"النكبة" كلمة العام 2023: التطهير العرقي مستمر

"النكبة" كلمة العام 2023: التطهير العرقي مستمر

"النكبة" كلمة العام 2023: التطهير العرقي مستمر


كاتب ومترجم جزائري
31/12/2023

ترجمة: مدني قصري 

بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية الذي تحتفل به الأمم المتحدة في 18 ديسمبر، نركز على الكلمة العربية الأكثر عولمة لعام 2023: "النكبة". إنها تشير إلى التطهير العرقي الذي عانى منه الفلسطينيون بين عامي 1947 و1949، وغالباً ما تُستخدَم من دون ترجمة، مع كتابة الحرف الكبير الذي تكتب به بداية أسماء العَلَم في كثير من لغات العالم (akba) وتشاء الأقدار أن يأتي استعمالها على نطاق واسع في وقت لا تزال فيه الإبادة الجماعية والنزوح الجماعي للسكان جارية في غزة.

في خريف 2023، تعود كلمة النكبة بإصرار، مع هجوم “السيف الحديدي” الذي شنته إسرائيل على غزة، والذي أدى إلى نزوح أكثر من ضعف اللاجئين الفلسطينيين في عام 1948، وأغلبهم لاجئون بالفعل أو من نسل اللاجئين. قبل بضعة أشهر، في 15 أيار (مايو) 2023 أحيت الأمم المتحدة "لأول مرّة في تاريخها، ذكرى التهجير الجماعي للفلسطينيين من الأرض التي أصبحت تسمى إسرائيل، قبل 75 عاماً، والذي حول بين عشية وضحاها 700 ألف فلسطيني إلى لاجئين.

كلمة "النكبة" دارت حول العالم، وتغلغلت في وسائل الإعلام، وخاطبت العقول الأكثر لامبالاة. فالكلمة، بنطقها الأصلي، والذي يأتي غالباً من دون ترجمة، مسجلةٌ وشائعة ليس فقط في اللغات الرسمية الأخرى للأمم المتحدة - الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والصينية والروسية - ولكن أيضاً حتى في اللغة الهندية والأردية والألمانية والعِبرية واليابانية، والأوكرانية، كما تشهد عليه رسالةُ 100 من مثقفين أوكرانيين داعمين لغزة، وحتى في الباسك وفي كورسيكا.

ماذا يعني حجم هذه الظاهرة اللغوية؟ هل يتصل بعودة قوية للمسألة الفلسطينية التي اعتقدنا مؤخراً أنها ستُدفَن نهائياً؟

من "فدائيين" إلى "الانتفاضة"

أصبحت الكلمات العربية الأخرى المرتبطة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني معولمة بالفعل: كلمة الفدائيون، في السبعينيات، كانت تصف أوّل نشطاء المقاومة الفلسطينيين الذين اختاروا الكفاح المسلح، "على استعداد للتضحية بأنفسهم" من أجل القضية، وفقاً لمعنى الكلمة بالعربية. كان مصطلح "انتفاضة"، مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية السلمية عام 1987 يرافق في الصحافة صورَ أطفالٍ فلسطينيين يواجهون الدبابات الإسرائيلية، وهي الانتفاضة التي قمعها بلا رحمة إسحاق رابين. إنّ الصيغة التأملية للفعل العربي "انتفض" (من الاسم انتفاضة، مع حرف المدّ "انتفـــــاضة) لها في الواقع معنى أكثر ديناميكية من الحقيقة البسيطة المتمثلة في "النهوض". فالكلمة تحمل دلالة أكثر قوة وهي "التخلص من النير".

الكلمة العربية الأكثر عولمة لعام 2023: "النكبة"

ظهر مصطلح آخر مطابق تقريباً لـ "النكبة"، وقريب الشبه منه من حيث الحروف، في وسائل الإعلام بعد الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967 ألا وهي كلمة "النكسة"، والتي يمكن أن تعني "الفشل، الهزيمة، الانهيار، ولكن في بعض السياقات تعني أيضاً "الانتكاسة" كما في حال عودة المرض. وهذا المعنى الأخير مثير للاهتمام. فهو يتوافق بطريقة ما مع متلازمة النزيف الإقليمي، المصحوب بالشعور بالإحباط واليأس. الفعل الذي أُخِذ منه الاسم "نكسة" يمكن أن يعني، بصيغته المكثفة "نكس"، أي "خفض رأسه"، إذا أضفنا كلمة رأس، أو "نُكِس العَلم ". لكن هذا المصطلح يبقى مقتصراً على الإعلام العربي.

 

إذا كانت النكبة مطموسة حالياً عند الرأي العام الإسرائيلي، الذي أصبح أسيراً لصدمته بعد هجوم 7 أكتوبر فإنّ بعض المسؤولين الإسرائيليين يطالبون بها 

 

هكذا تَستحضِر النكسةُ في المخيلة العربية الجماعية تاريخاً، وهو تاريخ حزيران (يونيو) 1967، وتستحضر نتيجةً: خسارة الأراضي العربية الجديدة لصالح إسرائيل، بعد تلك التي تم التنازل عنها في نهاية حرب 1948. والتي أضيفت هي نفسها إلى الأراضي الممنوحة بالفعل بموجب خطة التقسيم التي تعتبر غير عادلة في الأساس. وفي عام 1967 جاء الدور على الجولان السوري، الذي تم ضمه من جانب واحد في عام 1981، وسيناء المصرية، التي أعيدت إلى مصر بموجب اتفاقيات كامب ديفيد الثنائية في عام 1979، والأراضي الفلسطينية الجديدة: الضفة الغربية وغزة – التي انسحبت منها إسرائيل، من جانب واحد في عام 2005، والتي تظل مع ذلك "محتلة" بالنسبة للأمم المتحدة، بمعنى أنها تابعة كلياً لإسرائيل التي فرضت عليها حصاراً - والقدس الشرقية. كان من المفترض أن تؤدي هذه الحلقة الجديدة إلى نزوح جماعي جديد يتراوح بين 200.000 إلى 300.000 فلسطيني.

"من النكبة إلى النكسة" (من النكبة إلى النكسة) هو عنوان العديد من المقالات التي كتبها المثقفون العرب والتي نشرت منذ ذلك الحين، وأبرزها مقالة عالم الاجتماع والمؤرخ الفلسطيني إبراهيم أبو لغد. لكن مصطلح النكبة لا يعني ببساطة "التهجير الجماعي للفلسطينيين"، في خضم خسارة الأراضي.

أمّ الكوارث

في الأصل كلمة نكبة تعني حسب الحالات: كارثة، مصيبة، آفة، بلاء، شر. وإذا كانت الكلمة نفسها يمكن أن تتلقى معاني مختلفة حسب السياق، فمن المؤكد أنّ المعنى الفلسطيني هو الذي استثمر لدى جميع المتحدثين العرب. النكبة ليست كارثة، إنها كارثة الكوارث، أمُّ الكوارث. والشخص الذي أعطى الكلمةَ هذه القوةَ الاستفزازية السامية هو المثقف السوري قسطنطين زريق عام 1948، في كتيّب بعنوان "معنى النكبة". ومنذ ذلك الحين، أصبحت الكلمة مفهوماً، وفي شأنه قامت صحيفة لوموند الفرنسية، في عام 2018 بتحليله تحليلاً وثيق الصلة بالموضوع، إذ وصفت هذا المفهوم بأنه يعني محفِّز القومية العربية، والذي حولته لصالحها بعض الأنظمة في المنطقة. قومية نراها اليوم تستيقظ بين الشعوب، لتناقض إغراءات تطبيع بعض الانظمة مع إسرائيل، وهو التطبيع الذي قد يؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية.

 

لم يعد المعنى الحقيقي للنكبة مجرد "تهجير جماعي للفلسطينيين"، إنها سياسة الترحيل التي لا تتوقف، إنه التطهير العرقي المتعمَّد والمدروس والمنهجي

 

القراءة النقدية الثاقبة التي استطاع الكاتب اللبناني إلياس خوري القيام بها عام 2011 لنص زريق ما لبثت أن أعطت بعد ذلك معنًى إضافياً للمصطلح التاريخي. فلم تعد النكبة مجرد حدث قديم ومنتهٍ، بل "نكبة مستمرة". ولا شك أنّ أخبار الحرب على غزة منحتها صدًى عالمياً اليوم، حيث تشير المقالات الصحفية إلى "نكبة جديدة"، "نكبة ثانية". لقد أصبحت كلمة نكبة الآن الكلمة-الصورة، كلمة الفلسطينيين الذين يبحثون عن أحبائهم تحت الأنقاض، في رمادية منظرٍ قمريّ.

مجازر ارتكبها رؤساء وزراء إسرائيليين مستقبليون 

هل كانت النكبة الأولى كارثية أيضاً؟ عادت صحيفة "لوريان لو جور" L’Orient-Le jour  اللبنانية مؤخراً إلى حقائق يبدو أنها اختفت من ذاكرتنا، وهي أنّ الإرهاب، الذي أرادوا جعله تخصصاً عربياً، كان أساس دولة إسرائيل المستقبلية: "الارغون ومجموعة شتيرن، والهاغاناه والبالماخ، مسؤولون عن عشرات المجازر بحق المدنيين العرب. وكانت هذه المجموعات العسكرية هي الخلايا الجَنِينِيّة التي تشكل وزراء الجيش الإسرائيلي الحالي. مناحيم بيغن، مؤسس منظمة الارغون، وإسحق شامير العضو في هذه الميليشيا، ثم عضو في منظمة ليهي Lehi أصبحا فيما بعد رئيسين لوزراء إسرائيل. إحدى هذه المجازر ترمز إلى الهلع الذي ثارته هذه المجازر آنذاك، دولياً: مذبحة دير ياسين، التي أدانتها حنا أرندت وألبرت أينشتاين في رسالة احتجاج من كبار الشخصيات اليهودية والتي نُشِرت في صحيفة نيويورك تايمز في 4 ديسمبر 1948. ومذبحة أخرى، تكشف عن محاولة قمع الحقائق، وهي مذبحة طنطورة التي تم إنكارها لفترة طويلة، والتي أكدها مؤخراً الفيلم الوثائقي للمخرج ألون شوارتز، بمساعدة المؤرخ آدم راز، الذي اتخذ كشواهد على تلك المذبحة العديدَ من أعضاء لواء قُطّاع الطرق الإسكندروني.

العنف المؤسس لدولة إسرائيل ذَكره أيضاً تشارلز إندرلين في كتابه "بالنار والدم" PAR LE FEU ET LE SANG  (دار ألبين ميشيل، 2008). وقد استُخدِمت صيغةٌ أشدّ لذعاً في عام 2009 من قِبل سيرْ جيرالد كوفمان GÉRALD KAUFMANN، النائب العمالي والوزير السابق، الذي نشأ في الصهيونية، وهو قريب من قادة إسرائيل التاريخيين، في مداخلة هادئة للغاية أمام البرلمان البريطاني حيث أعلن رسمياً: "لقد وُلِدتْ إسرائيل من رحِم الإرهاب اليهودي". وفي 28 كانون الثاني (نوفمبر) 2023 أعلن الدكتور جابور ماتي، وهو طبيب نفسي متخصص في الصدمات النفسية والناجي من المحرقة، في برنامج على قناة TALK TV البريطانية، أمام الصحفي بيرس مورغان، أنه توقّف عن كونه صهيونياً عندما اكتشف أنّ دولة إسرائيل وُلِدت من "الاستئصال والطرد والمذابح المتعدّدة التي ارتكبتها في حق السكان المحليين".

تصفية عرقية مخطّط لها

ونتيجة لذلك، لم يعد المعنى الحقيقي للنكبة مجرد "تهجير جماعي للفلسطينيين"، وهو التهجير الذي حاولت إسرائيل منذ فترة طويلة تقديمه على أنه هجرة طوعية، بتشجيع من الجيوش والإذاعات العربية. إنها سياسة الترحيل التي لا تتوقف عند أي شيء، إنها سياسة تطهير عرقي متعمَّد ومدروس ومنهجي، والذي يستمر حتى اليوم في غزة وفي نفس الوقت في الضفة الغربية. إيلان بابيه Ilan Pappé، الشخصية الرائدة في قائمة "المؤرخين الإسرائيليين الجدد" الذين ظهروا في الثمانينيات بعد فتح الأرشيف الإسرائيلي عام 1978 حول هذه الفترة من التاريخ خصص لهذه الفترة كتاباً بعنوان بليغ: التطهير العرقي في فلسطين (عن دار النشر فايارد، 2008).

هذا التطهير العرقي يهدف إلى تصديق أسطورة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" بالقوة. ونتيجته الطبيعية هي الاستعمار الاستيطاني الذي يتم تنفيذه دون أدنى انقطاع في الضفة الغربية، بما في ذلك أثناء اتفاقيات أوسلو، وهو ما يحميه الجيش وكذلك السلطة التنفيذية، وتصادق عليه جميع مؤسسات الدولة، حتى المحكمة العليا. ويرافقه إنكار لحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. لقد صادق القانون الأساسي للدولة القومية الإسرائيلي لعام 2018 على الإنكار الفعلي الذي كان قائماً منذ ظهور مفهوم المشروع الصهيوني. والحقيقة أنّ الشعب الفلسطيني لم يرد ذكره في كتابات تيودور هرتزل، كما لم يرد ذكره في وعد بلفور، الذي يشير إلى "الطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين". ويؤدي هذا القانون إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، وتقليصهم إلى مستوى الحيوانات، وهي استعارة نُسِجَت في تصريحات القادة الصهيونيين التاريخيين. ويعتبر السكان المدنيون في غزة اليوم، في أسوأ الأحوال، "إرهابيين" (بحسب الرئيس الإسرائيلي، "لا يوجد مدنيون في غزة")، أو في أحسن الأحوال، "دروع بشرية" أو "أضرار جانبية"، أرقام بدون اسم، بلا وجه، بلا تاريخ، بلا مشاريع.

إنّ عملية التطهير الجارية اليوم تهدف إلى دفع سكان غزة نحو صحراء سيناء المصرية، مما يجعل أراضيهم غير صالحة للسكن بشكل نهائي، وهكذا يصل الحصارُ المفروض منذ عام 2007 إلى ذروته، ويحرم السكان الذين سيصبحون بلا مأوى من أبسط وسائل العيش: لا غذاء، ولا مياه ولا وقود ولا كهرباء ولا إنترنت، مع هدم المنازل والمستشفيات والمدارس والمقدسات الدينية والأراضي الزراعية بشكل ممنهج. كما أنّ عملية التطهير تهاجم قوى العقل، باستهداف الصحفيين والمثقفين، مثل الشاعر رفعت العرير. وآخر ابتكاراتها هو الاستخدام المخيف للذكاء الاصطناعي لخلق مئاتٍ من أهداف القصف، معظمها من المدنيين، وذلك باستخدام أدنى صلة وأكثرها ضعفًا وأكثرها بعداً مع عضو من أعضاء حماس، كذريعة.

تناول العديد من المؤرخين الفلسطينيين، مثل وليد الخالدي ونور مصالحة، قضية التطهير العرقي بشكل موسع. فعلى غرار رشيد الخالدي في كتابه الأخير "حرب المئة عام على فلسطين" (متروبوليتان بوكس، 2020) فإنّ الجميع يؤكدون حقيقة أنّ هذا التطهير "متأصل" في المشروع الصهيوني.

كل هذا هو ما تعنيه كلمة النكبة الآن في نظر الرأي العام العالمي، مع تزايد استخدام مصطلح “الإبادة الجماعية”. إذا كانت النكبة مطموسة حالياً عند الرأي العام الإسرائيلي، الذي أصبح أسيراً لصدمته بعد الهجوم العنيف في 7 تشرين الأول (أكتوبر) فإنّ بعض المسؤولين الإسرائيليين يطالبون بها دون أدنى تحفظ، مثل آرييل كالنر، عضو البرلمان الإسرائيلي، أو وزير الزراعة ورئيس الشاباك السابق آفِي ديختر، الذي يستمتع بـ "وقوع نكبة جديدة” على الفلسطينيين.

إنّ التكريس الدولي لكلمة "النكبة" يشهد قبل كل شيء على أنّ الجميع يكشفون، في وضح النهار، استمرارية المشروع الصهيوني، وهو المشروع الذي تُنكِره وتتنصّل منه بشكل متزايد العديد من الأصوات اليهودية في جميع أنحاء العالم.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

https://orientxxi.info/magazine/nakba-le-mot-de-l-annee-2023,6950#:~:text=Automne%202023%2C%20le%20mot%20Nakba,r%C3%A9fugi%C3%A9s%20ou%20descendants%20de%20r%C3%A9fugi%C3%A9s.

 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية