لماذا ترى إيران في التغيّرات الجيوسياسية في القوقاز خطراً على أمنها القومي؟ (1)

لماذا ترى إيران في التغيّرات الجيوسياسية في القوقاز خطراً على أمنها القومي؟ (1)


08/09/2022

سركيس قصارجيان

تواصل طهران التفاوض مع واشنطن على ملفها النووي بعينين تراقبان الشرق الأوسط من جهة وجارتها الشمالية أذربيجان من جهة أخرى، نظراً الى التحوّلات الكبرى والسريعة التي تشهدها المنطقتان لناحية محاولات تطويق إيران تجارياً والضغط عليها عسكرياً عبر مبادرات التطبيع مع تل أبيب والنشاط الإسرائيلي المتزايد في كلا المنطقتين، من جهة، ومشاريع تغيير الحدود التاريخية في القوقاز، من جهة أخرى.

"ممر زانكيزور" الاستراتيجي إحياء لمشروع "غوبل"

نشّط التفاهم عقب حرب كراباخ الثانية بين أرمينيا وأذربيجان في عام 2020 من آمال الأخيرة في احداث تغيّر جيوسياسي في المنطقة، اذا برز موضوع فتح ممرات النقل إلى واجهة تصريحات المسؤولين الأذربيجانيين والأتراك على حد سواء.

تركز كل من أنقرة وباكو منذ نهاية حرب الـ 44 يوماً على مسألة افتتاح ممر زانكيزور المتاخم للحدود الإيرانية جنوب أرمينيا، والذي سيربط بين أذربيجان وجمهورية ناخيتشيفان الأذربيجانية المتمتّعة بالحكم الذاتي داخل أرمينيا، ما يمهّد لفتح طريق يربط أذربيجان بتركيا، ومع توسيع المشهد، آسيا بأوروبا، ويسهّل من تموضع أنقرة في قلب دول الاتحاد السوفياتي ذات السكان من جذور تركية.

يعتبر ممر زانكيزور أقصر طريق للنقل البري بين آسيا الوسطى وأوربا، كما أنّه يشكّل بوابة لأنقرة للوصول إلى حوض بحر قزوين، إلى جانب كونه الطريق الأسرع المؤدي إلى الصين، ما يعني تنشيط الحركة التجارية من الهند والصين ودول أخرى في شرق آسيا وجنوبها باتجاه أوروبا عبر القوقاز والبحر الأسود وبالعكس.

لكن، على عكس الحماسة المتزايدة لكل من تركيا وأذربيجان لمشروع الممر الاستراتيجي المذكور، والذي يحظى بمباركة غربية من الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي أيضاً، فإن الصيغة التي باتت كل من باكو وأنقرة تتحدّثان عنها حول "تنازل أرمينيا" عن الممر لجارتيها مقابل مزاياً اقتصادية والحصول على ممر يربطها بناغورني كراباخ المعلن اقليم حكم ذاتي من طرف سكّانه الأرمن، فإن المواقف الإيرانية في الآونة الأخيرة باتت تشير بوضوح إلى رفض طهران المشروع بالصيغة التركية.

أكد المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي خلال استقباله الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين على هامش اجتماع آستانا الأخير في طهران قبل شهرين رفض بلاده بشكل قاطع أي صيغة تتضمن تنازلاً أرمينياً عن الممر لمصلحة أذربيجان أو تركيا، قائلاً: "إن كان هناك مشروع لإغلاق الحدود بين إيران وأرمينيا، فالجمهورية الإسلامية الإيرانية سترفض ذلك، لأن هذه الحدود هي طريق التواصل عبر آلاف السنين".

الموقف ذاته أكّده الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي خلال المكالمة الهاتفية التي تلقّاها من رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان حينما شدّد على أن بلاده "لا تقبل أي تغيير في الجغرافيا السياسية للمنطقة"، مجدداً حساسية إيران تجاه حدودها القوقازية واستعدادها لمواجهة أي محاولة لتغيير هذه الحدود.

ويشرح الزميل المساعد في معهد عصام فارس للسياسة العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت يغيا طاشجيان لـ "النهار العربي" أنه "على الرغم من أن البند التاسع  من البيان الثلاثي الموقع بين أرمينيان وأذربيجان وروسيا في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، ينص على تأمين أرمينيا طريقاً لربط ناختشيفان بجمهورية أذربيجان لأهداف تجارية كم دون ورود كلمة ممر، إلا أن باكو تدّعي أن هذا البند تصريح لإنشاء ممر زانجيزور".
في آذار (مارس) 2022، وقّعت باكو اتفاقية مع طهران بشأن طريق للوصول إلى إقلين ناخيتشيفان عبر إيران متجاوزة أرمينيا، في خطوة إيرانية لإلغاء تطلعات جارتها لإنشاء ممر عبر جنوب أرمينيا، ولكن بحسب طاشجيان "تبدو باكو غير راضية عن هذا الطريق وتفضّل إغلاق الحدود الأرمنية الإيرانية وإنشاء ممر في المنطقة يتمتّع بوضع قانوني معيّن".

من جهة ثانية يرى الباحث في كلية الجغرافيا السياسية في جامعة طهران د. سالار سيف الدين في تصريحات إلى "النهار العربي" أن "ادعاءات الرئيس الأذري الهام علييف حول الممر تتجاوز الأهداف المتعلّقة بالمرور وتسهيل التجارة لتتحوّل إلى تهديدات لوحدة أراضي أرمينيا، وإلا هناك البديل عن الممر عبر الأراضي الإيرانية، كما أن علاقات أذربيجان مع إيران أفضل بكثير من مثيلاتها مع أرمينيا، فلماذا الإصرار على ممر عبر الأخيرة، بخاصة أن إيران تؤمن وصول أذربيجان إلى ناختشيفان عبر أراضيها منذ أكثر من 30 عاماً".

يبدو المشروع الأذري-التركي متوافقاً في الأساس مع "خطّة غوبل" التي أعلنتها الولايات المتحدة في عام 1992 مع تفجّر حرب كراباخ الأولى، والتي انتهت بانتصار أرمينيا بمساعدة روسيا وإيران وسيطرتها على كامل الإقليم بالإضافة إلى مناطق أذربيجانية في محيطه، ومنها منطقة لاتشين التي تعتبر الممر الوحيد لربط الإقليم بأرمينيا، وهو ما نصّت عليه خطة غوبل التي تتضمن باختصار تبادلاً للأراضي بين الجارتين، بحيث تحصل أرمينيا على ممر لاتشين الاستراتيجي من حيث ربطها بإقليم كاراباخ، مقابل تنازلها عن ممر زانكيزور الاستراتيجي أيضاً لباكو التي ستتمكن من الوصول إلى اقليم ناخيتيشيفان وتركيا.

فيتو إيراني على مشروع "ممر زانكيزور"

ويشرح سيف الدين، الكاتب الإيراني من أصل أذري، أن "الفارق بين مشروع ممر زانكيزور الحالي ومشروع غوبل في التسعينات، هو عدم اضطرار أذربيجان اليوم للتنازل عن ممر لاتشين من أجل الحصول على ممر زانكيزور (كما تضمنت خطة غوبل) وإنما السعي الى إلحاق محافظة زانكيزور في ولاية سونيك الأرمنية بها، كونها المنتصر في الحرب الأخيرة".

تؤكد إيران، التي رفضت مشروع غوبل في نهاية القرن الماضي  رفضها مشروع ممر زانكيزور اليوم، لأن الممر في حال اقامته سيؤدي، بحسب طاشجيان إلى "حرمان إيران من دخل ترانزيت الصادرات التركية إلى آسيا الوسطى وأفغانستان، وستخسر أيضاً عائدات عبور أذربيجان".

ويشرح طاشجيان بأن "الإيرانيين يشعرون بالقلق من أن ترى تركيا في ممر زانكيزور مستقبلاً فرصة للتحرر من الحاجة إلى إيران لعبور البضائع ، وبالتالي خلق عقبات أمام تصدير البضائع الإيرانية عبر تركيا، ومع فقدان حدودها مع أرمينيا، ستكون طرق التجارة الإيرانية مع أوروبا وأوراسيا تحت رحمة طرق التجارة التركية والأذرية".

ويضيف: "دعونا لا ننسى أن أرمينيا هي الدولة الوحيدة العضو في الاتحاد الاقتصادي الأوروبي-الآسيوي التي لها حدود مع إيران".

بالأمس، نشر موقع الإذاعة الحكومية الأرمينية خبراً عن الاتفاق لإطلاق خط إنتاج للسيارات الإيرانية في أرمينيا، بعد مباحثات بين رئيس منظمة التنمية التجارية الايرانية علي رضا بيمان باك ونائب وزير الاقتصاد الأرميني ناريك تيريان، الذين ناقشا أيضاً "سبل تنمية العلاقات التجارية والمسارات البديلة لترانزيت السلع وقائمة لمقايضة البضائع وإطلاق خط إنتاج مشترك للأجهزة المنزلية والالكترونية" حسب الموقع ذاته.

وصرّح بيمان باك أنه "مع الأخذ بعين الاعتبار عضوية أرمينيا في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، يمكن أن يكون له نتائج جيدة لكلا البلدين" كاشفاً عن زيارة مبرمجة لوفد تجاري إيراني كبير لأرمينيا في تشرين الأول (اكتوبر) المقبل بالتزامن مع افتتاح المركز التجاري الايراني في يريفان كمقر للشركات الإيرانية الراغبة بممارسة النشاط الاقتصادي في أرمينيا.

واستضافت العاصمة الأرمينية يريفان في الأول من أيلول (سبتمبر)، منتدى الأعمال الأرميني-الإيراني، الذي طرح أهداف رفع العلاقات الاقتصادية الثنائية إلى مستوى أعلى، وزيادة حجم التبادل التجاري وتعزيز العلاقات بين رجال الأعمال في البلدين، وكان لافتاً للانتباه ترأس حاكم مقاطعة أذربيجان الشرقية الإيرانية عابدين خرام الوفد الإيراني إلى يريفان.

وسجّل النشاط التجاري بين أرمينيا وإيران نمواً كبيراً في الأشهر الستة الأولى من عام 2022 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021، ليبلغ حوالي 307 مليون دولار من نحو 224 مليون دولار العام الماضي، وسط عزم يريفان على اتخاذ خطوات لجذب الاستثمارات الإيرانية وإيجاد أسواق جديدة للمصدرين والمصنعين الأرمن.

ويؤيد سيف الدين أطروحات طاشجيان شارحاً الرفض الإيراني لإنشاء الممر بالقول: "لا توجد دولة ذات سيادة في العالم تقبل بإنقاص جيرانها، وإيران لن تقبل بأن تخسر الحدود مع أي من جيرانها الـ 15، كما أن خسارتها حدودها مع أرمينيا تعني تقويض المشاريع الجيوسياسية التي تعمل عليها منذ أكثر من عقدين بما يخص طرق الوصول إلى جورجيا والبحر الأسود وبالتالي إلى أوربا، بالإضافة إلى خطوط الغاز".

ويرى طاشجيان أن "ازدياد النفوذ الاقتصادي والسياسي لأنقرة وباكو على طهران يمهّد الطريق للحركات الانفصالية القومية التركية في شمال إيران".
وبحسب سيف الدين، فإن أذربيجان "تعيش سيندروم إيراني قائم على مخاوف من سعي إيران للسيطرة على الأراضي الأذربيجانية، وهذه المخاوف نتيجة لانعدام ثقة قومية. بسبب كونها جزءاً من إيران على مدى عقود يخيم على القومية الأذرية الظل الإيراني، لذلك فهي تعمل على الدوام للتحرر من هذه المظلّة، من خلال توليد مشاريع معادية لإيران عبر التاريخ واللغة والثقافة وبطرق طفولية".

أدى انتصار أذربيجان في حرب كراباخ الأخيرة إلى تصاعد المشاعر القومية لدى الإيرانيين من أصول تركية وأذرية، وهم الأقلية الأكبر في البلاد. وتزامن ذلك مع نشاط إعلامي ودعائي تركي وأذري متزايد لبعث "الروح الطورانية" بين الإيرانيين من أصول أذرية، بالإضافة إلى مواطني الدول السوفياتية السابقة الأخرى.
يوضّح رد الفعل الإيراني القاسي على خطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في يوم مراسم الاحتفال بانتصار أذربيجان على أرمينيا، حينما قام بترداد مقطع من قصيدة قومية أذرية تنطوي على مطالب جغرافية من إيران، حساسية طهران اتّجاه سياسات احياء القومية التركية بين فئة تقدر بأكثر من 25 مليون من مواطنيها.

أعقبت الخطاب المذكور مطالبات من  الإيرانيين الأذر بتعلّم اللغة التركية في المدارس، وخروج تظاهرات نادت بشعارات ومطالب قومية، أثارت رد فعل قوي من قبل الإيرانيين القوميين والمحافظين دينياً على حد سواء.
ويرى سيف الدين أن "علييف، الذي ورث البلاد من والده ويستعدّ لتوريثها لزوجته الشاغلة منصب نائب الرئيس، استغّل حرب كراباخ من أجل عسكرة المجتمع الأذري، من خلال شعارات قومية وحكايات انتصار لم يكن ليتحقق في الأصل من دون التحالف التركي الإسرائيلي الباكستاني والمرتزقة السوريين، في حين بقيت أرمينيا الصغيرة بسكانها الـ 3 ملايين من دون مساندة وهو ما منعها من تكرار سيناريو الانتصار في عام 1994".

ويضيف "ليست أذربيجان من انتصرت على أرمينيا، بل إسرائيل وتركيا. لذلك فإن تسويق ما حصل كانتصار أذري سيؤدي إلى نتائج كارثية على باكو بسبب خطئها في تقدير قوّتها. فالسيطرة على أربع أو خمس مدن مهجورة في كراباخ تختلف كلّياً عن محاربة إيران ذات الثمانين مليون نسمة".

وينهي طاشجيان حديثه الى "النهار العربي" بالقول: "تعتقد إيران أن أرمينيا هي طريق طبيعي وممر نقل بين الشمال والجنوب لربط الخليج العربي بالبحر الأسود، وهذا من شأنه أن يعزز موقع يريفان الجيوسياسي والجيواقتصادي في المستقبل. يريفان هي الحليف الطبيعي لطهران لاحتواء التطلعات الطورانية لكل من تركيا وأذربيجان. بعد الحرب الأوكرانية، بتنا نشهد مستوى جديداً من الخلاف بين أنقرة وموسكو، وهذا يثير تحدّيات إضافية لأرمينيا، التي هي في أمس الحاجة للبحث عن شركاء جدد مثل إيران والهند، يمكن أن يعززوا موقعها بعد الحرب في المنطقة".

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية