ما الدروس التي لقنتها غزة لإسرائيل وجعلتها دولة منبوذة؟

ما الدروس التي لقنتها غزة لإسرائيل وجعلتها دولة منبوذة؟

ما الدروس التي لقنتها غزة لإسرائيل وجعلتها دولة منبوذة؟


26/11/2023

بعد مرور نحو خمسين يوماً على الحرب التي تشنها إسرائيل ضد غزة، يتنامى في أوساط العالم، نخباً ومؤسسات وأفراداً، سؤال ملح: هل تغدو إسرائيل دولة منبوذة؟

وكان آخر من طرح هذا السؤال، الكاتب والمحرر في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، مايكل يونغ، في مقالة نشرها المركز الأمريكي على موقعه الإلكتروني، في العشرين من الشهر الجاري. يونغ أحاط سؤاله بالعديد من الحقائق، ودعمها بأحداث قديمة مرت بها إسرائيل منذ استولت على أراضي الفلسطينيين، وقتلتهم وهجرتهم، وأقامت كيانها عام 1948.

يقول المحلل السياسي: يتعيّن على الإسرائيليين، وهم يحاولون اختيار أي مسار يسلكون، بين التطهير العرقي أم الإبقاء ببساطة على نظام الأبرتهايد، أن يفكّروا في ما إذا كانوا يريدون ترسيخ نظرة أعدادٍ متزايدة من الناس في مختلف أنحاء العالم إلى إسرائيل على أنها دولة منبوذة. قد تكون الإجابة نعم، ولكن أيّ أمنٍ يتحقق من ذلك، وإلى متى؟".

وكان سؤال الدولة المنبوذة مطروحاً بقوة في أحداث سابقة قبل "طوفان الأقصى"، فقد أكدت تسيبي ليفني، قبل اثني عشر عاماً، وكانت آنذاك رئيسة حزب "كديما" الصهيوني المعارض، بأنّ "إسرائيل تحولت إلى دولة منبوذة في العالم بسبب سياسة حكومة نتنياهو ووزير خارجيته العنصري افيغدور ليبرمان. ولفتت في محاضرة ألقتها في جامعة تل أبيب الى أنّ نتنياهو وحزبه (الليكود) هما اللذان وضعا اسرائيل إزاء العالم  في وضع لا تحسد عليه، وبالتالي دعت ليفني الى تبنّي حل الدولتين، لأنّ البديل هو الدولة الواحدة من البحر إلى النهر، مع ما يعني ذلك من مخاطر ديموغرافية، وعندها ستصبح الحركة الصهيونية مجرد جزء من كتب التاريخ"، حسبما ذكر موقع مجلة "الجيش" اللبناني.

سجل حافل بالتمييز العنصري

وترى المجلة أنّ إسرائيل باتت باعتراف قادتها دولة مماثلة، في نظامها وسياساتها، لنظام التمييز العنصري الذي كان قائماً في جنوب أفريقيا. فسجلها التاريخي حافل بكل أنواع جرائم التمييز والابادة بحق الشعب الفلسطيني وسائر الشعوب العربية، وبخطط الاستيطان التي يترافق تنفيذها بالقوة مع تجريم أي معارضة لتهويد الارض الفلسطينية واعتبار الأردن على أنه هو فلسطين. 

سجل إسرائيل التاريخي حافل بكل أنواع جرائم التمييز والابادة بحق الشعب الفلسطيني وسائر الشعوب العربية

وفي هذا السياق يرى المحلل السياسي يونغ أنّ يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) شكّل أموراً كثيرة لإسرائيل، لكنه أتى في المقام الأول تأكيداً على المأزق الذي تشهده طموحات القيادة الإسرائيلية الحالية. فقد أظهر الهجوم الذي نفّذته حماس على بلدات وقواعد عسكرية إسرائيلية  مقدار الوهم الذي تعيشه إسرائيل. إذ يرى يونغ، أنه من دون أي أفق سياسي للفلسطينيين، ستبقى إسرائيل دولة قائمة على أساس القمع البنيوي، وستواصل إمعانها في إخضاع الفلسطينيين والتغاضي عنهم وإذلالهم إلى أجل غير مسمّى. وحين يدرك الإسرائيليون أنّ هذا الوضع غير قابل للاستمرار، سيكون أمامهم خيار واحد من بين خيارَين لا ثالث لهما: إما إبرام اتفاق سلام دائم مع الفلسطينيين، أو إيجاد طريقة لتهجير الفلسطينيين قسراً من الضفة الغربية وقطاع غزة (وربما أيضاً أولئك داخل حدود 1948) إلى دول عربية مجاورة.

 

كانت وزارة الاستخبارات الإسرائيلية أعدت وثيقة أسمتها السلطات "ورقة مفهومية" للتقليل من أهميتها، وتضمّنت قائمةً من الخيارات المطروحة للتعامل مع الفلسطينيين في غزة

 

ومع أنّ طريق السلام هو أفضل الخيارَين، كما يقول موقع "كارنيغي" فغالب الظن أنّ إسرائيل ستفضّل البديل، أي التطهير العرقي. ونلمس اليوم إجماعاً واضحاً بين مختلف ألوان الطيف السياسي الإسرائيلي على أنّ أحداث 7 أكتوبر أظهرت استحالة التعايش بين اليهود والفلسطينيين. وبالتالي، بات الحلّ الوحيد التخلّص من أكبر عددٍ ممكن من الفلسطينيين في جوار إسرائيل.

"الترانسفير" حاضر في التفكير الإسرائيلي

ويمضي يونغ في تحليله، مذكّراً بأنه لطالما كان مفهوم "الترانسفير"، أو طرد السكان العرب من فلسطين، حاضراً في النقاش العام الإسرائيلي، وشكّل محور الفكر الصهيوني، كما أظهر نور مَصالحة في كتابه الفذّ بعنوان

 Expulsion of the Palestinians: The Concept of “Transfer” in Zionist Political Thought, 1882–1948 (طرد الفلسطينيين: مفهوم "الترانسفير" في الفكر والتخطيط الصهيونيَّين، 1882-1948). 

ويُشار إلى أنّ التركيبة السكانية الراهنة تسهم في زيادة حدّة التفكير الإسرائيلي في هذا الصدد. وقد شهدنا في الآونة الأخيرة مسؤولين إسرائيليين وصنّاع قرار حاليين وسابقين يخوضون نقاشات علنية حول التهجير الجماعي للفلسطينيين من غزة، في حين أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طلب من قادة أوروبيين الضغط على مصر للموافقة على استقبال فلسطينيي غزة بعد أن تقدِم إسرائيل على ترحيلهم إلى سيناء.

وجدّدت مصر تمسكها برفض أية خطط لتهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء. وشدّدت على رفضها "تصفية القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار"، حسب تصريحات رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، خلال زيارة إلى شمال سيناء، الثلاثاء الماضي، رافقه خلالها برلمانيون وسياسيون ورؤساء أحزاب معارضة، إضافة إلى مجموعة من الإعلاميين والفنانين، بحسب صحيفة "الشرق الأوسط".

وكانت وزارة الاستخبارات الإسرائيلية أعدت وثيقة أسمتها السلطات "ورقة مفهومية" للتقليل من أهميتها، وتضمّنت قائمةً من الخيارات المطروحة للتعامل مع الفلسطينيين في غزة. ومن ضمن هذه الخيارات أن تعمد إسرائيل إلى "إجلاء السكان من غزة إلى سيناء"، و"إنشاء منطقة عازلة بعمق كيلومترات عدّة داخل الأراضي المصرية، وعدم السماح بعودة الفلسطينيين إلى النشاط أو السكن بالقرب من الحدود الإسرائيلية". ووفقاً لتعريف اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تُعدّ اقتراحات وزارة الاستخبارات وإجراءات نتنياهو، بما لا يقبل الجدل، خطواتٍ في إطار مشروع يرمي إلى ارتكاب التطهير العرقي بحق الفلسطينيين في غزة.

لطالما كان مفهوم "الترانسفير"، أو طرد السكان العرب من فلسطين، حاضراً في النقاش العام الإسرائيلي

ويعلق مايكل يونغ على ذلك قائلاً: حينما جوبِهَت ورقة وزارة الاستخبارات بالمعارضة، جرّب بعض الإسرائيليين مقاربةً أخرى. فنشر السياسيان الإسرائيليان داني دانون من حزب الليكود، ورام بن باراك من حزب يش عتيد الأكثر وسطيةً، مقال رأي في صحيفة وول ستريت جورنال، دعَيا فيه دول العالم إلى استقبال ما أسمَياه "عدداً محدوداً من عائلات غزة التي أبدت رغبتها في مغادرة القطاع".

 في الظاهر، بدت هذه الدعوة بمثابة لفتةٍ إنسانيةٍ لصالح الفلسطينيين، ولكنها في الحقيقة كانت أمراً مختلفاً تماماً، كما يرى يونغ. فبما أن إسرائيل دمّرت مساحات واسعة باتت غير صالحة للسكن في غزة، يمكننا الافتراض أنّ عدداً غير قليل من سكان القطاع سيرغب على الأرجح في الرحيل إذا سنحت له الفرصة. بتعبيرٍ آخر، إنّ ما اختار الكاتبان تصويره بشكل ماكرٍ على أنه خطة تطال عدداً محدوداً من الفلسطينيين، هو في الواقع خطة يُرجَّح أن تستهوي في نهاية المطاف عدداً أكبر من السكان الذين دُمّرَت حياتهم في غزة.

 

سيدرك كثرٌ أنه منذ الآن ما من خيار أمام اليهود والعرب سوى التعايش، إذ لن ينجح أيٌّ من الشعبَين أبداً في القضاء على الآخر

 

لا عجب في أنّ تكتيك التطهير العرقي الناعم هذا قد لقي تأييد الجهات الأكثر تطرّفاً في السلطة السياسية الإسرائيلية، إذ وافق على هذا الاقتراح بتسلئيل سموتريتش، رئيس الحزب الديني القومي- الصهيوني المتطرّف. سموتريتش نفسه كان قدّم في العام 2017 ما عُرِف بـ"خطة إسرائيل الحاسمة"، داعياً فيها إلى توسيع هائل للمستوطنات في الأراضي المحتلّة، حتى "يصبح الحلم العربي بإقامة دولة في يهودا والسامرة غير قابلٍ للتطبيق". عندئذ يبقى أمام الفلسطينيين احتمالان: "مَن يرغبون في التخلّي عن تطلّعاتهم الوطنية يستطيعون البقاء هنا والعيش كأفراد في الدولة اليهودية"، أو "مَن يختارون عدم التخلّي عن طموحاتهم الوطنية سيحصلون على المساعدة للهجرة إلى إحدى الدول الكثيرة حيث يحقّق العرب طموحاتهم الوطنية، أو إلى أيّ وجهة أخرى في العالم". يمكن للمرء أن يسمع صدى آراء سموتريتش في مقال دانون وبن باراك، وهي آراء تعبّر على ما يبدو عن وجهات النظر السائدة.

احتمالات المستقبل

فلنفكّر، يقول يونغ، في أحد الاحتمالَين: إذا افترضنا أنّ الفلسطينيين تخلّوا عن تطلّعاتهم الوطنية، واختاروا العيش في دولة يهودية، فما الذي ينتظرهم فعلياً؟ إن كانت الأحداث الماضية تُنبئ بالمستقبل، فمن المحتمل جدّاً أن يُكتَب للفلسطينيين الذين سيبقون في إسرائيل والأراضي المحتلّة القبولَ بالعيش كمواطنين من الدرجة الثانية على الدوام، في ظلّ نظام قانوني يميّز بين اليهود والفلسطينيين، وهذا هو التعريف القانوني للأبرتهايد، أو نظام الفصل العنصري.

إن التلفّظ بمثل هذا الكلام هو على ما يبدو مثالٌ على معاداة السامية وفقاً لمسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، الذي يتبنّى تعريف معاداة السامية المثير للجدل الخاص بالتحالف الدولي لإحياء ذكرى ضحايا الهولوكوست. لكنّ المشكلة الوحيدة هي أنّ عدداً متزايداً من الإسرائيليين يبدو موافقاً على مصطلح الأبرتهايد، بمَن فيه منتدى محاضرات ومحاضري القانون من أجل الديمقراطية، وهو مجموعة تطوّعية من الخبراء القانونيين الإسرائيليين. فقد عبّر المنتدى عن ذلك في تقرير نشره في آذار(مارس) 2023، واستعرض فيه كيف أُخضِعَت الإدارة المدنية في الضفة الغربية المحتلّة، عبر اتفاق حكومي لتقاسم السلطة، للوزير الإضافي في وزارة الدفاع الإسرائيلية، أي بتسلئيل سموتريتش. هذه الخطوة تمثّل قطيعةً مع الماضي، حينما كانت الضفة الغربية تخضع لحكم الجيش الإسرائيلي في ظلّ احتلال عدائي، لا لسلطة الحكومة الإسرائيلية.

ويتابع الكاتب: لقد لقّنت غزة الإسرائيليين دروساً عدّة في ما يتعلّق بالتعامل مع الشعب الفلسطيني. أولاً، عندما يُنظَر إلى إسرائيل على أنها ضحية، لا يتردّد المجتمع الدولي في السماح لها بانتهاك القانون الدولي، وفي هذه الحالة ارتكاب جرائم الحرب، بما في ذلك العقاب الجماعي. وثانياً، يمكن للمبادرات الإنسانية أن تشكّل بسهولة تمويهاً لأهدافٍ وخيمة أكثر. فإذا وافقت مصر على إقامة ممرٍّ إنساني للسماح للفلسطينيين باللجوء إلى سيناء، لكان ذلك ربما أتاح لإسرائيل فرصة إغلاق الباب أمامهم ومنع عودتهم إلى القطاع. لهذا السبب رفض المصريون منذ البداية فكرة الممرّ الإنساني.

لقد لقّنت غزة الإسرائيليين دروساً عدّة في ما يتعلّق بالتعامل مع الشعب الفلسطيني

أما ثالث هذه العبر فهو أنّ يوم 7 أكتوبر شكّل في نظر الكثير من الإسرائيليين تهديداً وجودياً لدولتهم (وهو ما لم ينكره أعداؤهم قطّ)، ما دفعهم ليكونوا أشدّ تصميماً على اتّخاذ إجراءات متطرّفة وعنيفة بحقّ الفلسطينيين.

الشغل الشاغل لإسرائيل 

لقد بات الشغل الشاغل لإسرائيل على ما يبدو حرمان ملايين الفلسطينيين الخاضعين لسيطرتها من حقوقهم، وذلك عبر رفضها النظر في إقامة دولة فلسطينية، وتقويضها السلطة الفلسطينية، ودعمها الأنشطة غير القانونية للمستوطنين اليهود في الأراضي المحتلّة، فضلاً عن تضييقها الخناق على غزة، ودفعها الفلسطينيين إلى جيوب صغيرة، تتقلّص أكثر فأكثر، في الضفة الغربية وراهناً في غزة.

بعبارة أخرى، يقول مايكل يونغ: لا بدّ أنّ الإسرائيليين يشعرون بأنهم مُحاصَرون، ويواجه كثرٌ منهم موجة متصاعدة من معاداة السامية. ونظراً إلى الأعداد الكبيرة من اليهود في إسرائيل والخارج ممَّن يرفضون هذا المنطق العديم الرحمة للاحتلال الإسرائيلي، لا تُعدّ معاداة السامية فقط ردَّ فعل بغيضاً على ما تفعله إسرائيل، بل هي أيضاً استجابة غبيّة بشكل خاص. وإذ تقف إسرائيل أمام خيارَين هما السلام العادل مع الفلسطينيين، أو التطهير العرقي، ينبغي إقناعها بانتقاء الخيار الأول. ثمّة مَن يرفضون السلام في إسرائيل، وكثرٌ منهم في السلطة، ولهذا السبب تحديداً يجب على أولئك الذين يبحثون عن حلّ، في العالم العربي ومناطق أخرى، توحيد قضيتهم مع اليهود الساعين إلى الأمر نفسه في مختلف أنحاء العالم.

ويختم الكاتب مقاله "عندما تهدأ أخيراً ردود الفعل على أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر، سيدرك كثرٌ ما يجب أن يكون واضحاً الآن. فما من خيار أمام اليهود والعرب سوى التعايش، إذ لن ينجح أيٌّ من الشعبَين أبداً في القضاء على الآخر، حتى وإن كان سعيهما إلى ذلك يحطّ من قدْرِهما معاً".

مواضيع ذات صلة:

فلسطينيات يروين ما عشنه في سجون الاحتلال: أشبه بغوانتنامو

الفلسطيني في غربة سؤاله المصيري

غزيون يتنقلون عبر العربات ويتنفسون هواء "الهدنة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية