تركيا تتمدد في أفريقيا في ظل الانقلاب العسكري بالنيجر

تركيا تتمدد في أفريقيا في ظل الانقلاب العسكري بالنيجر

تركيا تتمدد في أفريقيا في ظل الانقلاب العسكري بالنيجر


كاتب ومترجم جزائري
16/10/2023

ترجمة: مدني قصري 
في الوقت الذي تحتفل فيه الجمهورية التركية بالذكرى المئوية الأولى لتأسيسها، فإنها تواجه أيضاً تاريخَها بآفاق المستقبل. فمن الواضح مع بداية القرن الحادي والعشرين أنّ السياسة الخارجية التركية - وهي ليست الوحيدة - تتجه بقوة نحو أفريقيا. ورغم غيابها عن القارة لفترة طويلة، وخاصة في الجزء الواقع جنوب الصحراء الكبرى فقد حقّقت تركيا تقدماً ملحوظاً في أفريقيا على مدى السنوات العشرين الماضية. فبينما ظلت سياستها الخارجية معطلة منذ عشر سنوات في الشرق الأوسط، بسبب الأزمة السورية وبسبب توتر علاقاتها مع شركائها الغربيين التقليديين، فقد لاقت سياسة انفتاحها على أفريقيا نجاحاً كبيراً.
في هذا الحوار يقدّم بيرم بالجي، الباحث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلميCNRS  ومعهد البحوث الدولية CERI-Science Po، والمدير السابق للمعهد الفرنسي لدراسات الأناضول، والمتخصص في الإسلام والسياسة في آسيا الوسطى ما بعد الاتحاد السوفيتي والقوقاز وتركيا، بعضَ المفاتيح لفهم السياسة التركية الجديدة في أفريقيا من خلال اتخاذه  النيجر نموذجاً لا غنى عنه.
أصبح الوجود التركي في أفريقيا أكثر وضوحاً مع تطورات متباينة بشكل خاص. كيف يمكننا تفسير ذلك؟
الأمر الجديد في تاريخ تركيا هو أنّ هذا الانخراط في أفريقيا يدين بالكثير لِفريق حزب العدالة والتنمية الذي يتولى السلطة منذ حوالي عشرين عاماً. فمن نقاط القوة في هذه السياسة هناك بُعدُها المتعدد الأوجه، حيث أنها توظف عنصراً سياسياً واقتصادياً وثقافياً وإنسانياً، ومؤخراً بُعداً عسكرياً وأمنياً أيضاً. إلا أنّ الانخراط التركي يعاني من بعض نقاط الضعف والقصور. فالاقتصاد التركي يمر بفترة صعبة، مما يعيق الاستثمار التركي في أفريقيا. ومع ذلك فإنّ السياسة التركية تظل تقاوم، لأنّ بعض القادة السياسيين في أفريقيا تربطهم علاقات شخصية قويّة مع أردوغان، كما كان الحال في النيجر مع الرئيس المعزول محمد بازوم.
والحال أنّ النيجر تحتل مكانة خاصة في النظام التركي في أفريقيا. ونتيجة لذلك فإنّ الانقلاب العسكري الذي ستكون له تداعيات خارج البلاد ولن تقف إزاءه لا أوروبا ولا الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي سوف يضع السياسة التركية في موقف مربك وجد حرج. أما ماذا سيكون تأثير هذه الأزمة على السياسة التركية في هذه البلدان وخارجها في أفريقيا فهذا هو السؤال الذي يجب طرحه في النهاية.
هنا مع ذلك علاقة تاريخية بين بعض الدول الأفريقية وتركيا العثمانية. هل تم كسر تلك الصلة بعد ذلك؟
في الواقع كانت شمال أفريقيا، باستثناء المغرب، جزءاً لا يتجزأ من الإمبراطورية العثمانية، وبالتالي كانت له علاقة مألوفة وهامة مع وريثتها الجمهورية التركية. في المقابل، كان الوجود العثماني في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى دائماً ضعيفاً، وكان شبه معدم في السودان وعلى طول ساحل القرن الأفريقي.

بيرم بالجي

أما الجمهورية فقد كان لا بد من وقت طويل حتى ترسخ نفسها بقوة في أفريقيا، خاصة جنوب الصحراء الكبرى. ولم تؤكد الدبلوماسية التركية اهتمامَها الأوّل إلا في نهاية التسعينيات، في شكل سياسة أفريقية نوعية محدّدة. في الواقع قام إسماعيل جيم، وزير الخارجية في ذلك الوقت، بتطوير مشروع كامل لم ير النورَ أبداً منذ أن تأثرت تركيا بشدة بالأزمة الاقتصادية عام 1997. وقد تم كبح هذه الأزمة مع وصول فريق جديد إلى السلطة في عام 2002، وهو فريق حزب العدالة والتنمية وزعيمه أردوغان، الذي تم تنصيبه من أجل وضع استراتيجية جديدة تسمح لتركيا بتطوير علاقاتها مع أفريقيا. ولذلك، فبفضل فريق حزب العدالة والتنمية الحاكم الحالي، وحليفه في ذلك الوقت، حركة غولن، التي كانت أول منظمة غير حكومية تستثمر بكثافة في أفريقيا افتتحت تركيا مجالاً جديداً من النفوذ على التراب الأفريقي. .

من هنا، هل تمّ تعزيز العلاقات السياسية بشكل مباشر؟
بدأت المبادرات السياسية التركية تؤتي ثمارها بسرعة: ففي عام 2005 أصبحت تركيا عضواً مراقباً في الاتحاد الأفريقي، وفي عام 2008 وقّعت اتفاقية شراكة استراتيجية مع هذه الهيئة نفسها. وفي نفس العام انعقدت في إسطنبول القمة التركية الأفريقية الأولى، وفي عام 2011 جلبت تركيا الانتباه من خلال سياسة استثمارية متعهّدة للغاية في الصومال، البلد الذي نسيه المجتمع الدولي الذي أحبطته هذه "الدولة الفاشلة". ثم تلا ذلك عقدُ قِمم أخرى تحت شعار "تركيا أفريقيا" في عامي 2014 و2021. ونلاحظ أيضاً تعهّد أردوغان الشخصي بالسياسة التركية في أفريقيا. فهو رئيس الدولة غير الأفريقي الذي زار أكبر عدد من البلدان في أفريقيا. بل إنّ رحلاته إلى هذه القارة أكثر تواتراً من رحلاته في بلدان آسيا الوسطى الناطقة بالتركية، والتي مع ذلك لها تعني الكثير في حسابات لتركيا.

السياسة التركية في أفريقيا تعتمد على شخصية أردوغان، الذي يُعدّ حتى الآن أكثر الرؤساء الأتراك إفريقيةً. ولن يكون أمامه لترسيخ النفوذ التركي سوى وقت قصير


إحدى نقاط قوة السياسة التركية في أفريقيا هي الجانب المتعدد القطاعات. في الواقع، ففي حين تقتصر السياسة التركية في مناطق معينة من العالم على قطاعات محددة، فإنها سياسة عالمية في أفريقيا، وتنشر جوانب سياسية واقتصادية وثقافية وإنسانية، ومؤخراً عسكرية وأمنية.
على المستوى السياسي، فبالإضافة إلى مؤتمرات القمة التي صارت منتظمة بين تركيا وأفريقيا فقد أصبحت الزيارات الرسمية بين تركيا والدول الأفريقية متكررة بلا انقطاع. تشهد الشبكة الدبلوماسية التركية في أفريقيا نموّاً قوياً. وتستضيف القارةَ الآن 44 سفارة تركية، مقارنة بحوالي عشر سفارات فقط في عام 2002. وتتصدر الخطوط الجوية التركية الوجود التركي في أفريقيا، حيث تخدم 60 وجهة في 40 دولة أفريقية، وبذلك أصبحت شركة الطيران صاحبة أكبر حضور في هذه القارة.

يبدو أن الاقتصاد متضرر متعثر في تركيا. لكن هل تزدهر الاستثمارات الاقتصادية التركية في أفريقيا؟
لقد مكنت الظروف السياسية التي نشأت بين تركيا وأفريقيا من تحقيق نمو قوي في التبادلات الاقتصادية بين الطرفين. فبينما كان حجم التجارة أقل من 2 مليار دولار في عام 2003 فإنه يقترب حالياً من 15 مليار دولار، ويستمر هذا الحجم في النمو بسبب الحرب في أوكرانيا التي تفضل التجارة بين تركيا وأفريقيا. والحال أنّ هذه الديناميكية الاقتصادية موزَّعة بشكل غير متساو إلى حد ما في جميع أنحاء القارة. فهي فاعلة بشكل خاص في مناطق معيّنة، مثل إثيوبيا وشمال أفريقيا، والتي تحتل مكانة حاسمة في سياسة تركيا الأفريقية. وفي مجال البناء والطرق والمجمعات التجارية أو البنى التحتية الرياضية تجد الشركات التركية نفسها في منافسة قوية مع الصين، وحتى مع فرنسا التي تستفيد من مكانة متميزة طويلة الأمد في أفريقيا. وكانت جائحة كوفيد قد سمحت لتركيا بتعزيز تجارتها مع أفريقيا، من خلال إرسال المعدات الطبية، بما في ذلك لقاحات توركوفاك التركية الصنع.
ومع ذلك، فقد ضعفت هذه العلاقات الاقتصادية بسبب التضخم المرتفع الذي هز الاقتصاد التركي منذ عام 2020. وعلى نطاق أوسع تعتمد العلاقات الاقتصادية والسياسية على التفاهم الجيد بين الرئيس أردوغان والقادة في أفريقيا، فضلاً عن الروابط الوثيقة التي يرعاها أردوغان مع الدوائر الاقتصادية التركية العاملة في أفريقيا. ومع ذلك، على الرغم من إعادة انتخابه مؤخراً فإنّ سلطة أردوغان ليست أبدية، وقد يؤثر رحيله في النهاية سلباً على قوة السياسة التركية في هذه القارة.

العلاقات الجيدة بين قادة الدول لا تفسر كل شيء. ما هو دور المؤسسات التركية في الاستثمار في أفريقيا؟
إحدى نقاط قوة الوجود التركي في أفريقيا هو أنه يعتمد إلى حد كبير على الجهات الفاعلة من المجتمع المدني التركي، وخاصة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. في الواقع، حتى لو كانت السياسة التركية من تصميم النخب السياسية قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، فإنّ الهياكل التركية شبه التبشيرية لحركة غولن هي التي زرعت بذور الوجود التركي في تركيا. أفريقيا. وهكذا، بعد أن كانت نشطة في الفضاء السوفييتي السابق توجهت مدارس حركة غولن، وكذلك الجمعيات الثقافية والمؤسسات الخيرية، إلى أفريقيا. وبتشجيع ومساعدة هذه الأسس تحديداً تمكنت الدولة التركية بعد ذلك من تنفيذ سياسة نشاطها في أفريقيا. ومع ذلك، بعد أن كانا حليفين وثيقين دخل غولن وحكومة حزب العدالة والتنمية في صراع. وكانت هذه القطيعة مذهلة في تموز (يوليو) 2016، عندما اشتبِه في تورط أتباع غولن في الانقلاب الفاشل. وفي أعقاب ذلك شنت الدولة التركية قمعاً عنيفاً ضد الحركة في تركيا، ولكن أيضاً في الخارج، بما في ذلك في أفريقيا، حيث تم إغلاق معظم مؤسسات غولن أو الاستيلاء عليها من قبل الدولة التركية. وفي الواقع تدير مؤسسة عامة "معارف" الآن معظم مدارس غولن في أفريقيا. سيحدد المستقبل ما إذا كانت إدارة الدولة للهياكل الخاصة هناك ستعرِّض التعاون بين تركيا أو أفريقيا للخطر. بداهة، من الواضح أنّ وجه النفوذ التركي يتغير ولكنه يتقدم، لأنّ أتباع غولن، على الرغم من أنهم روادٌ، إلا أنهم ليسوا الجهات التركية الفاعلة الخاصة الوحيدة في هذه القارة.

عام 2005 أصبحت تركيا عضواً مراقباً في الاتحاد الأفريقي
هناك أيضاً حركات أخرى ناشطة، لا سيما الطوائف الدينية، مثل السليمانية والنقشبنديين لمحمود هداي وقفي، المتمثلة في أشكال خيرية وتعليمية واقتصادية، أو في شكل الثلاثة مجتمعة في نفس الوقت. وأخيراً، لا بد أن نذكر أيضاً دور مديرية الشؤون الدينية. لقد شاركت إدارة الشؤون الدينية، وهي الذراع الديني للدولة في تركيا لإدارة الإسلام، بنشاط كبير لعدّة سنوات في نشر الإسلام التركي في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في أفريقيا. فقد قامت تركيا ببناء المساجد، ويتم تدريب الكوادر الدينية الأفريقية في تركيا.
كما أنّ للقوة الناعمة التي تتمتع بها تركيا بُعداً طلابياً. تتيح برامج المنح الحكومية استقبال وتدريب آلاف الطلاب الأفارقة في تركيا. وتشير السلطات التركية الرسمية إلى وجود ما يقارب 60 ألف طالب أفريقي في تركيا عام 2023.
وأخيراً، فإنّ معاهد يونس أمره، التي تحمل اسم الشاعر التركي الشهير في القرن الثالث عشر، مفتوحةٌ في جميع أنحاء العالم لنشر اللغة والثقافة التركية. وفي السنوات الأخيرة زادت أعداد هذه المعاهد بشكل ملحوظ في القارة الأفريقية.

من الناحية العسكرية، هل تتقارب المصالح أيضاً؟
البعدُ العسكري حديث العهد ولكنه في حالة تطوّر قوي. فهو يندرج ضمن السياسة الخارجية التركية التي أصبحت عسكرية بشكل متزايد، مع جيش تركي يعمل الآن خارج المنطقة المجاورة لتركيا (سوريا والعراق وليبيا وغيرها). إنّ تطور الصناعة العسكرية التركية يتيح لأنقرة هذه الآفاق. وبالتالي، على سبيل المثال لا الحصر، فإنّ صناعة الطائرات بدون طيار، والتي لوحظ نجاحها في ناجورنو كاراباخ وأوكرانيا وسوريا وليبيا، تسمح لأنقرة بإغراء الدول الأفريقية الحريصة على تنويع مورّديها بالأسلحة. وبحكم هذا الواقع فإنّ البُعد العسكري للسياسة التركية يتخذ جانبين:
يتمثل الأول في الحصول على مكان في سوق مبيعات الأسلحة العالمية. فشركات تصنيع الأسلحة، العامة والخاصة متواجدة في سوق الأسلحة في أفريقيا. لقد حصلت دول مثل إثيوبيا وتشاد والنيجر بالفعل على طائرات تركية بدون طيار، وهناك دول أخرى على قائمة الانتظار، مثل أنجولا ورواندا. وحتى الطائرات التركية، ذات التصميم الحديث، تجد زبائن في أفريقيا. وقد حصلت النيجر بالفعل على طائرت هوركوس Hürkuş التركية.

شاركت إدارة الشؤون الدينية، وهي الذراع الديني للدولة في تركيا لإدارة الإسلام، بنشاط كبير لعدّة سنوات في نشر الإسلام التركي في جميع أنحاء العالم


أمّا الجانب الثاني فهو يتعلق بالتدريب العسكري الذي تقدّمه تركيا للدول المهتمة بالتجربة التركية في محاربة العصابات وحركات التمرد. وفي الصومال يُعدُّ الوجودُ العسكري التركي الأكثر كثافة، مع وجود قاعدة عسكرية، وسياسة إشراف واسعة النطاق على الجيش الصومالي.
لكنّ النجاح العسكري التركي في أفريقيا لا يخلو من مصاعب. ففي إثيوبيا، مثلاً، حيث تم توثيق استخدام الطائرات بدون طيار التركية، فقد ارتكبت هذه الطائرات أخطاء فادحة ضد المدنيين، حيث سقط قتلى بالعشرات أو حتى المئات. وعلى الرغم من ذلك فإنّ كون أنّ الأسلحة التركية رخيصة الثمن، وأنّ مبيعات أنقرة لا تصاحبها شروط سياسية أو مطالب باحترام حقوق الإنسان في هذه البلدان، لا شك يوفر آفاقاً جيدة للمجمع الصناعي العسكري التركي في القارة الأفريقية.

ما هي خصوصية العلاقات بين تركيا والنيجر؟
تحتل النيجر مكانة خاصة في النظام التركي في قارة أفريقيا لعدة أسباب. أوّلاً لأنّ النيجر يشكل جسراً بين شرق أفريقيا وغرب أفريقيا، مما يشجع أنقرة على استثمار جزء من إمكاناتها في نيامي للتحرك في عدة بلدان معاً في أفريقيا. علاوة على ذلك تمكنت تركيا في السنوات الأخيرة من بناء علاقة متعددة القطاعات ومتوازنة مع هذا البلد.
صارت العلاقات السياسية ممتازة منذ عام 2012 عندما افتُتِحت سفارةٌ تركية في النيجر، كما أنّ الزيارات والاجتماعات السياسية تتوالى بين البلدين. وعلى الصعيد الاقتصادي شهد حجم التجارة تطوّراً ملحوظاً في السنوات الأخيرة. كان هذا الحجم  79 مليون دولار في عام 2019، وبلغ حالياً 203 ملايين دولار. وفي العاصمة نيامي يبدو الحضور الاقتصادي التركي واضحاً: فقد تم بناء فندق العاصمة الكبير "راديسون" وتتم إدارته من قبل الأتراك، وكذلك مطار العاصمة من قبل نفس الشركة "سوما" الموجودة أيضاً في السنغال. تمثل الخطوط الجوية التركية واحدة من الشركات القليلة التي لديها رحلات منتظمة إلى نيامي.
على صعيد "القوة الناعمة" هناك عدد من المنظمات غير الحكومية التركية الناشطة هناك، فهي تقوم بأنشطة خيرية وتعليمية وتنموية. وبالمثل، تجدر الإشارة إلى أنه منذ السنوات العشر الماضية ذهب العديد من الطلاب من النيجر إلى تركيا حيث تقدم الجامعات التركية تعليماً عالي الجودة، باللغة الإنجليزية أو التركية، وبأسعار معقولة. لقد أتاحت لنا الزيارة الأخيرة إلى نيامي رؤية أهمية هذه التبادلات التي تضع تركيا بين الدول الأكثر نشاطاً والتي ما فتئت، حتى ترسّخ جودها،  تُذكّر باستمرار، أنه ليس لها ماض استعماري في هذه القارة. وأخيراً، يجب أن نشير أيضاً إلى التعاون العسكري. إذ تسعى تركيا، التي تتمتع طائراتها بدون طيار من طراز "بيرقدار"Bayraktar   بِسمعة عالمية منذ استخدامها الفعّال في صراع كاراباخ وسوريا وليبيا، إلى تصدير خبرتها العسكرية إلى أفريقيا. وقد باعت مؤخراً 6 طائرات بدون طيار من طراز بيرقدار إلى النيجر، وطائرة من طراز هوركوس، وكمية كبيرة من المركبات المدرعة.


ومن هنا، ولهذه الأسباب، تتابع تركيا عن كثب ما يحدث في النيجر، وهي مهتمة بالبلاد ليس فقط لنفسها، ولكن أيضاً لما تمثله في هذه المنطقة الاستراتيجية من أفريقيا. على سبيل المثال، أقامت تركيا علاقات خاصة مع الحكومة الشرعية في طرابلس، وحصلت للتو على إدارة ميناء في طرابلس لمدة 99 عاماً. لذلك، يجب بالنسبة لتركيا تجنّب توسّع أزمة النيجر التي قد تؤدي إلى زعزعة استقرار ليبيا حيث تمتلك أنقرة العديد من المصالح. والواقع أنّ تركيا، لضمان مصالحها فيما يتعلق بمكامن الغاز في البحر الأبيض المتوسط أبرمت اتفاقاً مع ليبيا لتوسيع منطقتها البحرية الخالصة. ومع ذلك فإذا تم زعزعة استقرار هذا البلد بسبب الأزمة الحالية في النيجر فإنّ ذلك من شأنه أن يعرّض الاستراتيجية التركية بأكملها للخطر.

إذن، كيف ستحدّد أنقرة موقعها في هذه الأزمة السياسية التي من المرجّح أن تستمر؟
المعضلة بالنسبة لأردوغان جد معقدة، حيث يواجه خياراً صعباً. إنّ دعم الانقلابيين يتعارض مع مبادئه، لأنه هو نفسه كان ضحية لتدخل الجيش في الحياة السياسية التركية. في عام 2008 كان الجيش هو الذي كاد أن يحظر حزبَه السياسي في تركيا عندما كان رئيساً لوزراء البلاد. وفي عام 2016 أحبط أردوغان انقلاباً كاد أن يكلفه حياته. 
وأخيراً، في جميع البلدان التي يسعى إلى ترسيخ النفوذ التركي فيها يقدّم أردوغان نفسه كرجل يستمد شرعيته من صناديق الاقتراع. ومع ذلك، في النيجر، الوضع مختلف. فحتى لو كانت علاقاته مع الرئيس بازوم جيدة، وحتى لو كان الانقلابيون جنوداً وكان أردوغان من حيث المبدأ ضد الانقلابيين فلا مفر من ملاحظة أنّ تغيير النظام في النيجر يمكن أن يكون في صالح تركيا. هنا في النيجر، كما هي الحال في بلدان أخرى هزّتها الانقلابات العسكرية مؤخراً، في مالي وبوركينا فاسو على وجه الخصوص، يسعى أسياد البلاد الجدد إلى الحد من نفوذ فرنسا. ولكن حتى وإن لم تكن تركيا منافساً مباشراً لفرنسا في أفريقيا، فإنها لا تملك وسائل المنافسة اللازمة. إنّ تركيا، مثل القوى الجديدة الأخرى التي ترسّخت أقدامُها في أفريقيا - روسيا والصين والهند وغيرها – تنظر بعيون متفائلة إلى التغيرات في أفريقيا والتي تخدمهما بشكل غير مباشر. ونظراً لحجم الأزمة فمن شبه المؤكد أنّ فرنسا سوف تضطر إلى الانسحاب الكامل، بما في ذلك إنهاء تعاونها العسكري مع نيامي. ومع ذلك فإنّ تركيا، حتى لو لم يكن لديها الوسائل اللازمة لتحل محل فرنسا فستجد في انسحاب فرنسا فرصاً اقتصادية وحتى عسكرية جديدة، حيث شهدنا في السنوات الأخيرة تركيا تقوم بتدريب الجيوش في أفريقيا ومساعدتها على تنفيذ استراتيجيات مكافحة الجهاديين.
ويفسر هذا الوضع سببَ حذر تركيا وصمتها إزاء ما يحدث في النيجر. ومن المتوقع أنها تنتظر وتتريث لترى كيف ستتطور الأمور قبل أن تتخذ موقفاً أكثر وضوحاً.

في السياق الحالي للوضع في أفريقيا، كيف تقاوم السياسة التركية وتصمد في هذه القارة؟
تتمتع السياسة التركية في أفريقيا في الوقت نفسه بالفرص المتاحة، ولكن يتعين عليها أيضاً أن تعمل على حل الصعوبات ومواجهة التحديات.
تعتمد الفرص على الخبرة المكتسبة على الأرض على مدى عشرين عاماً. الطريق مفتوح ويجب على الحكومات القادمة  الاستمرار في الاستفادة من الفجوة المفتوحة الآن لتعزيز الوجود التركي في أفريقيا. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ معظم الدول الأفريقية تنتهج منطق التحرر من الوصاية والطبيعة الاحتكارية للسياسات التي مارستها القوى الاستعمارية التقليدية سابقاً، وهي فرنسا وبريطانيا العظمى. وهكذا، ففي كل مكان في أفريقيا تطمح النخب الجديدة - كما نرى بشكل أكثر حزماً في مالي وبوركينا فاسو، والنيجر التي أصبحت للتو تحت سيطرة المجلس العسكري السيادي - إلى تنويع شركائها، وترحب عن طيب خاطر بالقوى الناشئة الجديدة، تركيا والبرازيل والمملكة العربية السعودية وروسيا وغيرها.
لكنّ تحديات تركيا في أفريقيا عديدة ولا تقل عن حجم الفرص المتاحة. أولاً، حتى لو كانت القوى القديمة تفقد اليوم نفوذها فإنّ عدد المنافسين الجدد لا يقلّ عن عدد تلك القوى القديمة. وعلاوة على ذلك، وهذا بلا شك أكثر خطورة فإنّ الاقتصاد التركي يتخبط في وضع غير مستقر ومتفاقم. إنّ فترات النمو الكبير تعقُبها فتراتٌ من الهشاشة القوية، كما كان الحال منذ عام 2020 حيث كان للتضخم وديون البلاد تأثير كبير على النشاط الخارجي للجهات التركية الفاعلة، العامة منها والخاصة. علاوة على ذلك، فإنّ التحدي الرئيسي هو أنّ السياسة التركية في أفريقيا تعتمد على شخصية أردوغان، الذي يُعدّ حتى الآن أكثر الرؤساء الأتراك إفريقيةً. ولن يكون لِهالتِه لترسيخ النفوذ التركي ووضع علامة عميقة على العلاقات التركية الأفريقية سوى وقت قصير. وأخيراً، فكما هو الحال في النيجر فإنّ الأزمات السياسية والعسكرية من الممكن أن تنشأ فجأة في أفريقيا. وفي مواجهة انقلابات كالتي شهدتها نيامي (وقد نشهد انقلابات أخرى لاحقاً) فإنّ تركيا لا تتمتع بالخبرة الإدارية. ومن ثم ستصبح سياستها على المحك، ويمكن أن تختفي استثمارات تركية قائمة منذ عدة سنوات بمجرد تغيير بسيط في السلطة.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

https://www.lesclesdumoyenorient.com/Entretien-avec-Bayram-Balci-La-politique-de-la-Turquie-en-Afrique-a-l-epreuve.html
 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية