فعلت دومًا، لأنهم يقفون ضد مشروعها الاستعماري الاستيطاني الهمجي من أصغرهم حتى أكبرهم، والطفل في نظرهم أخطر من الشاب وكلاهما أخطر من الكهل والشيخ، وأخطر منهم جميعاً المرأة بوصفها مكنة الحياة والخصوبة والاستمرار الّذي يختزل معنى الوجود الفلسطيني، لذلك نجد في كل حرب أن حصيلة الوفيات من النساء والأطفال أكبر مما نتوقع، ومن السهل حينها أن نتأكد من أنّ آلة القمع والتقتيل والتهجير إنما تهدف إلى إعدام القضية الفلسطينية في رمزيها: الأطفال والنساء، أما مقاومة "الإرهاب" و"المخربين" وغيرها من الشعارات الدعائية الكاذبة فليست سوى ذرائع تمهد للبندقية أكل الأجساد الحية مهما تنوعت تياراتها، فيكفي أن دماءها فلسطينية.

وللخروج من هذا المأزق ليس أمامنا اليوم سوى أن نفكر أبعد من اللحظة الراهنة لأن أمر حماس موكول إلى الفلسطينيين أنفسهم يوم تتحرر أرضهم ويبنون وطنهم الخاص الذي يقررون فيه مصيره بأيديهم. في تلك اللحظة سوف يعرفون كيف يتخلصون من حماس التي ما كانت لتوجد أصلاً لولا وجود الاستعمار الصهيوني ومجازره ونكثه لكل العهود والاتفاقيات التي أبرمها مع الفلسطينيين.

أمر حماس موكول إلى الفلسطينيين أنفسهم يوم تتحرر أرضهم ويبنون وطنهم الخاص الذي يقررون فيه مصيره بأيديهم

 

وليس أبعد من هذه اللحظة سوى معيار واحد: إنه عدالة القضية الفلسطينية وحسبنا ذلك دليلًا كي نساند كل حركة تحرر تحاول نفض الغبار عن القضية وتحريك المياه الراكدة، وليس هناك أكثر من اختيارين لا ثالث لهما: إما أن نكون مع الجلاّد ونوجّه سهام النقد والعار والتنكيل بالضحية كما يفعل بعض الإعلاميين حاليًّا بدعوى معارضة الإسلام السياسي وهي حجّة من لا حجة له، فنكرر إسطوانات نتنياهو بن غفير وسموتريتش واليمين المتوحش في إسرائيل وأمريكا وكثير من الدول الغربية وبعض دول أمريكا اللاتينية، وإما أن نضع نصب أعيننا قضية إنسانية عادلة تناصرها كل الشعوب الحية بعيداً عن إكراهات التحالفات والمصالح الضيقة والأنظار القصيرة. وأعتقد أن الاختيار الثاني هو الأبقى والأكثر ثباتاً لأن القضايا العادلة فضّاحة للكذّابين والجبناء والسماسرة المتاجرين بالقضايا.

إذن، إننا مع فلسطين قضيةً عادلةً، ومناصرتنا لهذه القضية ليست تبنياً لحماس الإخوانية ولا جهلاً بطبيعتها ولا بانتمائها. وليس إمساكنا عن نقدها تحت زخات الرصاص خوفاً ولا موالاة للإخوان بل مخافة أن يلهينا ذلك عن رمي المستعمر وأصل الشر المطلق بحجر السخط والتنديد، ومخافة أن تتوجه سهامنا إلى لوم الضحية الأصلية ومحاسبتها عن كل موقف وإن بدا لنا خاطئاً بدلاً من توجيهه إلى المغتصب الحقيقي ومرتكب أبشع الجرائم على مدى مئة عام أمام أنظار العالم محتمياً بقرابة خمسين فيتو أمريكيّ تدين جرائمه وتلزمه بما يسمى بالشرعية الدولية.

إننا مع فلسطين والمقاومة الفلسطينية، لا مع حماس ومشتقات الإخوان المسلمين. وإننا ضد إسرائيل الصهيونية المتوحشة التي اغتصبت الأرض والهواء والماء والتراب والبشر والنبات وما زالت عازمة على أكل ما تبقى من أرض فلسطين، قبل أن تمتد أذرعها إلى البلدان المجاورة.

مواضيع ذات صلة:

بعض الأوهام في حرب غزة يجب ان تتبدد

ماذا يعني رفض التهجير القسري لسكان غزة؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية