الولايات المتّحدة في ليبيا: احتواءُ الوجودِ الروسي بأي ثمن

الولايات المتّحدة في ليبيا: احتواءُ الوجودِ الروسي بأي ثمن

الولايات المتّحدة في ليبيا: احتواءُ الوجودِ الروسي بأي ثمن


كاتب ومترجم جزائري
26/06/2023

ترجمة: مدني قصري

 تُكثّفُ الولايات المتحدة في الوقت الحالي جهودَها للحد من النفوذ الروسي في ليبيا، لا سيما من خلال الضغط على الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية، حتى تقطع صلتها بمجموعة فاغنر. لقد أدت الحرب المستمرة في السودان إلى زيادة مخاوف الولايات المتحدة من تدخل موسكو انطلاقاً من ليبيا المجاورة.

مرّة أخرى تم تأجيل اجتماع اللجنة العسكرية المشتركة التي تضم مسؤولين عسكريين يمثلون طرفَي الصراع العسكري -  من الشرق ومن الغرب – وهو الاجتماع الذي تم تأجيله مرّات عدة، وكان من المقرر عقده في أيار (مايو) 2023 في مدينة سبها، في جنوب البلاد، لمناقشة انسحاب المرتزقة الروس والأتراك والقوات الأجنبية من الأراضي الليبية. ويؤكد هذا التأجيل الجديد ما كانت تتناوله مصادر إقليمية وعربية عن "استمرار التوترات السياسية" بين طرفَي الصراع، رغم التفاؤل الذي أبداه أعضاء هذه اللجنة بإمكانية التوصل إلى اتفاق شامل.  

كان من المتوقع أن تجري هذه المحاولة الجديدة بعد مرور أربعة أشهر تقريباً على الزيارة السريعة وغير العادية التي قام بها إلى ليبيا مدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز في منتصف شهر كانون الثاني (يناير)، والتي سرعان ما بدأ المحللون في تقدير عواقبها. وهكذا فإنّ الرغبة في استهداف مجموعة فاغنر ومحاولة احتوائها من أجل تقييد النفوذ الروسي على الدول المجاورة أصبحت واضحة الآن. وقد تعزّز هذا الاتجاه منذ اندلاع الأزمة السودانية، الأمر الذي بات يشكل ضغطاً إضافياً على الأمريكيين.

السودان هدفاً ومحط أنظار

لا شك أنّ إعلان المبعوث الأمريكي الخاص، ريتشارد نورلاند، في 15 أيار (مايو) 2023 يحمل الكثير من الدلالات، حيث ذكر على حسابه الخاص على تويتر، بعد محادثته الهاتفية مع رئيس مجلس الوزراء بالوكالة عبد الحميد الدبيبة "المصلحة المشتركة بين ليبيا والولايات المتحدة في الحصول على وقف لإطلاق النار في السودان". من جهة أخرى أكد نورلاند لرئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي على "أهمية تشكيل قوّة مشتركة لتسيير دوريات على الحدود الجنوبية، وضمان عدم استخدام ليبيا كمنصة للتدخل في السودان". وبالتأكيد تعكس هذه التصريحات مخاوف أمريكية، خاصة من تورط مجموعة فاغنر في زعزعة استقرار الحدود السودانية.

عبدالحميد الدبيبة ومدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز، الذي زار ليبيا في 12 يناير 2023

من ناحيتها، أكدت مساعِدة وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف، لقائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر على ما وصفته بـ "الحاجة الملحة لمنع الأطراف الخارجية بما في ذلك مجموعة فاغنر التي يدعمها الكرملين الروسي من الاستمرار في زعزعة الاستقرار في ليبيا أو في جاراتها، بما في ذلك السودان". هذا وقد نفى الصدّيق، نجلُ حفتر، أيّ مسؤولية سياسية حول زيارته إلى الخرطوم، المثيرة للجدل، قبل أيام فقط من اندلاع الصراع المسلح بين قائد الجيش النظامي عبد الفتاح البرهان وقائد قوة الدعم السريع الجنرال حميدتي الذي التقى به الصدّيق لقاء وجيزاً.

واشنطن في قلب اللعبة

وليام بيرنز هو أوّل مسؤول أمريكي كبير قام بزيارة ليبيا منذ أواخر عام 2011. إنها زيارته الثالثة إلى البلاد، والأولى بعد استعادة العلاقات الأمريكية مع نظام القذافي في عام 2004. ولكنّ أجندته هذه المرّة - المحدودة بلقائه مع حفتر الذي يقع مقره في المنطقة الشرقية، ومع الالدبيبة في طرابلس، دون اعتبار لرئيس المجلس الرئاسي، أو رئيس البرلمان أو رئيس الدولة تُترجم بشكل واضج القلق الأمريكي من وجود روسيا في ليبيا عبر فاغنر.

مقربون من الدبيبة: الزيارة الأمريكية أعطت لحكومة هذا الأخير "قبلة الحياة"، بعد 12 عاماً من الفشل المتواصل في بناء نظام سياسي جديد في ليبيا

لم يفصح حفتر عن مضمون محادثاته مع بيرنز، ولم ينشر صورةً عن لقائهما، فيما قال عبد الحميد الدبيبة إنّ الهدف من الاجتماع هو "استقرار ليبيا ودعمها دولياً، حتى في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي تم تأجيلها". . لكنّ اختيار المسؤول الأمريكي للاجتماع برئيس الوزراء المؤقت قد يعني أنّ هذا الأخير هو الآن "الممثل الشرعي للحكومة" من وجهة نظر الولايات المتحدة، بحسب سفير مصر السابق في طرابلس السيد هاني خلاف. خاصة وأنّ هذه الزيارة تأتي بعد أسابيع قليلة من موجة انتقادات استهدفت الحكومة الليبية لتسليمها لواشنطن ضابط المخابرات الليبي السابق أبو عجيلة مسعود المريمي، حيث يحاكَم هذا الأخير حالياً بتهمة صنع القنبلة التي استخدمت في تفجير لوكربي في كانون الأول (ديسمبر) 1988.

وأوضح هاني خلاف أنّ "الأمريكيين يصرّون على أنّ الدبيبة هو الممثل الشرعي لليبيا ولمصالحهم"، رغم أنّ مصر قد اتخذت "موقفاً مختلفاً". لم تعد القاهرة تعترف بشرعية الدبيبة، وتفضل دعم حكومة الوحدة الوطنية برئاسة فتحي باشاغا التي حازت على ثقة البرلمان. ويرى هاني خلاف أنّ الأمريكيين الذين يسيطرون على الشأن الليبي من بعيد "يسعون إلى أن يحلوا محل أطراف دولية أخرى لتحديد مستقبل البلاد"، موضّحاً أنّ زيارة بيرنز تمثل "محاولة لتأمين مستقبل الوجود الأمريكي هناك، ومنافسة دول أخرى مثل روسيا وفرنسا وإيطاليا، عسكرياً واقتصادياً". لذلك، يؤكد الدبلوماسي المصري أنّ الوجود الأمريكي في ليبيا يهدّد أكثرَ من فاعل إقليمي ودولي.

سياسة الضغط

بعد مرور شهرين على زيارة وليام بيرنز إلى ليبيا بدأ ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، السنغالي عبد الله باتيلي، بتكثيف جهوده في نفس اتجاه المبعوث الأمريكي، حيث قام بزيارة دول الجوار (السودان وتشاد والنيجر) للتأكد من دعم هذه الدول لبعثة الأمم المتحدة واللجنة العسكرية المشتركة بهدف تنفيذ خطة العمل الخاصة بانسحاب المقاتلين والمرتزقة الأجانب.

يبدو أنّ الضغوط المكثفة التي مارستها إدارة بايدن لاحتواء تنامي النفوذ الروسي في ليبيا وفي أفريقيا عموماً قد بدأت تؤتي ثمارها. في هذا الشأن أكدت مصادر مصرية طلبت عدم الكشف عن هُويتها أنّ الرئيس عبد الفتاح السيسي تلقّى خلال التقائه بِيرنز ووزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكين في أواخر كانون الثاني (يناير) طلباً أمريكياً للمساعدة في إنهاء الوجود الروسي في ليبيا والسودان، وبشكل أعم في إنهاء وجود المرتزقة الأجانب في أقرب الآجال الممكنة. وهي المعلومات التي أكدها مقال نشرته وكالة أسوشيتيد برس بعد زيارة بلينكن وبيرنز للقاهرة، نقلاً عن مسؤولين مصريين وسودانيين وليبيين اشتكوا من تزايد الضغوط التي تمارسها واشنطن لطرد المرتزقة الروس من السودان وليبيا. وحسب زعم هؤلاء المسؤولين فإنّ إدارة بايدن تعمل منذ شهور "للضغط على الضباط السودانيين والليبيين، من أجل إنهاء علاقتهم مع فاغنر". وأضاف المقال، نقلاً عن مسؤول مصري رفيع المستوى أنّ مجموعة فاغنر أصبحت "محور كل الاجتماعات".

أكدت مصادر مقربة من خليفة حفتر أنّ بيرنز طلب منه إنهاء نشاط فاغنر في ليبيا وحذره من العقوبات التي قد تقع عليه هو وضباط جيشه

كما ذَكر مسؤولٌ ليبي أنّ "المسؤولين الأمريكيين أصرّوا على سحب المرتزقة من المنشآت النفطية الليبية"، فيما أكدت مصادر مقربة من خليفة حفتر أنّ وليام بيرنز طلب منه إنهاء نشاط فاغنر على الأرض الليبية، وحذره من العقوبات التي قد تقع عليه، هو وضباط جيشه.

بعد أسبوع من اللقاء الذي جمعه بمدير وكالة المخابرات المركزية استضاف حفتر في مقرّه في الرجمة، بالقرب من بنغازي، وفداً أمريكياً ضمّ نائب قائد القوات الجوية الأمريكية في أفريقيا، الجنرال جون دي لامونتاني، والقائم بالأعمال في سفارة الولايات المتحدة في ليبيا، ليزلي أردمان. وبحسب مصادر مقرّبة من المشير الليبي فإنّ هذا الأخير طلب أيضاً المساعدة من واشنطن لإنهاء وجود المرتزقة السوريين الذين يقاتلون باسم تركيا ولصالح قوات الدبيبة في غرب البلاد. كما أكد القائد العسكري أنّ استمرار ما وصفه بالاحتلال التركي للمنطقة الغربية من البلاد "لم يعد مقبولاً".

ضمانات لحفتر

وأوضحت المصادر نفسها أنّ حفتر ربما يكون قد طالب بالانسحاب الفوري لهذه القوات، على أساس أنّ وجودها "إهانة للشعب الليبي، وأنها تعيق كل الجهود الهادفة إلى خلق بيئة أمنية وعسكرية ملائمة ومساعِدة لإجراء الانتخابات المؤجلة". وبحسب معلومات صادرة عن بعض الصحفيين فإنّ المارشال ربما طلب ضمانات بأن لا تهاجم تركيا والميليشيات الداعمة لحكومة الدبيبة قوّاته. ولعله أكد استعداده للاستجابة بشكل إيجابي للجهود الدولية والإقليمية الهادفة إلى إيجاد حل سياسي للوضع الراهن في البلاد، من خلال التعهد بعدم محاولة الاستيلاء على طرابلس مرّة أخرى. إلا أنّ هذا الخطاب المطمئن يتناقض مع تصريحاته المثيرة للجدل خلال زياراته المتتالية لمختلف المناطق الخاضعة لسيطرته، حيث أكد أنّ الحل العسكري يظل من وجهة نظره الملاذ الأخير لتسوية الوضع.

المشير خليفة حفتر طلب من واشنطن إنهاء وجود المرتزقة السوريين الذين يقاتلون باسم تركيا ولصالح قوات الدبيبة في غرب البلاد، معتبراً الاحتلال التركي غير مقبول

أشارت مصادر الجيش الوطني الليبي إلى أنّ تعليمات صدرت منذ ذلك الحين لتجهيز القوات التي من المفترض أن تحل محل عناصر فاغنر والميليشيات التشادية والسودانية، دون الخوض في مزيد من التفاصيل. وترتبط هذه الترتيبات الجديدة بالإعلان الصادر عن لواء طارق بن زياد الموالي لحفتر والذي مفاده أنّ لواءه سيتمركز على الشريط الحدودي مع تشاد عند نهاية نيسان (أبريل)، بعد أن أعلن فصيل مسلح تابع لقوات المتمردين في اتحاد القوى من أجل الديمقراطية والتنمية (UFDD) التابع لـِ محمد نوري – التشادي - عن بدء انسحابه من سبها جنوبي ليبيا للعودة إلى الأراضي التشادية.

"قُبلة الحياة"

يقدّر اللواء محمد عبد الواحد، الخبير في الأمن القومي المصري أنّ زيارة وليام بيرنز تؤكد على استمرار الوجود الأمريكي في المنطقة، حتى لا يترك المجال مشاعاً أمام مزيد من الوجود الروسي، سواء كان هذا التدخل بشكل مباشر أو من خلال مؤسسات، وهذا في إطار إستراتيجية أمريكية أوسع تهدف إلى طرد الروس من سوريا وليبيا ومنطقة الساحل. وتسعى واشنطن للقضاء على فاغنر قضاء نهائياً.

الخبير في الأمن القومي المصري، اللواء محمد عبد الواحد: زيارة بيرنز تؤكد على استمرار الوجود الأمريكي في المنطقة

لكن ما مصلحة الفاعلين الليبيين؟ بحسب محمد عبد الواحد.

يقول اللواء محمد عبد الواحد "لقد قدّم الدبيبة نفسَه كشريك استراتيجي ووكيل للولايات المتحدة التي يمكنه أن يضمن مصالحها في المنطقة. إنه مستعد لوضع الليبيين الآخرين بين أيدي العدالة الأمريكية. ناهيك عن قدرة ليبيا على رفع صادراتها النفطية إلى ثلاثة ملايين برميل يومياً خلال السنوات الثلاث المقبلة.

وأشار اللواء محمد عبد الواحد أيضاً إلى أنّ الدبيبة عرَض على بيرنز "إعادة فتح السفارة الأمريكية في طرابلس شريطة الاعتراف بشرعية سلطته". وقد لخّص المقربون من رئيس الوزراء الوضعَ بالقول إنّ الزيارة الأمريكية أعطت لحكومة هذا الأخير "قبلة الحياة"، بعد 12 عاماً من الفشل المتواصل في بناء نظام سياسي جديد للبلاد.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

https://orientxxi.info/magazine/les-etats-unis-en-libye-contenir-la-presence-russe-a-tout-prix,6508



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية