البغاء الأخلاقي بين سقطة هابرماس وخيانة زيلنسكي

البغاء الأخلاقي بين سقطة هابرماس وخيانة زيلنسكي

البغاء الأخلاقي بين سقطة هابرماس وخيانة زيلنسكي


07/01/2024

ربما يكون السقوط في حبائل التناقضات خيراً من البغاء الأخلاقي، ذلك أنّ التناقض قد يكون عن قصور معرفي أو عماء عابر عن رؤية الحقيقة، وهو ما يمكن تفهمه أو التسامح معه، لكنّ التظاهر برفع شعارات إنسانية، ووضع الأسس المؤطرة لها، ثم الذهاب بعيداً عنها، هو من قبيل الخيانة للذات أوّلاً، ولكل القيم الإنسانية التي ربما تمثلها صاحبها ونظّر لها ذات يوم.

يقول الفيلسوف الألماني الكبير يورغن هابرماس عن نفسه: "أنا نتاج إعادة التربية التي شهدها المجتمع الألماني خلال التطبيق المنهجي لسياسة القضاء على النازية". ممّا يعني أنّ الفيلسوف السياسي، كما يُطلق عليه، يمثل النقيض الفكري الموضوعي لكل أشكال العنصرية والهمجية. وبوصفه رائداً للخطاب النقدي الجديد في الفلسفة والسياسة، كان هابرماس الصوت الأبرز في المشهد الثقافي في ألمانيا، على مدار أكثر من (50) عاماً.

هابرماس وأخلاقيات الخطاب

كانت نظرية هابرماس حول أخلاقيات الخطاب مرجعاً مهماً للإحالة عليها، خاصّة أنّ الكشف عن العناصر المركزية المميزة لها يضعنا أمام جملة من العناصر المتكاملة لبناء نسق يضمن التعبير عن الإرادة العامة والارتقاء بها إلى قاعدة الجدل، بشكل أخلاقي وموضوعي، يراعي الاختلافات الفردانية، ويرفض التنظير للمبررات الواهية. 

 

في بيان ربما فاجأ المتابعين، أشار هابرماس، في تعليقه على المحرقة الصهيونية المتواصلة في قطاع غزة، إلى أنّ "الوضع الحالي ناجم عن الهجوم الوحشي الذي شنته حماس"

 

ترتكز نظرية هابرماس الأخلاقية على مبدأ أخلاقيات الخطاب، الذي يمكن اعتباره مبدأً للجدال، فهو ينص على أنّ الخطاب العملي يقوم على اختبار صحة المعايير الافتراضية، وليس لإنتاج معايير مبررة. وبهذه الطريقة تضمن أخلاقيات خطاب هابرماس تنفيذ عملية إصدار الأحكام بشكل محايد، يعبر عن المحتوى المعياري لإجراء ما، وليس المحتوى المعياري للحجة.

وكثيراً ما تحدث هابرماس، وبشكل صريح، أنّه "لكي تكون القاعدة صالحة، يجب أن تكون العواقب والآثار الجانبية المترتبة على مراعاتها؛ من أجل تلبية المصالح الخاصة لكل شخص، مقبولة للجميع". حيث يعيد هابرماس صياغة مبدأ الحتمية المطلقة؛ ليجعله أكثر إنسانية، قائلاً بضرورة الانتقال من التركيز على ما يمكن أن يريده كل فرد، دون تناقض، ليكون قانوناً عاماً، إلى ما يمكن أن يريده الجميع، بالاتفاق على أن يكون معياراً عالمياً للأخلاق.

وتتميز طروحات هابرماس بأنّها تنطلق من قاعدة أخلاقية، منفتحة على الآخر، مدعومة ببعد اجتماعي وجماعي. مؤكداً أنّه في قلب كل فعل شخص له حقوق، وأنّ حقوق الجميع متساوية، دون امتياز من أيّ نوع.

سقوط أخلاقي لمُنظّر الأخلاق

في بيان ربما فاجأ المتابعين، أشار يورغن هابرماس، في تعليقه على المحرقة الصهيونية المتواصلة في قطاع غزة، إلى أنّ "الوضع الحالي ناجم عن الهجوم الوحشي الذي شنته حماس، وأنّ ردّ إسرائيل عليه أدّى إلى سلسلة من التصريحات والمظاهرات الأخلاقية والسياسية". وأضاف: "نعتقد أنّه مع كل الآراء المتضاربة التي يتم التعبير عنها، هناك بعض المبادئ التي لا ينبغي الخلاف عليها، والتي تشكل أساس التضامن المفهوم جيداً مع إسرائيل واليهود في ألمانيا". 

والتمس البيان العذر لإسرائيل؛ بداعي أنّ اليهود يواجهون تهديدات بالإبادة الجماعية، وشدّد على أنّ "تصرفات إسرائيل لا تبرر بأيّ حال من الأحوال ردود الفعل المعادية للسامية، وخاصّة في ألمانيا". وأنّه من غير المقبول أن يتعرض اليهود في ألمانيا مرة أخرى للتهديدات، ويضطرون إلى الخوف من العنف الجسدي في الشوارع". وأكد البيان أنّ التزام ألمانيا، ما بعد الحرب، بالحفاظ على الحياة اليهودية والوجود الآمن لدولة إسرائيل، "أمر أساسي لحياتنا السياسية".

لم يتوقف هابرماس عند المشاهد المروعة للمحرقة الصهيونية في قطاع غزة، ولا أشلاء الأطفال المتناثرة هنا وهناك، ممّا يثير الكثير من التساؤلات حول التناقض الحاد في الرؤى والمواقف لدى الشخص نفسه. 

بالعودة إلى المناظرة التي جرت بين هابرماس والمؤرخ الألماني إرنست نولتي، نجد التناقض الأخلاقي متجلياً بوضوح، فعندما حاول نولتي التماهي بشكل إيجابي مع ماضي ألمانيا، بوضع الهولوكوست ضمن السياق الطبيعي للتاريخ الألماني، حيث لفت إلى أنّ المحرقة كانت بمثابة صورة معكوسة من جانب الألمان، الذين عانوا أو كانوا يخشون التعرض للمذابح والإبادة على أيدي السوفييت، فكان ما جرى شكلاً من أشكال الضربة الاستباقية ضد اليهود، ولم يكن المقصود من نظرية نولتي تفسير سبب اختيار اليهودي ضحية، بل شرح وفهم كيف يمكن أن تكون الإبادة جذرية ومطلقة إلى هذا الحد، وبالتالي يتم وضع المحرقة في سياقها التاريخي، بحيث تتمكن الأجيال التي ولدت في ألمانيا ما بعد الحرب من التصالح مع تاريخها الوطني. 

تصدى هابرماس بعنف لهذه المحاولة، بداعي أنّ الرحم الذي خرجت منه النازية ما زال خصباً، متهماً نولتي ورفاقه بمحاولة توحيد الشعب الألماني على حساب ضحايا المحرقة النازية من اليهود، مؤكداً أنّ التغاضي عن كل ما جرى من اضطهاد لليهود، أو التقليل من المحرقة؛ بوضعها ضمن الفظائع التي جرت في التاريخ الأوروبي، أمر ترفضه الأخلاق والقيم الإنسانية.

واليوم، يتغاضى هابرماس عن محرقة لا تقلّ بشاعة عمّا اقترفه النازي، بل يقف داعماً لآلة الحرب الصهيونية العمياء، دون وازع من ضمير أو أخلاق، ليسوق جملة من المبررات الواهية، تتناقض في أبسط شروطها مع الخطاب الأخلاقي الذي نظّر له ذات يوم.

زيلنسكي وخيانة مبدأ النضال ضدّ الاحتلال

ربما تكون تناقضات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، هي المناظر الميداني لما أقدم عليه هابرماس، فالرئيس الأوكراني المدعوم من الناتو رفض الإذعان للغزو الروسي، وقاد شعبه لنضال مشروع، في مواجهة قوة عسكرية عظمى مثل روسيا؛ رافعاً شعارات المقاومة والنضال ضدّ المحتل، حتى آخر يوم في حياته.

 

قيم المقاومة والفداء وبذل التضحيات، التي رفعها زيلنسكي، لا تقبل القسمة على اثنين، ولا يمكن أن تتماهى مع التأويل أو إعادة الصياغة

 

وبالطبع، فإنّ قيم المقاومة والفداء وبذل التضحيات، التي رفعها زيلنسكي، لا تقبل القسمة على اثنين، ولا يمكن أن تتماهى مع التأويل أو إعادة الصياغة، فالمقاومة ضدّ المحتل لا تعرف غير طريق واحدة، تمرّ عبر فوهات البنادق، طالما ظلّ المحتل رافضاً لكل أشكال التفاوض والتفاهم وردّ الأرض لأصحابها.

ومع انفجار الحرب في قطاع غزة، أدار زيلنسكي ظهره لكل هذا، زاعماً أنّ إسرائيل لها حق، لا جدال فيه، في الدفاع عن نفسها من هجمات "الإرهابيين الفلسطينيين".

وقال زيلنسكي: "إنّ حق إسرائيل في الدفاع أمر لا جدال فيه". مضيفاً: "الإرهاب هو دائماً جريمة، ليس فقط ضدّ دولة واحدة أو ضحايا محددين، ولكن ضدّ الإنسانية جمعاء"، وتابع: "يجب على العالم أن يقف متحداً، حتى لا يحاول الإرهاب سلب الحياة أو تدميرها في أيّ مكان وفي أيّ لحظة". 

زيلنسكي قال في خطاب ألقاه أمام الجمعية البرلمانية لحلف شمال الأطلسي في 9 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي: إنّ حماس وروسيا هما "الشر نفسه، والفرق الوحيد هو أنّ هناك منظمة إرهابية هاجمت إسرائيل، وهنا دولة إرهابية هاجمت أوكرانيا". دون أن يدير رأسه للخلف، متعامياً عن جرائم الاحتلال طيلة العقود الماضية.

 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية