عقلية الاحتلال الإسرائيلي من لبنان إلى غزة: العدوان هو الحل (2-3)

عقلية الاحتلال الإسرائيلي من لبنان إلى غزة: العدوان هو الحل (2-3)

عقلية الاحتلال الإسرائيلي من لبنان إلى غزة: العدوان هو الحل (2-3)


05/12/2023

ترجمة: محمد الدخاخني

يعيش اللاجئون الفلسطينيّون في لبنان منذ نكبة عام 1948، عندما أُجبر أكثر من 700 ألف فلسطينيّ على ترك أراضيهم على يد جماعات شِبه عسكريّة صهيونيّة عملت على طرد العرب من الأراضي التي أصبحت فيما بعد إسرائيل. وقد فرّ ما بين 100 ألف إلى 130 ألف من هؤلاء اللاجئين إلى لبنان. وهناك، استقرّ معظم الفلسطينيّين – بشكل مؤقّت، كما افترضوا – في مدن ساحليّة لبنانيّة. وذهب أفقرهم إلى مخيّمات اللاجئين. ومنعت القوانين الفلسطينيّين من امتلاك العقارات، أو العمل في 72 مهنة مختلفة، أو الحصول على الجنسيّة، ممّا أدّى إلى انزلاق الكثيرين إلى الفقر الدّائم ووضعهم في مرتبة من الدّرجة الثّانية.

وفي عام 1969، أبرمت السّلطات اللبنانيّة والفلسطينيّة اتّفاق القاهرة، الذي سلّم إدارة مخيّمات اللاجئين من جهاز مخابرات لبنانيّ إلى منظّمة التّحرير الفلسطينيّة. ثمّ أمضت المنظّمة سنوات في إنشاء جهاز واسع للحكم والخدمة الاجتماعيّة في لبنان، بما في ذلك من خلال الفصائل المسلّحة المكوِّنة لها. بعض الفصائل المسلّحة، مثل فتح والجبهة الدّيمقراطيّة لتحرير فلسطين، بنت مدارس لرياض الأطفال وعيادات طّبية ورعت فرقاً للكشّافة وأخرى للرقص. وفي الوقت نفسه، أداروا معسكرات تدريب وجنّدوا أعداداً كبيرة من اللاجئين المهمّشين، وكذلك من المجتمعات اللبنانيّة، ممّا حوّل جنوب لبنان إلى قاعدة يمكن منها إطلاق صواريخ الكاتيوشا وشنّ عمليّات تمرّد قاتلة على بلدات في شمال إسرائيل. وردّت إسرائيل بقصف المخيّمات الفلسطينيّة والقرى الحدوديّة اللبنانيّة بشكل متكرر، فضلاً عن الاغتيالات محدّدة الهدف وغارات الكوماندوز.

تفرض إسرائيل حصاراً أكثر شمولاً على غزة يؤدّي إلى نتائج كارثية مماثلة. لكن لا يبدو أنّ القادة الإسرائيليين منزعجون من التكاليف الإنسانية

كما نفّذ جيش الدّفاع الإسرائيليّ عمليّات أكبر لم تكن «سلام الجليل» - الاسم الإسرائيليّ لغزوها عام 1982 - الأولى بينها. في الواقع، غزا جيش الدّفاع الإسرائيليّ جنوب لبنان قبل أربعة أعوام ردّاً على عمليّة اختطاف حافلة عبر الحدود بقيادة فتح والتي أسفرت عن مقتل العشرات من الإسرائيليّين. كان غزو عام 1978 أصغر من غزو عام 1982، لكنّه أدّى إلى نزوح أكثر من 285 ألف شخص من جنوب لبنان وقتل الآلاف من المواطنين اللبنانيّين والفلسطينيّين. وانتهى الغزو باعتماد قرارين للأمم المتّحدة يدعوان إلى انسحاب إسرائيل، وإنشاء قوّة مؤقّتة للأمم المتّحدة في لبنان لإنفاذ هذين القرارين، واتّفاق بوقف إطلاق النّار بين إسرائيل ومنظّمة التّحرير الفلسطينيّة. لكنّه لم يُضعِف الحركة المسلّحة الفلسطينيّة.

صُمّمت عمليّة «سلام الجليل» لتكون أكثر اتّساعاً وتحديداً من نظيرتها في عام 1978. ولكن في البداية، كان من المفترض أيضاً أن تكون سريعة. خَطّط صنّاع القرار العسكريّون والاستخباراتيّون في الأصل أن تكون مدّة المهمّة 48 ساعة يقضي فيها جيش الدّفاع الإسرائيليّ على البنية التّحتيّة لمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة ومنشآت الفدائيّين داخل منطقة حدوديّة يبلغ طولها 40 كيلومتراً ثمّ الانسحاب.

لم يكن القتال على الأرض الطريقة الوحيدة التي سعت من خلالها إسرائيل للقضاء على المقاومة. استخدم الجيش أيضاً الاعتقالات

ولكن عندما أُطلقت عمليّة «سلام الجليل» في أوائل حزيران (يونيو) تحوّلت أهدافها وتعسّرت خططها على الفور. وكان رافائيل إيتان، رئيس الأركان، وأرييل شارون، وزير الدّفاع، عدوانيّين بشكل خاصّ، ودفعا الجيش إلى التّوغّل في عمق الأراضي اللبنانيّة أكثر ممّا كان مخطّطاً لأمر. واتُّهم شارون، مثل رئيس الوزراء الإسرائيليّ الحاليّ بنيامين نتنياهو، بمواصلة الحرب لخدمة مصالحه السّياسيّة. (تُظهر استطلاعات الرّأي الإسرائيليّة المحلّيّة مستويات بالغة السّوء من الدّعم لنتنياهو، الذي يُحاكَم بتهم فساد ومن المرجّح أن يُطاح به عندما تنتهي الحرب).

المسار العدواني

ويهيمن المتشدّدون على حكومة نتنياهو، مثلما كانت الحال مع حكومة رئيس الوزراء الإسرائيليّ مناحيم بيغن في عام 1982، وعلى هذا فإنّ الحرب تتّخذ مساراً عدوانيّاً. وتقاتل القوّات الإسرائيليّة بالفعل داخل أكبر مدينة في غزّة، والهدف الأقصى للحكومة - استئصال حماس - يعني عدم وجود استراتيجيّة واضحة لكيف ومتى يجب أن ينتهي القتال. وفي لبنان، كلّفت استراتيجيّة عدوانيّة وغير دقيقة مماثلة عشرات الآلاف من أرواح المدنيّين ودمّرت البنية التّحتية للبلاد. حتّى إنّ شارون وإيتان أمرا الجيش الإسرائيليّ بفرض حصار على بيروت خلال صيف عام 1982، وبالتّالي قطع المياه، والغذاء، والكهرباء، ووسائل النّقل عن سكان العاصمة الذين كان عددهم يزيد عن 620 ألف نسمة لأكثر من شهر. وفي نهاية المطاف، أجبرت إسرائيل منظّمة التّحرير الفلسطينيّة والفدائيّين على الانسحاب، ولكن فقط بعد مقتل ما لا يقلّ عن 6,775 من سكّان بيروت، من بينهم أكثر من خمسة آلاف مدنيّ.

تفرض إسرائيل حصاراً أكثر شمولاً على غزّة يؤدّي إلى نتائج كارثيّة مماثلة. لكن لا يبدو أنّ القادة الإسرائيليّين منزعجون من التّكاليف الإنسانيّة. على سبيل المثال، أعلن وزير الدّفاع الإسرائيليّ، يوآف غالانت، أنّ بلاده تحارب «حيوانات بشريّة» وسوف تتصرّف على هذا الأساس. ويعكس كلامه مشاعر إيتان، الذي تفاخر في نيسان (أبريل) 1983 بأنّه بمجرّد أن «يستوطن الإسرائيليّون الأرض، فإنّ كل ما يستطيع العرب فعله حيال ذلك هو الرّكض مثل صراصير مخدّرة في زجاجة».

يهيمن المتشدّدون على حكومة نتنياهو مثلما كانت الحال مع حكومة رئيس الوزراء الإسرائيليّ مناحيم بيغن في عام 1982

ويوضّح تقييم إيتان المثير للدّهشة في نزعه الصّفة الإنسانيّة عن الفلسطينيّين جزءاً من الأسباب التي جعلت الجيش الإسرائيليّ يواجه الكثير من المتاعب في جنوب لبنان. اقتناعاً منهم بتفوّقهم، لم يتوقّع القادة العسكريّون الإسرائيليّون أو يتدرّبوا بشكل مناسب على مقاومةٍ فلسطينيّةٍ أو لبنانيّةٍ مكثّفة. ونتيجة لذلك، عندما تحرّكت القوّات الإسرائيليّة على الطّريق السّريع السّاحليّ الذي يربط المدن الكبرى في لبنان، واجهتها في كثير من الأحيان معارضة قويّة من مخيّمات اللاجئين المُفقَرة والمكتظّة بالسّكان والمجتمعات اللبنانيّة المحلّيّة. حتّى مع انهيار العديد من وحدات جيش التّحرير الفلسطينيّ وفرار قادة الفدائيّين بفعل نيران جيش الدّفاع الإسرائيليّ، تمكّنت الميليشيّات الموجودة على مستوى المخيّمات - أي المجموعات المخصّصة للدّفاع عن مجتمعاتها المحلّيّة - بشكل فرديّ من الصّمود أمام جيش الدّفاع الإسرائيليّ لعدّة أيّام من خلال توريطه في حرب مدن، وتفجير دبّاباته، وقتل العديد من رجاله.

السيطرة على عين الحلوة

لننظر، على سبيل المثال، إلى معركة الجيش الإسرائيليّ للسّيطرة على عين الحلوة، وهو مخيّم للاجئين في مدينة صيدا. ولمدّة أسبوع كامل، تمكّنت مجموعات من رجال الميليشيّات الفلسطينيّة من إعاقة الجيش الإسرائيليّ من خلال المراوغة عبر الأزقّة المتعرّجة، والمباني العشوائيّة، والأنفاق الموجودة تحت الأرض قبل نصب كمين للقوّات الإسرائيليّة. لقد فجّروا النّاقلات المدرّعة والدّبّابات التّابعة للجيش الإسرائيليّ باستخدام أسلحة صغيرة فقط. واشتهر شابّ فلسطينيّ واحد على الأقل بقدرته على ضرب أبراج الدّبّابات في المكان الصّحيح تماماً بالقذائف الصّاروخيّة، ممّا أدّى إلى تدمير مفاصل الدّبابات، وتعطيل المركبات، وكشف الجنود المتواجدين بداخلها. كان المُخيّم مميتاً جدّاً للإسرائيليّين لدرجة أنّ الجيش الإسرائيلي كان ينسحب كل ليلة بحثاً عن الأمان ويضحي بالمكاسب الجغرافيّة التي حقّقها خلال النهار. وفي نهاية المطاف، لجأ جيش الدّفاع الإسرائيليّ إلى قصف المخيّم بالذّخائر التّقليديّة والأسلحة الحارقة، بما في ذلك الفوسفور الأبيض، من أجل الاستيلاء عليه، وإبعاد الأنقاض، ومواصلة التّقدّم شمالاً.

لم يكن القتال على الأرض الطريقة الوحيدة التي سعت من خلالها إسرائيل للقضاء على المقاومة، بل استخدم الجيش أيضاً الاعتقالات الجماعية

ولم يكن القتال على الأرض الطريقة الوحيدة التي سعت من خلالها إسرائيل للقضاء على المقاومة. استخدم الجيش أيضاً الاعتقالات الجماعية، حيث اعتقل 9,064 رجلاً فلسطينيّاً ولبنانيّاً في معسكر اعتقال واحد في عام 1982 وحده. لكن هذا أيضاً أدّى بردّ فعل عكسيّ. فبعد تعرّضهم للاستجواب والضّرب، انتفض النّزلاء - ولم يكونوا جميعاً من المقاتلين - وهربوا. عاد العديد ممّن كانوا بالفعل من الفدائيّين إلى فصائلهم السّابقة واستمرّوا في القتال. كما أدّى الحبس الجماعيّ وتدمير المخيّمات إلى خلق أعداد كبيرة من النّساء، والأطفال، وكبار السّنّ الفلسطينيّين المشرّدين الذين لم تكن القوّات الإسرائيليّة مستعدّة لمساعدتهم - والذين تحوّلوا إلى بعض أقوى منتقدي جيش الدّفاع الإسرائيليّ. على سبيل المثال، اتّصلت حركة احتجاجيّة قادتها نساء فلسطينيّات في عين الحلوة بجماعات حقوقيّة دوليّة، ومنظّمات إعلاميّة، وبالأمم المتّحدة في محاولة ناجحة للفت الانتباه إلى محنتهن. لقد نظّمن مظاهرات، وأغلقن الطّرقات، وأحرقن بشكل رمزيّ الخيام غير الكافية التي قدّمتها الأمم المتحدة، وهي أفعال كتب عنها صحافيّون ومنظّمات حقوقيّة. وهكذا، تلقّت سمعة إسرائيل الدّوليّة، التي كانت تعاني بالفعل، ضربةً أخرى.

واليوم، ليست سمعة إسرائيل في وضع أفضل. فبعد تدفّق التّعاطف في أعقاب الهجوم الذي شنّته حماس، ركّزت القصص الإخباريّة حول الصّراع بشكل متزايد على المذبحة التي يرتكبها الجيش الإسرائيليّ في غزّة. ونشرت وسائل الإعلام الدّوليّة قصصاً عن العنف الذي تمارسه ميليشيّات المستوطنين الإسرائيليّين في الضّفّة الغربيّة أيضاً. 

ووفقاً لتقارير نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، ورويترز، ومنظّمات حقوقيّة، فقد قتل المستوطنون في الضّفة الغربيّة ثمانية فلسطينيّين منذ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر)، من بينهم طفل. وقتل جيش الدّفاع الإسرائيليّ، الذي يحمي المستوطنين، ما لا يقل عن 167 آخرين، من بينهم 45 طفلاً. وبالإضافة إلى قتل الفلسطينيّين، استخدم المستوطنون عمليّات الحرق العمد، والاعتداءات المسلّحة، والتّهديدات بالقتل لطرد ما يقرب من ألف فلسطينيّ من قراهم. تشبه هذه الهجمات أعمال العنف التي ارتكبتها الميليشيّات اللبنانيّة اليمينيّة في عامي 1982 و1983، والتي هدّدت وطردت السّكان الفلسطينيّين في صيدا - مرّة أخرى تحت نظر الجيش الإسرائيليّ.

جبهة الجنوب اللبناني

في الواقع، ساعد التّحالف بين جيش الدّفاع الإسرائيليّ والميليشيات في إنتاج ما أصبح يُعرف بأكثر مذابح عمليّة «سلام الجليل» شهرة. بعد أن قتلت قنبلة حليف إسرائيل الرّئيس اللبنانيّ بشير الجميّل في أيلول (سبتمبر) 1982، احتلّ الجيش الإسرائيليّ بيروت الغربية وحاصر مخيّم صبرا وشاتيلا للاجئين. ثمّ منع جيش الدّفاع الإسرائيليّ الفلسطينيّين من الدّخول أو الخروج من المخيّم أو الأحياء المحيطة به. لكنّه سمح لرجال الميليشيّات اللبنانيّة المسيحيّة المتحالفة معه بالدّخول إلى المنطقة. وعلى مدار يومين متتاليين، اجتاح رجال الميليشيّات المنطقة المحيطة بمخيّم صبرا وشاتيلا، فقتلوا ما لا يقل عن ألفي مدنيّ فلسطينيّ وارتكبوا مجموعة من الفظائع الأخرى، بما في ذلك التّعذيب وأعمال العنف الجنسيّ. وفي هذه الأثناء، قصف جنود الجيش الإسرائيليّ المنطقة وأشعلوا فيها النّيران.

أثارت المذبحة غضب النّاس في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك داخل إسرائيل. وانضمّ ما يقرب من 350 ألف إسرائيليّ إلى مظاهرة في أنحاء البلاد للمطالبة باستقالة بيغن وشارون، ممّا دفع الحكومة إلى إجراء تحقيق عامّ في المذبحة. ووجدت لجنة كاهان النّاتجة أنّ شارون كان مسؤولاً شخصيّاً عن أعمال العنف، وأعلنت أنّ تصرّفات إيتان كانت «بمثابة انتهاك للواجب». وأُجبر شارون على الاستقالة وتقاعد إيتان في عام 1983. وتنحى بيغن في وقت لاحق من ذلك العام.

يتبع جزء ثالث وأخير

المصدر:

سارة باركنسون، فورين أفيرز، 17 تشرين الثّاني (نوفمبر) 2023

https://www.foreignaffairs.com/israel/ghosts-lebanon

مواضيع ذات صلة:

هل تجبر حرب محتملة مع إسرائيل زعماء لبنان على التوحّد؟

لمعرفة ما ينتظر غزة يجب العودة إلى الغزو الإسرائيلي للبنان (1-3)

الصفحة الرئيسية