كيف صوّرت "أدبيات التجنيد" في الجماعات الإسلامية العالم؟ ‎

كيف صوّرت "أدبيات التجنيد" في الجماعات الإسلامية العالم؟ ‎

كيف صوّرت "أدبيات التجنيد" في الجماعات الإسلامية العالم؟ ‎


18/02/2024

مع نهاية حقبة الاستعمار، وتغيّر نظم السياسة والاجتماع في البلدان العربية والمسلمة؛ صعدت حركات نادت بإحياء الإسلام وإعادة حضوره في المجال العام من جديد، وظهرت تباعاً عدد من الأدبيات التي تمحورت حول ذمّ مظاهر الحداثة، وقرنها بالشرّ والفساد المطلق، واعتبار العودة للإسلام هي السبيل الوحيد للخلاص، وقد لاقت رواجاً في فترات من القرن الماضي عند شريحة واسعة من الشباب الذين تلقّوها بتفاعل كبير، وتأثروا بما جاء فيها، والتحقوا إثرها في صفوف الحركات والتنظيمات الإسلامية، فكانت "أدبيات تجنيد"، باعتبار نتيجتها وغايتها النهائية، وفيما يلي يعرض هذا التقرير لأربعة نماذج منها:
فلسفة الندويّ لتفسير حركة التاريخ
حالة من الظلام الدامس سيطرت على البشرية قُبيل ظهور الإسلام، زمن "الجاهلية"، يتحول كل شيء وينقلب بمجرد ظهور رسالة الإسلام، ويتحول المسلمون إلى منارة للحضارة، ويتولون مهمة إنقاذ البشرية وتخليصها، لكنّ انحطاطاً يصيبهم، فيتراجع دورهم، وتذهب بعد ذلك دفة القيادة لأوروبا والحضارة الغربية، والتي تعيد البشرية إلى حالة الجاهلية، وتوقدها إلى الهلاك والدمار، والآن ما يتوجب ببساطة؛ إعادة الدفّة للمسلمين ليقودوا العالم وينقذوه من جديد. هذا هو مختصر قراءة أبو الحسن الندوي لحركة التاريخ، كما عرضها في كتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟"، الذي صدرت الطبعة الأولى منه عام 1950، وقدم له في طبعته الثانية سيد قطب، وبيّن مشيداً أنه قد ظهر فيه "الاستعلاء" الذي ينبغي على المسلم الشعور به مع اعتقاده بفضل عقيدته على سائر المعتقدات.

ينتهي عزّام إلى أنّ تنظيم الإخوان هو التنظيم الذي سيقود خطى البشرية المعذّبة إلى ظلال السعادة

ببساطة؛ العالم قبل ظهور الإسلام، كما يصفه الندوي، قد "تعفّن ضميره، واختلت فيه القيم والمقاييس، وساد الظلم والعبودية، واجتاحته موجة من الترف الفاجر والحرمان"، وهنا يعرض الندوي منتقيات متوافقة مع هذا السرد من تاريخ الرومان والفرس والهنود، وغيرهم من الأمم، ليؤكد أنّ الانحدار كان على جميع المستويات، وهو توصيف مجتزأ لا تفصيل فيه لأيّة أسباب، ولا وقوف فيه على مكتشفات آثارية أو معطيات علمية، وإنما هو أقرب لعملية إسقاط وقصر للتاريخ في سرير بروكرست المتخيّل، والذي هو التصوّر الإسلامي التعميمي عن زمن مدنس يسمى بالـ "جاهليّة".

اقرأ أيضاً: الميليشيات الحوثية وتجنيد الأطفال!
ثم تأتي لحظة الانقلاب، مع ظهور الإسلام، والذي هو رسالة من المبادئ والقيم، مع عدم ذكر أيّة تحولات مادية من نشوء لكيانات، وولادة لنظم جديدة، أو تغيّر في طرق وحركة التجارة، ليعكس بذلك تصوراً مثالياً عن التاريخ؛ فيكفي أن تدخل منظومة جديدة من الأفكار لتغيّر مجرى التاريخ وتقلبه رأساً على عقب، إنّها لحظة حلول للقداسة، كما تجلّت في عصر "الخلافة الراشد"، تمحي كلّ ما سبق من أدران ودناسة، ويلخّص الندوي دور الإسلام في التاريخ: "تخليص روح البشر من الوهم والخرافة، ومن العبودية والرق، ومن الفساد والتعفن، ومن القذارة والانحلال.. وبناء العالم على أسس من العفة والنظافة والإيجابية والبناء والحرية والتجدد".

أبو الحسن الندوي من أبرز الأسماء الإسلامية الهندية في القرن الماضي

ثم يأتي الطور التالي، مع بدء انسحاب هذه المنظومة الفكرية المقدسة من التاريخ؛ ليبدأ انحطاط المسلمين وتخلفهم عن القيادة، وتأتي "الانتكاسة إلى الجاهلية الأولى"، وهو ما حصل عند إغلاق باب الاجتهاد، وتعطل الجهاد، واختفاء الخلفاء الصالحين بعد "صلاح الدين"، ويؤكد الندوي: "لم يكن حادث انحطاط الأمة الإسلامية خاصاً بالعرب فقط، ولا بالشعوب والأمم المسلمة، بل هي مأساة إنسانية عامّة لم يشهد التاريخ أتعس منها ولا أعمّ منها".

اقرأ أيضاً: معسكرات إيرانية لتجنيد الأطفال في سوريا
أما ما حصل بعد ذلك؛ من صعود أوروبا وظهور "الحضارة الغربية"، فلا يراه الندوي، كما سيد قطب، إلا عودة للجاهلية في صورة جديدة، ووجود جديد للدناسة في التاريخ؛ إنها حضارة مادية لاأخلاقيّة، تفصل الدين عن الحياة، يجمل ذلك الندوي بقوله: "والحاصل أنّ الغربيين، لمّا فقدوا الرغبة في الخير والصلاح، وضيعوا الأصول والمبادئ الصحيحة، وزاغت قلوبهم وانحرفت، وفسدت أذواقهم، لم تزدهم العلوم والمخترعات إلا ضرراً. لم تزدهم هذه الآلات والمخترعات إلا قوة وسرعة في الإهلاك واستعانة على الانتحار"، بالتالي؛ فهو يرى أنّ هذه الحضارة فقد دخلت طور الاضمحلال، أو كما يسميه "الانتحار"، ويستشهد على ذلك باختراع القنبلة الذرية واستعمالها في الحرب العالمية الثانية وقدرتها الإفنائية.

اقرأ أيضاً: تجنيد الأطفال سلاح إيراني خفي للسيطرة والنفوذ
والآن؛ الحلّ الوحيد هو تحوّل القيادة العالمية، و"انتقال دفة الحياة من اليد الأثيمة الخرقاء التي أساءت استعمالها إلى يد أخرى بريئة حاذقة؛ من أوروبا ومن على شاكلتها من الأمم التي تقودها المادية والجاهلية، إلى العالم الإسلامي الذي يقوده سيدنا محمد، صلّى الله عليه وسلّم، برسالته الخالدة ودينه الحكيم"، هكذا هي حركة التاريخ عند الندوي، إنها أقرب إلى حالة من صراع حضارات؛ حيث حتمية زوال حضارة وصعود أخرى تستبدلها، ويظهر هنا الاعتقاد بمبدأ قيادة المسلمين للعالم وأستاذيتهم، الذي يؤول إلى توظيفه أيديولوجياً عبر دعم خيار الحكم الإسلامي في السياسة.
تنظيم عبد الله عزّام الذي سيقود البشريّة للخلاص
العالم يغرق في الفساد والانحلال، وهو يقف اليوم على الحافّة، هكذا يراه عبد الله عزّام، وهو قلق من هذا المصير؛ لذلك فإنه سيقدم، في كتابه "الدعوة الإسلامية فريضة شرعية وضرورة بشرية"، السبيل للخلاص والنجاة منه، والمنشور تحت الاسم المستعار له "صادق أمين".

اقرأ أيضاً: داعش يلجأ إلى الرسوم المتحركة لإعادة دوران عجلة التجنيد
بدايةً؛ يوصّف عزّام الوضع الحالي: "النفس البشرية تدمّرت، والفطرة الإنسانية تحطمّت، ولا يمكن للعاقل أن يشكّ بأنّ البشرية إذا بقيت على هذا الطريق؛ فإنها قطعاً صائرة إلى الدمار ومصيرها إلى الزوال"، ثم يشرع في بيان أبعاد الكارثة وأسبابها؛ ففي ميدان الحكم والسياسة، تم إقصاء القرآن الكريم عن منصة الحكم، وجرى استبدال شريعة الله السماوية بشرائع وثنية أرضية، وقد "نصب الحُكّام أنفسهم آلهة يشرعون للناس بما تملي لهم شياطينهم وتسول لهم أهواءهم"، ويصف هؤلاء الحكّام بالـ "رويبضات"، الذين جاء الحديث النبوي في وصفهم: "ويُنطّق الرويبضة".

اقرأ أيضاً: عادل عبد الصادق: 3 مراحل يستخدمها الإرهابيون لتجنيد الشباب
ومن الناحية الاجتماعية؛ يفصح عزّام عن أمر يراه جليلاً؛ هو أنّ المرأة قد خرجت من المنزل، وأصبحت عاملة ومشاركة في الحياة العامة، أو بحسب وصفه: "زُجّ بالمرأة في جحيم الشقاء تحت شعارات خادعة برّاقة، بدعوى التحرير من عصور الظلام، ثم بيعت سلعة رخيصة، وقدمت قرباناً زهيداً على مذبح شهوات الصهيونية العالمية"! وأمّا في الاقتصاد، فقد ابتزّ اليهود أموال البشرية بمصارفهم التي امتصّت أموال الناس باسم فائدة البنوك.
وأمّا في التربية والمناهج التعليمية؛ فتولّى الثلاثي اليهودي: ماركس وفرويد ونيتشه، مهمة تدميرها.

رسم جداري يصوّر الشيخ عبدالله عزّام

إذاً؛ كلّ ما يحصل من دمار وهلاك، وفق عزام، هو من "تدبير اليهود وتخطيطهم الماكر"، هكذا يرى عزّام اليهود والصهيونية كأخطبوط يحرّك أذرعه في كل مكان لتدمير الجنس البشري، ويؤكد كل ما يحصل في العالم هو نتيجة تخطيط اليهود ومؤامراتهم، وهو يكثر من الاستشهاد بالكتاب (الزائف): "بروتوكولات حكماء صهيون"، والذي يؤكد أنّ أكبر دليل على صحته؛ هو التطبيق العملي لما جاء فيه.
وبعد هذا التشخيص العجيب لحال البشرية، يشرع عزّام بتقديم الحلّ وسبيل النجاة؛ إنه سبيل العمل الإسلامي، والذي يمثّل "مهمة مقدسة" لبناء دين الله تعالى من جديد في هذه الأرض، ليس فقط باعتبار ذلك مسألة شرعية دينية، وإنما حتمية وضرورة إنسانية، لكن ما هو السبيل الذي يقترحه عزّام لذلك؟ كيف يكون الأخذ بطريق الإسلام؟ وكيف تكون النجاة؟

اقرأ أيضاً: مؤسسات تعليمية ومذهبية إيرانية في سوريا تتولى تجنيد مقاتلين
ينتقل عزّام هنا إلى جوهر الكتاب وغايته؛ إنّ السبيل لذلك هو تكوين تنظيم إسلامي، يتولّى مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتحمل تكاليف الدعوة إلى الله تعالى، وذلك عملاً بالآية القرآنية: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104)، إذاً لا بدّ من إيجاد "تنظيم إسلامي"، والعمل من خلاله، وهنا يردّ مباشرة على من يفكّر في العمل خارج الإطار التنظيمي، فيؤكد أنّ "العمل في جماعة لإعادة حكم الله فرض لازم في عنق كلّ مسلم؛ لأنّ معظم تكاليف هذا الدين جماعية، ولا يستطيع المسلم أن يمارس دينه كما يريد الله إلا في مجتمع مسلم"، وهذا الطريق هو طريق الأنبياء، فدعاة هذا التنظيم الإسلامي يقومون اليوم بمهمة الأنبياء، وفق تعبير عزّام.

اقرأ أيضاً: ما هي آخر إستراتيجيات الحوثي التجنيدية؟
ويصف عزّام هذا التنظيم بأنّه: "تنظيم حركي إسلامي يُصاغ فيه الأفراد صياغة وفق منهج الإسلام"، ومن صفاته؛ "أن يؤثر الناحية العملية على النظرية"، و"يعطي أفراد التنظيم ولاءً تامّاً للتنظيم وقيادته"، وهنا يعرض للتنظيمات والحركات الإسلاميّة المعاصرة، لينظر أيّ منها تنطبق عليه هذه الصفات، فيعرض للحركة السلفية، ثم يبيّن ناقداً أنّها تقتصر على المتدينين، وأنّ دعاتها يبذلون وقتاً وجهداً كبيرين في الدعوة إلى فرعيات ليس من مصلحة الدعوة الإسلامية الانشغال بها والتركيز عليها، "في وقت يوجه فيه الإسلام حرباً شرسة لاجتثاثه من جذوره"، ثم ينظر في أمر جماعة الدعوة والتبليغ، فيخلص إلى أنها "ليست نتظيماً"، ذلك أن تأثيرهم وقتي؛ فهم ليس لديهم اتصال منظّم ومستمر مع من يدعونهم، وأما الصوفية، فقد اقتصروا على الجوانب الباطنية والروحانية، وأما حزب التحرير؛ فيبيّن أن تركيزهم منصبّ على الصراع الفكري، ويؤكد أنّ "الهوة ازدادت بينهم وبين الناس نظراً لجفاف أرواح أعضائه وإيثارهم الجدل والكلام على النواحي العملية"، وبعد نقد التيارات جميعها، يعرض بالتفصيل لأسس دعوة جماعة الإخوان المسلمين منتصراً لها، ومعتبراً أنّها الأكثر قرباً لصفات التنظيم المنشود.

اقرأ أيضاً: أفغانستان تعتقل قائد العمليات ومسؤول التجنيد لداعش
إذاً؛ هذه هي الخلاصة التي ينتهي لها عزّام، تنظيم الإخوان المسلمين هو التنظيم الذي "سيقود خطى البشرية المعذّبة إلى ظلال السعادة وفيء الطمأنينة".

غلاف كتاب عزّام.. أمواج متلاطمة وسفينة نجاة

فريضة عبد السلام فرج "الغائبة"
عام 1982؛ قرأ القاضي العسكري اسم "محمد عبد السلام فرج" ضمن قائمة من خمسة أسماء حُكم عليها بالإعدام، بعد اتهامهم بالمسؤولية عن حادثة المنصّة، في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1981، التي راح ضحيتها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، ورغم أنه لم يكن بين المنفذين المباشرين، كعبود الزمر، وخالد الإسلامبولي، إلا أنّ كتابه "الجهاد.. الفريضة الغائبة"، الذي ظهر قبل ذلك بعامين، يعدّ المحرّض الأول وراء الجريمة.

اقرأ أيضاً: اتهامات لتركيا بتجنيد مقاتلين سابقين من داعش في حربها على عفرين!
الكتاب أقرب إلى رسالة موجزة ومكثّفة، من 32 صفحة، من القطع الصغير، يتحدث عبد السلام فرج فيها عن الجهاد باعتباره فريضة، وهي ليست قضية تاريخية أو محض شرعية نقرأ عنها في الكتب، وإنما هي قضية حاضرة، ملحّة، وهي سبيلنا اليوم، لتغيير الحال وتبديله، وهي السبيل المنشود لتحقيق الهدف الأعظم والواجب الملحّ، ألا وهو إقامة "دولة الإسلام" في هذا العالم المعاصر الذي انتشر فيه الكفر وطغى فيه الضلال والبعد عن دين الله.
يتحدث محمد عبد السلام فرج إلى القارئ، ويضع نصب عينيه إقناعه بهذه الفريضة، وهذه المهمّة، ليكون جندياً في ركابها، فيردّ على كل قول أو شبهة مشكّكة، ويفنّد شبهات اليأس والقعود، ويبثّ البشارات وأخبار الانتصار الحتميّة؛ فالمهمة واجبة، وهي وعد إلهي لا بدّ من تحققه، وكلّ ما على المسلم المطيع لله، بعد قراءته هذه الرسالة؛ الالتحاق بصفوف المجاهدين مباشرةً.

اقرأ أيضاً: كيف أصبحت ترينداد أرضاً لتجنيد مقاتلين لصالح "داعش"؟
يصف فرج هذه الفريضة بالـ "غائبة"؛ إذ هي ليست حاضرة، فلا أحد يأمر بها أو يذكر بها، وأول من ترك ذلك هم "العلماء"، الذين يفترض فيهم العلم بوجوبها وثبوتها في دين الله، وعموم المسلمين كذلك، هم مقصرون ومنصرفون عنها، وتاركون لها، لا بدّ إذاً من التذكير والتأكيد عليها، وردّ كل شبهة متعلقة بها، هذا هو ما يقوم به فرج في رسالته هذه، وهذه الفريضة هي طريق مرسوم إلهياً، فهو القائل: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾، فكيف يأتي بعد ذلك من يشكّك في فرضيتها، يستنكر فرج.
والرسول، صلّى الله عليه وسلّم، يقول: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف"، ويقول لكفّار قريش: "أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح"، إذاً، بالنسبة إلى فرج، الجهاد هو الطريق القويم الذي لا جدال فيه ولا مداهنة.

فرج خلف قضبان المحكمة العسكرية استقبل الحكم عليه بالإعدام بترديد شعارات إسلامية

الجهاد عند فرج؛ هو السبيل الوحيد لعودة ورفع صرح الإسلام من جديد، وهل ذلك ممكن؟ يتقمص فرج تفكير أحد المشككين، ويجيبه فوراً بإيراد نصوص تبشّر بقرب عودة الخلافة، بدايةً بحديث الرسول: "إنّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمّتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ..."، وقوله: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ..."، إلى حديث: "... ثم تكون خلافة على منهاج النبوّة". فالنبي يبشر ويعد بهذا، وما على المؤمن اليوم إلا أن يكون هو السبيل لتحقيق هذه البشارات والوعود، ويستبشر فرج بالصحوة الإسلامية المعاصرة، ويرى فيها مبشرات لقرب عودة الخلافة ودولة الإسلام.

يستبشر فرج بالصحوة الإسلامية المعاصرة ويرى فيها مبشرات لقرب عودة الخلافة

لكن، ماذا نقول لمن شكّك أصلاً بقضية بناء الدولة الإسلامية؟ إنه قول شديد الإنكار، بحسب فرج، وإن إقامة الدولة الإسلامية فرض لا مجال للشكّ فيه، ألم يقل الله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.. ﴾ (المائدة: 49)، وقوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ...﴾ (المائدة: 44)، وكذلك حديث الرسول، عليه السلام، في وجوب مبايعة خليفة: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"، ويواصل فرج محاججته ويتساءل: "هل نعيش اليوم في دولة إسلامية؟"، هنا يستعين بابن تيمية، وهو أكثر مَن وردت عنه الفتاوى في رسالته هذه؛ حيث يؤكد ابن تيمية أنّ "من شروط الدولة الإسلامية أن تعلوها أحكام الإسلام"، يعقّب فرج: "الأحكام التي تعلو اليوم هي أحكام الكفر، هي قوانين وضعها كفار وسيّروا عليها المسلمين"، بالتالي؛ فإنّ بلاد المسلمين، وفق هذا المنطق، هي عند فرج ليست بـ "دار إسلام"، وإنما هي "دار كفر"؛ أيّ إنّ إعلان الجهاد فيها فرضٌ لا مماراةَ فيه، فهيا أيها المجاهدين فليبدأ الجهاد والقتال هنا.

اقرأ أيضاً: هذه الأسرار الخفية لأساليب الإرهابيين في تجنيد الأنصار
وتحسباً لأيّ إنكار أو تعجّب لهذا القول؛ يورد فرج فتوى أخرى لابن تيمية، وهي فتواه بخصوص التتار، المعاصرين لابن تيمية، الذين أظهروا الإسلام، ولكنهم لم يحكموا بالشرع، ما دفع ابن تيمية للإفتاء بكفرهم ووجوب قتالهم: "كلّ طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين"، يتمسك فرج بهذه الفتوى؛ بل ويؤكد، بكلّ ثقة، أنّ "صفات التتار هي ذات صفات حكام اليوم! فحكام هذا العصر في ردّة عن الدين، لا يحملون من الإسلام إلا أسماء، وكما أفتى ابن تيمية بوجوب قتال التتار، فإن هذا ما يلزم اليوم مع الحكام في الدول العربية الإسلامية".

 

ويختم فرج رسالته بردود على بعض الأقاويل التي تتردد بين المسلمين، والتي تشكّك بوجوب الجهاد وأولويته الآن؛ فمن يقول إنّ الواجب هو الانشغال بالطاعة، يرد عليه بأنّ الجهاد هو رأس الطاعات، ثم يعرج على فرضية يتمسك بها أتباع حركة الإخوان المسلمين، مدارها الحديث عن إمكان حدوث "أسلمة" تدريجية للدولة، عن طريق التغلغل في جسم الدولة والتدرج في المناصب، يردّ عليهم بأنّ هذا تغيير شكلي في جسم فاسد من أساسه ينبغي اقتلاعه من جذوره، أما من يقول إنّ قيام الدولة يكون عن طريق الدعوة وتكوين قاعدة عريضة، فيرد عليه بإجابة تكشف عن الحالة النفسية التي يعيشها فرج، فيؤكد أنّ الذي سيقيم الدولة هم القلّة المؤمنة، مستشهداً بالآية: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾؛ هكذا يتخيّل فرج نفسه ومجموعة الزملاء من المجاهدين كفئة قليلة مؤمنة متعالية على نسيج المجتمع من قطعان الجهلة والضالّين، وفي هذا السياق؛ يأتي فرج بقول فريد، لعلّه لم يسبق إليه حتى ذلك الحين، وهو المبدأ الذي ستأخذ به تنظيمات جهادية في أزمان لاحقة، وهو: "العدو القريب أولى بالقتال من العدو البعيد"، راداً بذلك على من يقول إنّ الواجب اليوم هو قتال المحتلّين، فالعدو القريب، وهم الحكام وجندهم، هم أساس وجود المستعمرين (العدو البعيد)، وهكذا، بحسب فرج، فإنّه بكل هذا لا يترك سبيلاً على مشكّك، فلا سبيل بعد ذلك إلا بالأخذ بهذه "الفريضة الغائبة".
دستور النبهاني المقترح لعودة الأمجاد
لا بدّ من إيجاد فكر جديد قبل التغيير، هذه هي القاعدة التي ينطلق منها النبهاني في كتابه "نظام الإسلام"، وهو يؤكد: يجب أن نبني عقيدة، الإيمان البسيط، "إيمان العجائز"، وحده غير كافٍ، وليس هو المطلوب، وليس هو مقصد الرسالات وغايتها، ومن دون هذا الفكر الجديد فإن ما ينشأ هو تلك الروابط التي على شاكلة "الوطنية" و"القومية"، والتي يرى النبهاني أنّها روابط عاطفية ناشئة عن غريزة البقاء، يتشارك فيها الإنسان مع الطير والحيوان، وهو كذلك يؤكد رفضه للرابطة الروحية التي لا ينبثق عنها نظام، "يجب أن ينبثق عن العقيدة نظام"، هذه هي النقطة المحورية التي يدور عليها كتاب النبهاني.

 

يؤكد النبهاني أنّ المسلمين طبّقوا الإسلام منذ وصول الرسول إلى المدينة حتى عام 1918

يرى النبهاني أنّ هناك، في زمن تأليف الكتاب، عام 1953، ثلاثة مبادئ في العالم لا غير: الرأسمالية، والاشتراكية، والإسلام، وبحسبه؛ فإنّه بينما توجد دول عديدة تحمل المبدأين الأولين، فإنّ الإسلام لا وجود لدولة تحمله، وهنا يتجه النبهاني لبيان فساد الرأسمالية، التي يوكد أنّها تقوم على فصل الدين عن الحياة، وهو ما يرى فيه سبباً لكلّ شرّ، أما الاشتراكية وما يرتبط بها من أفكار كالشيوعية، فيختصرها بأنها ترى أنّ الكون والإنسان والحياة مادة فقط، وهنا ينتقل للحديث عن "النظام الإسلامي"، وفضله على ما سواه؛ فهو متفق مع فطرة الإنسان، وموافق للعقل، كما يرى أن الإسلام؛ "الدين الذي أنزله الله على سيدنا محمد لتنظيم علاقة الإنسان بخالقه وبنفسه وبغيره من بني الإنسان".

الشيخ تقيّ الدين النبهاني.. مؤسس حزب التحرير ومنظّره الأوّل

يسعى النبهاني لإثبات فضل النظام الإسلامي، وما يعود به حتماً من خير عميم، وليس أمامه هنا إلا التجربة التاريخية، فكما أشار؛ ليس هناك دولة اليوم تجسد هذا النظام.
يخالف النبهاني الرؤى التي ذهبت إلى أنّ حكم الإسلام لم يطبق إلا في زمن معين، يسمى بالخلافة الراشدة، أو "السلف الصالح"، فيؤكد أنّ المسلمين طبّقوا الإسلام منذ وصول الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، إلى المدينة، حتى عام 1918، حين سقطت آخر دولة إسلامية على يد الاستعمار، وأنّ المجتمع الإسلامي طبق الإسلام في جميع العصور، وكان بسبب ذلك خير المجتمعات، أمّا عن التشكيك في عظمة التاريخ الإسلامي، فينبه النبهاني إلى أنه من صنيع المستشرقين، أعداء الإسلام.

اقرأ أيضاً: "نظام الإسلام" للنبهاني: دعوة لاستعادة دولة متخيلة
وإذا كان الأخذ بالنظام الإسلامي هو سبب رفعة المسلمين، فإنّ التخلف والانحطاط لم يصبهم إلا يوم تركوا دينهم، وكان ذلك عندما انتهت الحرب العالمية الأولى بانتصار الحلفاء، فمنذ ذلك الحين "والكافر المستعمر يطبق علينا نظامه الرأسمالي في جميع شؤون الحياة".
أما اليوم؛ فيرى النبهاني أنّ مهمة المسلمين هي تغيير هذا النظام الفاسد البالي، الذي بسببه يتمكن الاستعمار من بلادنا، وأنه لا بدّ من قلعه من جذوره بأكمله جملةً وتفصيلاً، حتى نستطيع أن نستأنف ما يسميه بـ "الحياة الإسلامية"، والتي هي "سبيل نهضتنا الوحيد".
يؤكد النبهاني أنّه لا سبيل إلى استئناف حياة إسلامية إلا بعد تأسيس الدولة الإسلامية، ولا سبيل لذلك إلا إذا أخذنا الإسلام كاملاً: أخذناه عقيدة، وأنظمة منبثقة عنها، هكذا يتحدث النبهاني، وهو المنتمي لحركة الإخوان المسلمين، قبل أن ينشقّ ويؤسس التنظيم "حزب التحرير"، الذي أصبح هذا الكتاب المرجع الأول عنده، والذي يتّخذ من تأسيس "الدولة الإسلامية" غايةً أسمى له، ويشير النبهاني إلى صفات حامل الدعوة الإسلامية،  الذي سيتولى مهمة "استئناف الحياة الإسلامية"، فهو عنده يجب أن يكون متحدياً كلّ شيء: العادات والتقاليد، والأفكار السقيمة، والمفاهيم المغلوطة، الرأي العام الخاطئ، والعقائد والأديان".

اقرأ أيضاً: أساليب التجنيد عند الجماعات الجهادية الإرهابية
وفي الجزء الأخير من الكتاب؛ يقدم النبهاني مشروعه المقترح لدستور دولة الخلافة، طارحاً إياه للنقاش بين المسلمين، فيصفه بأنه: "مشروع نضعه بين أيدي المسلمين وهم يعملون لإقامة دولة الخلافة وإعادة الحكم بما أنزل الله"، ويؤكد أنّه "منبثق من العقيدة الإسلامية، ومأخوذ من الأحكام الشرعيّة".
ويتلخص هذا الدستور المقترح باعتبار أنّ "العقيدة الإسلامية" هي أساس الدولة، وأنّ "دار الإسلام" هي البلاد التي تطبّق فيها أحكام الإسلام، ولإدارة دولة الخلافة يقترح نظام حكم مركزي، وإدارة لا مركزية، أما أهم المناصب في الدولة؛ فهناك الخليفة، ومعاون التفويض، والوالي، والعامل، وهناك أمير الجهاد، وصاحب الشرطة، وأما المؤسسات فهناك بيت المال، ومجلس الشورى، ومجلس الولاية، ويظهر بذلك مدى تأثر هذا المقترح بالنموذج التاريخي لدولة "الخلافة الإسلامية"، كما يسميها ويتخيلها أتباع التيارات الإسلامية المعاصرة.
ولا يتوقف مقترح النبهاني عند الإطار السياسي، وإنما يمتد للنظام الاجتماعي، والذي يكاد ينحصر في مسألة المرأة، التي يؤكد النبهاني على أنّ الأصل هو تواجدها في البيت، كما ينبه على ضرورة فصل الرجال عن النساء، أما النظام الاقتصادي؛ فهناك من بين واردات بيت المال المتوقعّة مصادر كـ: الفيء، والجزية، والخراج، وخمس الركاز، والزكاة، وهي كذلك مصادر ذات صبغة تاريخية، وعلى طريقة "الحويني"، يبدو أنّ إعلان الجهاد هو أحد الحلول عنده المقترحة لرفد خزينة الدولة، ويمتدّ دستور النبهاني ليصل للتعليم، فيؤكد ضرورة فرض سياسة تعليمية تهدف لتكوين ما يسميه بـ "العقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية"؛ أيّ إن هذه الدول الإسلامية المنتظرة لن تقتصر على السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، إنما ستشكّل حتى كيان الأفراد وعقلياتهم ونفسياتهم.

الصفحة الرئيسية