كيف أصبحت تركيا أكثر تديناً؟

كيف أصبحت تركيا أكثر تديناً؟

كيف أصبحت تركيا أكثر تديناً؟


18/09/2023

ترجمة: محمد الدخاخني

بعد تخلّفه بمباراتين مقابل مباراة واحدة أمام منافسته صربيا، عاد المنتخب الوطنيّ التّركيّ للسيدات ليفوز بالمباراتين الأخيرتين ويَظفر بشكل دراميّ بأوّل بطولة أوروبيّة لكرة الطّائرة له على الإطلاق. وقد وصفت إحدى وسائل الإعلام الغربيّة الانتصار بأنّه «مصدر نادر للفخر الوطنيّ يحظى بقبول عبر الانقسامات الاجتماعيّة في البلاد».

قد يكون هذا مجرّد تفكير بالتمنّي، حيث اصطدمت اللاعبات في الأيّام القليلة الماضية بشكل صريح بميل بلادهنّ نحو اليمين. ومن المعتقد أنّ المحافظين المتديّنين في تركيا ينظرون إلى اللاعبات، برؤوسهنّ وأذرعهنّ وأرجلهنّ المكشوفة، باعتبارهنّ قدوةً سيئة.

استنكر العديد من كتّاب الأعمدة شديدي المحافظة البطولة ووصفوها بأنّها وصمة عار. ووصفت إحدى الصّحف الإسلامويّة لاعبةً نشرت صوراً إيحائيّة لها مع نساء أخريات على وسائل التّواصل الاجتماعيّ بأنّها «عار وطنيّ»، بينما قال رئيس بلدية أنقرة الرّاسخ والمنتمي لـ«حزب العدالة والتّنمية»، مليح جوكجيك، إنّ اللاعبة «لا تستحقّ أن تكون في المنتخب الوطنيّ».

لفهم كلّ هذا من الأفضل البدء من البداية. بعد تأسيس جمهوريّته العلمانيّة المحتضِنة للغرب في عام 1923، ألغى مصطفى كمال أتاتورك منصب الحاكم المسلم، وسحق المبادرات المُحافِظة، ومن خلال إنشاء «رئاسة الشّؤون الدّينيّة»، أو «ديانة»، تولّى مقاليد الإسلام في تركيا.

ومنذ وصوله إلى السّلطة في عام 2002، سعى الرّئيس رجب طيّب أردوغان وحزبه، «حزب العدالة والتّنمية»، إلى مناصرة المُحافظين المهمّشين في تركيا وإحياء الأفكار الدّينيّة التي تعود إلى العصر العثمانيّ، وهو ما أدّى فعليّاً إلى تراجع قدر كبير من إرث أتاتورك. ويبدو أنّ أردوغان وحزبه قد ابتعدا عن الإسلامويّة في الأعوام الأخيرة، وقلّصا دعمهما لجماعة «الإخوان المسلمين»، على سبيل المثال، مقابل تحسين العلاقات الإقليميّة.

دولة أكثر مُحافَظة

لكن منذ شراكته مع الأحزاب الدّينيّة اليمينيّة والتّفوّق على منافسيه الكماليّين ربما للمرّة الأخيرة في أيار (مايو)، يبدو أنّ الزّعيم التّركيّ الرّاسخ قد أعاد التزامه بإقامة دولة أكثر مُحافَظة من النّاحية الإسلاميّة، قبل أن تحتفل جمهوريّة أتاتورك بذكراها المئويّة الشّهر المقبل.

لاعبات تركيات يحتفلن بأول بطولة أوروبية لكرة الطائرة (ا ف ب)

ويبدو أنّ كلّ يوم يحمل معه خطوة تقليديّة أخرى. لقد فرضت هيئة تنظيم البثّ في تركيا غرامات على منصّات البثّ الرّئيسة، بما في ذلك «نيتفليكس»، و«ديزني بلس»، و«أمازون برايم» و«موبي» بسبب محتويات جنسيّة. وأُغلِقَ مقهى في إسطنبول بسبب استضافته فعالية «للمواعدة السّريعة»، وهو مصطلح يشير على ما يبدو إلى العلاقات الحميميّة التّصادفيّة.

وطردت هيئة الإذاعة والتّلفزيون التّركيّة، «تي أر تي»، ممثلة شهيرة بعد أن نشرت صورةً لها بـ«البكيني» على «إنستغرام». ومنعت السّلطات التّخييم واستهلاك الكحول على أرض مهرجان موسيقيّ كبير، ممّا أدّى إلى إلغائه في اللحظة الأخيرة.

يمكن أن يكون المنتخب الوطنيّ النّسائيّ التركي الفائز ببطولة أوروبا مجرّد بداية. فقد قالت إحدى اللاعبات إنّ الفريق يعمل على تعزيز رؤية مؤسّس البلاد

وأصدر مُحافِظ إسطنبول، الأسبوع الماضي، تعميماً بحظر تناول المشروبات الكحوليّة في الحدائق والشّواطئ العامّة. ودعت نقابة المحامين في إسطنبول على الفور إلى إلغاء الحظر، بحجّة أنّه ينتهك حقّ المواطنين في الخصوصيّة المنصوص عليه في الدّستور.

وبطبيعة الحال، فإنّ كلّ هذه التّحرّكات الأخيرة تتبع اتجاهاً قائماً منذ فترة طويلة. قبل عقد من الزّمن، رفعت حكومة «حزب العدالة والتّنمية» الحظر المفروض على ارتداء الموظّفات الحكوميّات الحجاب، وكان هذا قراراً تاريخيّاً. وفي عام 2013، أيضاً، حظرت تركيا إعلانات المشروبات الكحوليّة وبيعها بعد العاشرة مساءً، حيث دافع أردوغان عن القانون باعتباره «شيئاً يأمر به الإيمان».

لكن الدستور التّركيّ يحظر «إقامة النّظام الاجتماعيّ، والاقتصاديّ، والسّياسيّ، والقانونيّ الأساسيّ للدّولة، ولو جزئيّاً، على مبادئ دينيّة». وقد يساعد هذا في تفسير سبب تعهّد الرّئيس، في عطلة الأسبوع الماضي، بوضع دستور جديد يناسب «القرن التّركيّ» القادم.

وجدت دراسة عام 2019 أنّ سبعة في المائة فقط من الأتراك الذين تتراوح أعمارهم بين خمسة عشرة وتسعة وعشرين عاماً يصفون أنفسهم بأنّهم محافظون

قبل عامين، انسحبت تركيا من «اتّفاقيّة إسطنبول»، وهي أقوى آلية تنفيذيّة في العالم ضدّ العنف المنزليّ. وزاد بشكل حادّ عدد المدارس التي تُركّز على الدّين في عهد «حزب العدالة والتّنمية»، وزادت ميزانيّة «رئاسة الشّؤون الدّينيّة» ستين ضعفاً لتصل إلى ما يقرب من ستة وثلاثين مليار ليرة، على الرّغم من أن بعض هذه الزّيادة يرجع إلى التّضخّم.

ويبدو أنّ التّحرّكات الأخيرة تستهدف بشكل مباشر مؤسّس البلاد ومُثُله العليا. لقد دعا الكاتب الإسلاميّ وعضو «حزب العدالة والتّنمية» غالب إلهانر، مؤخّراً، إلى بناء مسجد على أرض «أنيتكابير»، ضريح أتاتورك في أنقرة. وعندما اختتم أردوغان حملته الانتخابيّة في أيار (مايو) بالصّلاة في آيا صوفيا، أعادت محطّات الأخبار عرض اللقطات بلا توقّف.

تحويل كنيسة إلى مسجد

أعاد «حزب العدالة والتنمية» تحويل الكنيسة البيزنطيّة التي تعود إلى القرن السّادس إلى مسجد في عام 2020، بعد عقود من قيام أتاتورك بتحويلها إلى متحف على الرّغم من لعن السّلطان محمّد الفاتح لأيّ شخص يجعل من المبنى القديم أيّ شيء آخر غير مكان عبادة إسلاميّ.

آيا صوفيا بإسطنبول التي أعاد حزب العدالة والتنمية تحويلها إلى مسجد (بلومبرغ)

عشتُ في إسطنبول قبل عقد من الزّمن وأتذكّر أنّ السّكان المحلّيّين كانوا يشكون حتّى في ذلك الوقت من أنّ تركيا أصبحت دولة إسلامويّة. كنت أعبّر عن عدم موافقتي على ذلك، ولكن في عام 2014 كتبت تقريراً صحافيّاً حول الكيفيّة التي تُصبح بها الدّولة أكثر تديّناً بشكل تدريجيّ: «مياه فيضان تصعد الجدار، وليس موجة هائلة تصطدم بالشّاطئ».

إذا كانت المياه تصعد بسرعة أكبر اليوم، فقد يكون ذلك استجابةً لتراجع التّديّن، وليس انعكاساً لمجتمعٍ يتغيّر. وجدت دراسة أجرتها «كوندا» عام 2019 أنّ سبعة في المائة فقط من الأتراك الذين تتراوح أعمارهم بين خمسة عشرة وتسعة وعشرين عاماً يصفون أنفسهم بأنّهم محافظون، بانخفاض عن ما يقرب من الثّلث في عام 2008. وكشفت دراسة مدعومة من الحكومة في العام التّالي أن طلّاب المدارس الثّانوية يقاومون الدّراسة الدّينيّة الإجباريّة وجهودها لخلق «جيل تقيّ».

يمكن أن يكون المنتخب الوطنيّ النّسائيّ الفائز مجرّد بداية. فبعد فوزه الأسبوع الماضي، قالت إحدى اللاعبات إنّ الفريق يعمل على تعزيز رؤية مؤسّس البلاد. قالت زهرة غونيس: «نحاول أن نكون قدوة للأجيال القادمة، من خلال تسليط الضّوء على المسار الذي أظهره لنا أتاتورك».

وقد تمثّل ردّ الحكومة في مضاعفة التّعليم الدّينيّ. ربما تفاجأ طلّاب المدارس الثّانويّة الأتراك الذين عادوا إلى الفصول الدّراسيّة الأسبوع الماضي عندما وجدوا أنّ العدد المطلوب من الحصص الإسلاميّة قد تضاعف. وهذه أخبار كبيرة في تركيا، التي لم تكن تطالب التّلاميذ بأيّ دراسة دينيّة حتى أواخر القرن العشرين.

ويبقى أن نرى ما إذا كانت الحصص الجديدة ستجعل الشّباب الأتراك أكثر تديّناً أم ستهيّئهم بشكل أفضل لسوق عالميّة صعبة. وفي النّهاية، من المرجّح أن يصبح الأتراك مسلمين بالقدر الذي يريدونه. يقول القرآن: «لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرّشد من الغي».

مصدر الترجمة عن الإنجليزية:

ديفيد ليبيسكا، ذي ناشونال نيوز، 5 أيلول (سبتمبر) 2023



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية