معالم طريق سيد قطب بين الحقيقة والمجاز

معالم طريق سيد قطب بين الحقيقة والمجاز

معالم طريق سيد قطب بين الحقيقة والمجاز


08/12/2022

عمار علي حسن

 يبدأ سيد قطب كتابه «معالم في الطريق» الفاعل بقوة في عقول أتباع الجماعات والتنظيمات المتطرفة بعبارةٍ دالة تقول: “تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية، لا بسبب التهديد بالفناء المعلق على رأسها، ولكن بسبب إفلاسها في عالم القيم”، ليوجه بعدها سهام النقد اللاذع إلى الحضارة الغربية، بشقيها الرأسمالي والاشتراكي، ثم يعدِّد ما يرى أنها أزمة روحية وأخلاقية وفكرية تواجه الغرب، لا يمكن الخروج منها إلا بتبني المسار الذي يراه هو ممثلًا حقيقيًّا للإسلام، رغم أن الأغلبية الكاسحة من المسلمين أنفسهم لا يقرِّون تصورَ قطب، ويرى بعض علماء الشريعة أنه بعيد تمامًا عن الإسلام.

في العموم، لا يمكن قراءة وفهم ما كتبه سيد قطب، لا سيما في مرحلته الأخيرة، والتعامل مع ممارساته في الواقع بعيدًا عن أن أمرين أساسيين، الأول يتعلق بذائقته وملكته وميوله في الكتابة، والثاني يرتبط بطبيعة شخصيته والتجربة الحياتية القاسية التي مرّ بها. وهذه مسألة تنطبق على كل كاتب تقريبًا؛ لأنها تزاوج بين دخائل نفسية وإدراك للدور الذي عليه أن يلعبه في عالم الكتابة، وبين تأثير المحيط الاجتماعي على شخصه وما يكتبه.

فسيد قطب بدأ حياته شاعرًا وناقدًا، وحاز في هذا اعترافًا من الجماعة الأدبية في مصر، لكنه لم يفارق هذه المرحلة في أسلوب الكتابة، حتى بعد تحوله إلى الكتابات الإسلامية. فتغير توجهه الفكري والسياسي لم يغير نظرته إلى “النص”، منتقلًا من قراءة نص قصصي وروائي وشعري إلى نص ديني كالقرآن والحديث النبوي.

ولا بأس من الاستفادة من بعض مناهج نقد وفهم النصوص الأدبية في التعامل مع نص ديني يقدسه الناس، ويؤمنون بأنه “قول الله” أو “قول الرسول”، لكن قطب لم يتوقف عند الفهم والتأويل البلاغي أو السياقي أو التعامل الروحاني والوجداني مع القرآن، إنما قفز إلى تصور وإصدار أحكام وحدود شرعية، وعرضها ليس بوصفها مجرد رأي أو خواطر حول الإسلام، إنما هي الإسلام ذاته، أي صحيحه وطريقه الأصيل، كما فهمه ومارسه ما أسماه هو “الجيل الرباني” أو “الجيل الفريد” من الرعيل الأول من رجالٍ كانوا حول الرسول.

وفي هذا أتت معالجاته دومًا لقضايا إسلامية شرعية غارقة في البيان أو البلاغة، مع أنها تحتاج بالدرجة الأولى إلى ثقافة فقهية وقانونية، وسياسية وتاريخية واجتماعية، لم يكن قطب ملمًّا بها على نحو راسخ، ولم يكن أحد سيطلبها منه لو ظل تعامله مع النص القرآني هو تعامل الأديب، الباحث عن المجازات والمفارقات والصور والموسيقى الداخلية، كما جاء في كتابه «التصوير الفني في القرآن»، إنما المشكلة في ارتدائه ثوب الفقيه أو المنظر والمشرع الديني والواعظ الغيور على الإسلام، المتصدي للكارهين له، والخارجين عليه، والمرتدين عنه، حسب تصوره، ثم المنظر أو المفكر السياسي.

وما زاد الطين بلّة هو أن الذين اتخذوا من كتابات قطب لا سيما «معالم في الطريق» ما يشبه “البيان المؤسس” أو “المانيفستو” تعاملوا معه عامدين على أنه كتاب “شرعي” أو “تشريعي” يحمل “نظرية سياسية إسلامية”، وليس على أنه مجرد مكتوب دعائي يخاطب العاطفة، ويلهب الحماس، ويجذب النفوس ببلاغته الفياضة، وهو ما ينفع في ساعات ما قبل النزال أو الحرب، التي تصورت الجماعات والتنظيمات السياسية التي توظِّف الإسلام في تحصيل السلطة أنها تخوضها ضد الأنظمة الحاكمة والمجتمعات التي نعتتها بأنها تعيش جاهلية أو غفلة أو تواطؤًا مع من وصفهم المتطرفون بأنهم “أعداء الإسلام”، وهو في هذا نقل نقلًا واسعًا عن الباكستاني أبو الأعلى المودودي، رغم الاختلاف الكبير بين السياق الاجتماعي ـ السياسي المصري عن ذلك الذي كان سائدًا في بلاد الهند وقت تأليف المودودي لكتابيه «المصطلحات الأربعة في القرآن» و«الحكومة الإسلامية»، ثم يبتعد السياق أكثر في التاريخ، نظرًا لأن المودوي نفسه نقل عن ابن تيمية الكثير من أفكاره، وبذا يصبح كتاب سيد قطب عبارة عن اغتراب من اغتراب، ظنَّ الذين وثقوا فيه وآمنوا به أن فيه المنطلقات الأساسية للحركة الإسلامية المعاصرة، ووجدوا التفسير الأوسع لها في التصورات الأدبية التي فصَّل فيها قطب حول القرآن الكريم وعنونها بـ «في ظلال القرآن».

ومع أن الكتابات الأخرى التي تمثِّل الإطار النظري العام الذي يحكم سلوك هذه التنظيمات تبدو وكأنها من قبيل الفتاوى أو التخريجات والأحكام الفقهية في الغالب الأعم، فإن قطب، الذي لم يتبع هذه الطريقة في التأليف، وجد أمامه الدرب ممهدًا كي ينشر كتبه بين أتباع الإسلام السياسي بدءًا من “جماعة الإخوان المسلمين” وانتهاء بالتنظيمات “الجهادية” التي لا تعرف طريقةً للتغيير سوى حمل السلاح، نظرًا لأن هذه التنظيمات كانت في حاجةٍ ماسة إلى “بيان عام” سلس في صياغته، وقاطع وحاد في رأيه، وجاذب لكل من يبحث عن اتجاه سياسي ينتمي إليه بين الشباب في أول أعمارهم التي تتشكَّل فيها الاتجاهاتُ والتحزبات، وهي مسألةٌ تعمَّقت بعد إعدام قطب. فالطبعة الأولى من الكتاب لم تلقَ رواجًا واسعًا، بل إن الدولة المصرية لم تجد غضاضة في التعامل مع الكتاب، حيث يقال إن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر نفسه أجاز هذا، لكن ما إن شُنق المؤلف حتى تعمَّد الكتابُ بموته، وصار وثيقة عند أغلب الجماعات الدينية السياسية.

لم يطرح سيد قطب العلم والمعرفة ولا الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي كبديل لما رآه إفلاسًا للحضارة الغربية، إنما قدم أيديولوجيا صاغها دون أي مسار عصري للبرهنة والاستدلال، دارت بالأساس حول مفهوم “الحاكمية” التي لن تتحقق، من وجهة نظره، إلا باستعادة ما وصفه بـ “الجيل القرآني الفريد” الذي مثله الرعيل الأول من المسلمين، ممن تحلقوا حول الرسول عليه الصلاة والسلام. ويشترط قطب لهذا الاستراداد أمرين: التعامل مع القرآن كمنهل أو منبع وحيد لاستقاء المعرفة والموقف من الحياة، ثم التعامل معه على أنه تكاليف صادرة مباشرة من الله سبحانه وتعالى، ولذا يجب الامتثال لها، والالتزام بها.

وهنا كان عليه أن يدرس “طبيعة المنهج القرآني” الذي يراه قائما على مسألة عقدية تتمثل في الألوهية والعبودية، فتجعل الإنسان عبدًا لله وحده، وتنفي الألوهية عن البشر. وبالطبع فليست هناك مشكلة في هذا، بل هي قضية يؤمن بها كل من فهم حقيقة الإسلام الذي رآه الإمام محمد عبده “رسالة التوحيد”، لكن سرعان ما يربط قطب القضية بـ “الحاكمية” من جديد، فيرى الألوهية هي “الحاكمية العليا” التي تعني نزع السلطة من الحكام والأمراء وشيوخ القبائل والكهان.. الخ.

ويبدو هذا جاذبًا لا سيما في سياقات سياسية غير رشيدة أو لا ديمقراطية أو لدى جماعات وتنظيمات تريد القفز إلى السلطة وفق أيديولوجيا لا تقبل المساءلة، وفي معية نهج ينفر من المراجعة والحساب. فالحديث عن رد السلطة مباشرة إلى الله يدرك أصحابه بالقطع أن الله تعالى لن ينزل من عليائه ليحكم الناس كما يفعل أهل الحكم، فيفلتون من هذه بالادعاء أن الحكم سيكون هو الالتزام بالتكليف الشرعي، ثم يزعمون أنهم هم الذين يفهمون طبيعة التكليف، ولهم الحق وحدهم في تعيينها وتفسيرها، ووضع ما يحتاجه الناس من تكليفات وتشريعات مستجدة تواكب طبيعة الحياة المتغيرة، فيتحولون بالتتابع إلى وكلاء مزعومين لله.

وحتى يصل إلى ما يصبو إليه أعطى قطب الفصل الثالث من كتابه عنوانًا دالًّا هو “نشأة المجتمع المسلم وخصائصه” ليراه مجتمعا مربوطا بالعقيدة التي صهرت أشتاتًا من البشر، يختلفون في الأعراق والديانات السابقة التي كانوا يعتنقونها، وعلى هذا المجتمع أن يدخل، في رحلة قيامه، في صراع وجود ضد المجتمع القائم، الذي هو في نظر قطب “مجتمع جاهلي”، ولهذا يتحدث قطب عن “الجهاد” باعتباره القوة القادرة على الدفاع عن المجتمع المسلم، وينزع بالطبع إلى “جهاد الطلب” أي مهاجمة ما يراه العدو، وليس “جهاد الدفع” الذي يقره القرآن، ويجعل الحرب، التي هي شيء كريه، دفاعية وعادلة.

وفي الكتاب يثير قطب نقطة مهمة حين يجعل جنسية المسلم هي عقيدته، ويقدم رابطة الإيمان على رابطة الدم، ومثل هذا القول يحمل بالقطع عدم اقتناع بالدولة الوطنية الحديثة، التي تشكِّل المطاف الأخير، حتى الآن، لرحلة البشر في البحث عن كيان جامع محددة فيه الحقوق والواجبات وقائمة على التوافق أو العقد الاجتماعي، بعد أن جربت زمن العشيرة والقبيلة ثم الإمبراطوريات المتصارعة التي تتعاقب على حكم الأرض أو جزء كبير منها، وعاش فيها الناس مجرد عبيد أو رعايا. ويمكن أن يقول أنصار قطب إن الدولة الوطنية هذه وثن، ونحن لسنا ملزمين بها، وعلينا أن نعود إلى عصر الإمبراطورية متمثلة في خلافة تجعل مثلًا علاقة المسلم المصري بأخيه المسلم الفلبيني أقوى من علاقته بجاره المسيحي؛ لأن في هذا عزًّا للإسلام مثلما كان.

وينسى هؤلاء أن الإمبراطورية الإسلامية نفسها في عهودها الأموية والعباسية والعثمانية لم تحافظ على تماسكها، ولم يُقَم فيها العدل إلا فتراتٍ محدودة جدًّا، وعاش داخلها المسلمون مجرد رعايا لحكم زعم أنه يدير الأمر باسم الله، وإن لم يقل هذا صراحة في كلِّ وقت، فإنه تصرف على هذا الأساس دومًا.

علاوة على هذا، فإن جعل جنسية المسلم هي عقيدته، أو أن يكون الإسلام نفسه هو المواطنة أو الجنسية، يصادر على عالمية رسالة محمد، التي تتجاوز الدولة ككيان سياسي تختلف نظمه السياسية وتتطور وفق مصالح الشعب، بل إن بعض الدول يمكن أن تزول من الوجود، بينما العقائد ثابتة. كما أن هذا التصور يحوِّل الأقليات المسلمة في مختلف البلدان إلى جماعة جاحدة أو منبوذة، متهمة بعدم الانتماء، أو يجعلها تعيش في “جيتو” أو “كهف” أو “جب” بينما المطلوب منها أن تتفاعل مع كل محيطها الواسع لفعل الخير، وتضرب مثلًا ناصعًا على سماحة الإسلام، وقدرته على التكيف والتجدد.

ويعمِّق قطب المشكلة حين يتحدث عن “استعلاء الإيمان”، حيث يطلب ممن ساروا على الدرب الذي رسمه أن ينظروا إلى الآخرين على أنهم أقل وأدنى، لأن هؤلاء ليسوا بمؤمنين أو خارج المسار السليم والطريق المستقيم أو على الأقل منحرفين عنه، أو غير قادرين على أن يسلكوه. وبالطبع فإن إقامة هذه التراتبية، فضلا عن انطوائها على عنصرية لا يقرُّها القرآن، فإنها تعطي جماعة ما فرصة للشعور الزائف بالاصطفاء، لشيءٍ يصعب قياسه ماديًّا، ويسهل فيه الادعاء والكذب. فالتراتبية القائمة على الذكاء وبذل الجهد والدأب والعطاء، يمكن الوقوف عليها علميا، بل تبريرها، وحتى تلك القائمة على السلالة أو القدرات الاقتصادية يمكن قياسها، حتى لو رفضنا سلبياتها، لكن توزيع الناس على الإيمان والكفر، والقرب من الله والبعد عنه، يفترض أن الموزع لديه القدرة على أن يعرف المخبوء في القلوب والنفوس، ولديه الحق في الوقت نفسه في الحكم على الناس، متآليًا على الله تعالى.

ينهي قطب كتابه باستعراض قصة أصحاب الأخدود، بوصفهم المثل الأعلى الذي يجب أن ينتهجه كلُّ من يسلك “الطريق” إلى تحقيق “المعالم” السابقة التي قصدها، وهي حكاية قرآنية عن أولئك الذين لم يتنازلوا عن إيمانهم بعد شيهم فوق النار أحياء.

ولا شك أن تمسك الإنسان بما يؤمن به، واستعداده تحمل الأذى في سبيله، هو أمر عظيم، لا اختلاف عليه عند كل نبيل شريف قوي أمين، لكن مشكلة هذا الطرح أنه ينطلق من زعم قطب أن المعتنقين لأفكاره هم الفئة المعاصرة المماثلة لأصحاب الأخدود في قوة إيمانهم، ومضاء عزيمتهم، وطهارة قلوبهم، ونقاء أفكارهم وسلامة قصدهم، ليبقى هذا مجرد مجاز آخر قائم على التشبيه، وكذلك استعارة أمثولة قديمة كي تؤدي وظيفة لحساب مشروع جديد، لا يوجد ما يضمن أنه يجسد بالقطع ما كان يريده أصحاب الأخدود، ويكافحون من أجله.

عن موقع "عين أوروبية على التطرف"

الصفحة الرئيسية