دلالات التواجد الأمريكي في المنطقة

دلالات التواجد الأمريكي في المنطقة

دلالات التواجد الأمريكي في المنطقة


18/12/2023

عبدالغني سلامة

مع بداية الحرب، لم يشكّل وصول حاملة الطائرات الأميركية والبوارج البريطانية إلى شرق المتوسط مفاجأة، المفاجأة كانت في سرعة الاستجابة. وفي السياق ذاته يجب ألا نتفاجأ بهذا الحجم الكبير من التضامن الأوروبي والأميركي مع إسرائيل. الهدف الإستراتيجي معروف: حماية إسرائيل، ببساطة لأنها صنيعة الغرب الاستعماري، ومشروعه الإستراتيجي الذي أشرف على بنائه بأدق التفاصيل، وأنفق عليه تريليونات الدولارات.

أما الهدف الآني من التواجد العسكري الأميركي في المنطقة فهو حتما ليس القضاء على «حماس»، أو قصف وتدمير غزة.. فهذا الهدف يتكفل به الجيش الإسرائيلي بمفرده، وسبق له فعل ذلك في جميع الحروب السابقة، دون الحاجة لهذا الدعم الأميركي والأوروبي المباشر. وحسب تصريحات القادة العسكريين والسياسيين، فإن الهدف هو ردع إيران و»حزب الله» من استغلال الوضع وضرب إسرائيل، لا سيما أن «حزب الله» يمتلك قدرات عسكرية تفوق أضعاف قدرة «حماس»، ومن الممكن أن تشكل تهديدا جديا لإسرائيل، ولأنَّ أميركا تتخذ كافة الاحتياطات، وتضع في حسبانها كل الاحتمالات، ولا تترك شيئا للصدفة أو لتطورات خارجة عن السيطرة، فمن البديهي أن تحضر بنفسها إلى المنطقة، وتشرف على سير المعارك.

مسألة أخرى مختلفة هذه المرة، وهي وجود عدد كبير من الأسرى الأميركيين لدى «حماس»، وتعامل أميركا مع قضايا الرهائن يختلف عن تعامل إسرائيل (التي لن تتردد في قتلهم)، خاصة إذا تعلق الأمر بسمعة أميركا الدولية، وبحسابات الرأي العام الأميركي وتأثيرها على الانتخابات وغيرها، وبالتالي لن تطلق يد إسرائيل لتتصرف كما تشاء في الحرب، ما يوجب حضورها العسكري المباشر.

كل ما سبق مجرد عوامل وأهداف تكتيكية وظرفية، وهناك أهداف إستراتيجية بعيدة المدى أهم وأخطر، تتعلق بالتغييرات التي تريد أميركا فرضها على الشرق الأوسط. وهذه التغييرات لها علاقة بمشروعات عملاقة صرّح عنها مسؤولون أميركيون وإسرائيليون، مثل إيجاد بديل عن قناة السويس، وخط تجاري عملاق يبدأ من الهند وينتهي بإسرائيل، ومنها إلى أوروبا، وكذلك موضوع حقول الغاز التي تم اكتشافها قبالة سواحل غزة، وما يتعلق بخطوط نقل الغاز من الدول المصدرة إلى أوروبا، والصراع على من سيستفيد منها.. وهي صراعات غير منزوعة عن الحرب الروسية الأوكرانية، وصراع الدول العظمى (أميركا، روسيا) ومحاولة كل طرف إعادة صياغة النظام الدولي وفق مصالحه ومن خلال حلفائه، ولا عن الصراع التجاري التكنولوجي بين أميركا والصين.   

إلى جانب مشروع السلام الإبراهيمي، وجلب الدول العربية إلى بيت التطبيع، والذي كانت آخر حلقاته مشروع التطبيع الإسرائيلي السعودي. وفي خلفية المشهد دول إقليمية مهمة تريد كل منها حصتها في التغييرات القادمة: إيران، والتي لها أذرع فاعلة في أربع دول في المنطقة، ولديها مشروع السلاح النووي، ومصر التي تحاول استعادة دورها القيادي، والسعودية الطامحة بأن تكون الدولة الأهم في الإقليم ولديها مشاريع عملاقة أهمها مدينة «نيوم» الواقعة في قلب منطقة الصراع. وفي السياق ذاته، تأتي تركيا التي لها نفس الطموح، وتعتمد سياسات متوازنة مع الأطراف المتصارعة، وإسرائيل بصفتها قاعدة أميركية متقدمة، وحارسة لمشروع الغرب الاستعماري.. وجميعها دول قوية وطامحة.

في ظل التواجد العسكري الأميركي المباشر في المنطقة، قد ينجح مخطط التهجير، وقد يفشل. وقد تستغل إسرائيل الدعم الأميركي المباشر واللامحدود فتقوم باستفزاز «حزب الله»، وجره إلى حرب، باعتبارها فرصة مواتية للانقضاض على الحزب وتدمير مقدراته. وقد يكتفي «حزب الله» بما يقوم به الآن، ويتجنب دخول مواجهة مباشرة مع أميركا. وقد يستغل «محور المقاومة» الفرصة، ويجر أميركا إلى الحرب، باعتبار ذلك سيضعف جبهة أوكرانيا، ما يؤدي إلى حسم روسيا للحرب، ويعطي الفرصة لإيران لامتلاك القنبلة النووية. وقد تتسع رقعة الحرب، وتدخل فيها أطراف إقليمية متعددة.. وقد تتمكن أميركا من تمرير مخططاتها لإعادة هندسة ورسم خريطة جديدة للشرق الأوسط. وقد تنسحب تجر أذيال الهزيمة.

أمام هذا المشهد المركب والمعقد، يبدو كل احتمال ممكن جدا، ومستحيل في الوقت ذاته.. فكل طرف لديه نقاط قوة ونقاط ضعف، وليس بمقدور أحد التكهن بالنتائج، حتى أقوى الأطراف ليس بمقدورها حسم المسألة وتحقيق كافة أهدافها، لأن الخيوط متشابكة ومتداخلة بشكل رهيب.. والمشكلة أن جميع الأطراف لا يهمها الشعب الفلسطيني ولا مصالحه.. حتى من يدعي ذلك.

حتى تستطيع أميركا (وإسرائيل) تحقيق أهدافهما، يتوجب عليهما بداية إزالة العوائق أمام مشروعهما: غزة كحيز جغرافي، وسكانها كعائق بشري، والمقاومة كعائق أمني.. وهذا يتطلب احتلال شمال غزة على الأقل، وتهجير السكان إلى سيناء، وفي المرحلة الأولى من الشمال إلى الجنوب، وتدمير قدرات المقاومة.. ومشروع التهجير ليس تكهنات، فقد كشفت وسائل الإعلام بعضا من تفاصيله، وهو مشروع قديم فشل قبل ذلك مرات عديدة، لكنه لم يغب عن ذهن صانعي القرار، الذين ظلوا ينتظرون الفرصة المواتية لتنفيذه.. ولحد الآن، تؤكد المؤشرات أنه سيفشل، بفعل صمود السكان، وبسبب موقف الأردن ومصر الرافض كليا له، لأنه ضد مصالحهما وعلى حساب أمنهما.

أما مسألة استئصال «حماس» وإنهائها فهي مستحيلة لأسباب موضوعية يعلمها الجميع، لكن من الممكن تدمير قدراتها العسكرية، وهذه أيضا ليست مهمة سهلة، لكنها غير مستحيلة.. بيد أنها ستضع إسرائيل في مأزق سياسي من نوع آخر؛ حيث ستكون مجبرة على قبول تسوية سياسية لم تقبل بها من قبل.

هذه ستكون أول وأهم التغييرات المقبلة، وسيأتي بعد التغيير الذي لا يقل أهمية، أي تغيير إسرائيل من الداخل، وربما يكون على حساب اليمين وبرنامج نتنياهو الذي ثبت فشله، وتبين أن حكومات إسرائيل اليمينية وسياساتها المتغطرسة وتجاهلها لحل القضية الفلسطينية وتنكرها لحقوق الفلسطينيين من أهم أسباب توتير المنطقة وجعلها دوما على حافة الانفجار، بالإضافة إلى أنها كانت سببا لانقسام المجتمع الإسرائيلي، وسببا لترهل الجيش الذي قاد إلى تكبده هزيمة منكرة، وهذا اليمين المتعصب سيودي بإسرائيل إلى نهايتها، وسيجعلها مجرد دولة دينية عنصرية لها جيش متعطش للدماء، وتمارس «الأبارتهايد»، وترتكب الجرائم المحرمة دوليا، ما سيجعلها معزولة عن العالم، ومنبوذة، وقد فقدت صورتها الديمقراطية (نعلم أنها مزيفة) لكنها كانت من أهم مبررات دعم العالم لها.

حتى لا نخسر الحرب، ولا تضيع دماء الشهداء، علينا التوحد بخطاب سياسي واحد، والتمسك بحقوقنا الوطنية، وتعزيز صمودنا، وأن تكون ثقتنا بحتمية الانتصار.

عن "الأيام"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية