المسجد الكبير في باريس... منارة عريقة تتقاذفها رياح السياسة

المسجد الكبير في باريس... منارة عريقة تتقاذفها رياح السياسة

المسجد الكبير في باريس... منارة عريقة تتقاذفها رياح السياسة


16/11/2023

صغير الحيدري

في قلب العاصمة الفرنسية، باريس، أو كما يحلو لكثيرين تسميتها عاصمة الأنوار، يتربع المسجد الكبير كمنارة إسلامية عريقة تجذب الآلاف من المسلمين وحتى غير المسلمين الذين يزورونه لاستكشاف هذا المعلم الذي يعود تأسيسه إلى عقود خلت.

لكن مع كل سجال سياسي أو أزمة تخص فرنسا أو العالم الإسلامي يصبح موقف المسجد تحت مجهر كثيرين، وكانت الحرب التي تدور رحاها في قطاع غزة أحدث أزمة أثار فيها موقف المسجد منها جدلاً واسعاً وصل إلى الجزائر، حيث طالب نواب برلمانيون عن الجالية الجزائرية الرئيس عبدالمجيد تبون برفع الغطاء عن عميده، شمس الدين حفيظ، الذي ندد بحركة "حماس".

وقال حفيظ بحسب ما بثه تلفزيون "بي أف أم" الفرنسي إن "حماس حركة إرهابية، وطوفان الأقصى (عملية أطلقتها حماس ضد إسرائيل) كانت مجازر مروعة فعلاً، أنا أتقاسم الآلام مع اليهود" لافتاً إلى أن "الإسلام قبل قوانين الحرب وضع قواعد الصراع، والخليفة أبو بكر الصديق قال، إنه لا يجب مهاجمة المدنيين أو أخذ رهائن وأن نحسن معاملة السجناء حتى أنه قال لا تقطعوا الأشجار".

وعاد حفيظ، الذي لم يتسن الحصول على تعليق فوري منه، إلى الواجهة السبت بنشره مقالة في صحيفة "لوموند" الفرنسية، ودعا فيه الغرب إلى "الكف عن اتهام المسلمين بمعاداة السامية" وقال في محاولة للدفاع عن نفسه بعد الجدل الذي أثارته تعليقاته السابقة عن الحرب، "ما الذي أخفيه؟ دعمي للشعب الفلسطيني الذي يعاني؟ إنه حقيقي، وليس لدي ما أعلمه للوعي الإنساني العالمي. الصور أقوى من كلامي حول هذه القضية، أنا إلى جانب جميع الضحايا المدنيين وإلى جانب السلام".

منارة إسلامية عريقة

ومسجد باريس هو منارة إسلامية عريقة شيد في 15 يوليو (تموز) 1926، تخليداً لذكرى الجنود المسلمين الذين قاتلوا جنباً إلى جنب مع القوات الفرنسية في الحرب العالمية الأولى، لكن فكرة تأسيسه سبقت الحرب أصلاً وتعود إلى عام 1842.

ويحظى المسجد، الذي تبلغ مساحته 7500 متر مربع، بموقع استراتيجي إذ يتوسط الدائرة الخامسة في العاصمة الفرنسية، وهي دائرة تضم أيضاً مؤسسات جامعية بارزة وغيرها مثل جامعة السوربون ومجلس الشيوخ (الغرفة الثانية للبرلمان) وغيرهما.

وقال المؤرخ التونسي المقيم في فرنسا، عادل الطيفي، إن "هذا المسجد  أسس لتكريم الجنود المغاربة الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى مع القوات الفرنسية وأسهموا في أغلب المعارك من جنوب البلاد إلى فاردان، ووصل البعض منهم حتى إلى بلجيكيا حالياً بمن فيهم عم والدتي الذي توفي هناك في تلك الفترة".

وتابع الطيفي في حديث خاص مع "اندبندنت عربية" أنه "بعد تدشين المسجد اتخذت خطوة أخرى لتكريم هؤلاء وهي بناء مستشفى ابن سينا الواقع في الضاحية الشمالية لباريس، ويمكن القول إن السياق التاريخي الذي تأسس فيه مسجد باريس هو الذي هيأ الظروف في ما بعد للصراع السياسي الذي سيشهده المسجد، والهدف من هذا الصراع بكل وضوح هو السيطرة من قبل الأطراف المتنافسة عليه".

وعند فتحه أمام المسلمين في 1926، كان ملك المغرب آنذاك، مولاي يوسف ابن الحسن الأول حاضراً إلى جانب الرئيس الفرنسي آنذاك دومارغ، وبعد قرن كامل على تأسيسه كان المكان أيضاً شاهداً على حضور الرئيس الفرنسي الحالي، إيمانويل ماكرون، للاحتفال بمرور 100 عام على إطلاق هذه المنارة الإسلامية.

ومنذ البداية كان المسجد أقرب إلى المغرب معماراً ومن خلال الرموز التي استقطبها، حيث كان الفقيه والمتصوف أحمد بن الحاج العياشي وهو أحد رموز الطريقة التيجانية في المملكة المغربية أول من خطب وصلى بالناس في هذا المسجد.

وقال الطيفي إن "المعركة حول السيطرة على المسجد تتجسد سواء اليوم أو في السابق أساساً في تعيين المشرف عليه بين دولتي المغرب والجزائر اللتين بينهما عداء كبير".

مواقف مثيرة للجدل

ودائماً ما ينظر إلى موقف عميد المسجد الكبير في باريس على أنه صوت المسلمين في فرنسا، لكن مواقفه ما انفكت تثير جدلاً داخل الأوساط العربية والإسلامية وحتى الفرنسية، خصوصاً في قضايا حساسة مثل الصراع حول الأراضي الفلسطينية.

وكان حفيظ قد حضر في ديسمبر (كانون الأول) 2022، ندوة نظمتها مؤسسة إسرائيلية في فرنسا، ما أثار استياءً واسعاً في الجزائر عكسته تصريحات لرئيس حركة "مجتمع السلم" عبدالرزاق مقري الذي اعتبر ذلك "خيانة" وفق وصفه.

ومع ذلك، استقبل الرئيس عبدالمجيد تبون في 31 مايو (أيار) الماضي حفيظ، الذي قدم له عرضاً مفصلاً حول أنشطة المسجد الكبير في باريس بحسب ما أوردته الرئاسة الجزائرية آنذاك، وقال البيان إن "السيد الرئيس اغتنم فرصة هذا اللقاء لشكر عميد المسجد على مجهوداته، وينوه بدور هذه المؤسسة الدينية العريقة، في إعلاء راية الإسلام الوسطي والأخوة والتسامح باحترام قوانين الدولة المضيفة".

لكن هذا الموقف من عميد مسجد باريس لا يبدو أنه يحظى بإجماع داخل الجزائر، فتصريحاته الأخيرة حول تسلل عناصر من "حماس" إلى جنوب إسرائيل وتنفيذهم لعمليات هناك، أثارت غضباً واسعاً داخل الشارع الجزائري كما المؤسسات، إذ دعا نواب الجالية الرئيس تبون إلى رفع الغطاء عنه.

وقال النائب البرلماني عبد الوهاب يعقوبي، إن "البيان الذي أصدرناه جاء بعد تصريحات عميد مسجد باريس التي حملت تنديداً بحق مقاومة الاحتلال، وأبدى تعاطفاً مبالغاً فيه مع المحتلين الصهاينة تبعها مشاركة تلفزيونية وصف خلالها المقاومة بالإرهاب، وهذا مساس بحق الشعوب في الحرية ورفض الاحتلال وتقرير المصير".

وأردف يعقوبي في تصريح خاص أنهم "كنواب للجالية نطالب الرئيس تبون برفع الغطاء عن عميد مسجد باريس من خلال التبرؤ من هذه التصريحات كي لا تمس بصورة الدولة الجزائرية التي تسهم بصفة معتبرة في تمويل هذه المؤسسة".

وبالفعل، تسهم الجزائر التي لها أكبر جالية مسلمة في فرنسا بنحو ثلاثة ملايين يورو سنوياً في ميزانية المسجد الكبير بباريس، الذي يشرف أيضاً على تدريب أئمة جزائريين، كما يقوم بمهمة الإشهاد على "المنتجات الحلال" التي يتم تصديرها إلى الجزائر.

وحول ما إذا كانت الجزائر ستلغي هذه المساهمة قال يعقوبي، إن "الكرة في ملعب السلطة الجزائرية الآن، نحن كنواب قمنا بدورنا الرقابي"، بينما لم يعلق على الفور عميد المسجد الكبير في باريس ولا السلطة الجزائرية على هذا الطلب والاتهامات.

امتداد لخلافات عربية ودولية

الجدل في شأن مسجد باريس لا يتوقف عند مواقف عميده حول القضية الفلسطينية أو غيرها، فلطالما شكلت ملفات مثل الأزمة الجزائرية – المغربية جزءاً من السجال الدائر حول المسجد وتبعيته.

وفي وقت سابق، دعا وزير الشؤون الدينية والأوقاف الجزائري يوسف بلمهدي الأئمة المنتدبين لمسجد باريس الكبير إلى أن "يكونوا منابر خيرية في خدمة الجزائر ضد حملة كراهية تواجه بلادنا" وذلك في خضم أزمة متصاعدة بين الرباط والجزائر في شأن ملفات عدة أبرزها الصحراء المتنازع عليها.

وقال عادل الطيفي إن "المسجد الكبير بباريس أصبح للأسف كأنه امتداد للخلاف بين الجزائر والمغرب الذي يدور حول جملة من القضايا لعل أهمها قضية الصحراء، لكن هذا المشكل خفت نسبياً بعد صعود تيارات الإسلام السياسي التي دخلت على الخط واستثمرت في هذا الصراع كنوع من الدعاية لتفقد المسجد، ليس كبناء بل قيادته، صدقيته".

وأضاف أن "هناك لاعباً ثالثاً دخل في هذا السياق وهو الجمعيات التي تمثل حركات الإسلام السياسي، ثم دخل لاعب رابع وهو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث إن هناك جمعيات تنشط وتنافس على النفوذ داخل المسجد الذي أصبح يمثل ساحة وامتداداً للصراع داخل بعض الدول العربية، لذلك هناك توجه من الحكومة الفرنسية اليوم لمنع التمويل الأجنبي للمساجد عموماً ومن بينها مسجد باريس، وتأطير عملية اختيار للمشرفين عليها حتى لا يكون هناك امتداد لصراعات بين دول بعينها، خصوصاً أن مسجداً بثقل مسجد باريس يعد موقفه حاسماً بشكل كبير في مواقف الجالية المسلمة".

من جهتها، اعتبرت المحللة السياسية الفرنسية، لوفا رينال، أن "مسجد باريس الكبير أضحى بالفعل في صلب التجاذبات السياسية سواء في فرنسا أو خارجها".

وأوضحت رينال في حديث خاص إلى "اندبندنت عربية" أن "المسجد كان ينظر إليه على أنه ممثل للمسلمين وكلمته مسموعة لدى الجالية المسلمة، لكن هناك أطرافاً تسعى إلى جعله يمثل ما يشبه تمثيلية دبلوماسية لها".

وتعتقد المتحدثة ذاتها أن "الجزائر لا تؤيد حياد المسجد، لذلك تريد أن يتبنى إمامه المواقف التي تتبناها الدبلوماسية الجزائرية، هذا ما نفهمه من موقفها الأخير فهي لطالما دعمت فلسطين باسم مكافحة الاستعمار، لذلك تريد من الإمام حفيظ فعل الأمر ذاته، لكن يجب التمييز بين المصطلحات، بين العرب والمسلمين، بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية كلها مصطلحات تحتاج للتدقيق في العالم العربي".

ماذا عن التطرف؟

ومن الملفات التي اختبرت المسجد الكبير في باريس، نجد الحملة التي شنتها السلطات بقيادة الرئيس، إيمانويل ماكرون، ضد التطرف الإسلامي، فعلى رغم تنديده بالهجمات التي نفذتها جماعات متطرفة مثل تنظيم "داعش" إلا أن عميد المسجد انسحب من مشروع يستهدف إنشاء مجلس وطني للأئمة بدعوة من ماكرون.

وعلى رغم أهميته والمكانة التي يحظى بها لدى المسلمين، إلا أن مسجد باريس ليس المحاور الرئيس للسلطات عن الديانة الإسلامية في البلاد، ذلك أن المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الذي يتألف من تسعة اتحادات هو الذي يتولى شؤون المسلمين.

وفي 2020، انسحب إمام المسجد حفيظ من مفاوضات إنشاء المجلس الوطني للأئمة بعد طعن المدرس صامويل باتي إثر بثه صوراً وكاريكاتيرات عن النبي محمد، بعد أن أقدم متشددون على قطع رأسه في حادثة هزت فرنسا.

لكن موقف حفيظ كان مثيراً للجدل، حين أصدر بياناً اتهم فيه أعضاء من المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية بمحاولة تعطيل إرساء مجلس الديانة وبأن تلك الأطراف مدعومة أجنبياً ضد باريس، وهو ما يعكس موقفاً صارماً من مسألة التشدد وفقاً لمراقبين، لكن إلى أي مدى؟

يجيب الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية المصري، عمر فاروق، بأن "في الغرب هناك خلط بين مفاهيم التطرف الإسلامي والإسلام، هناك تطرف مسيحي وتطرف يهودي، يجب التفرقة، لكن عموماً المسجد الكبير يحاول تقديم صورة إيجابية عن الإسلام لأنه واقع تحت تأثير دول عربية تسعى إلى ذلك".

وأشار فاروق في حديثه لنا إلى أن "انسحاب المسجد من فكرة تكوين مجلس الأئمة يعكس في الواقع رفضاً للمناورات التي تقوم بها جماعة الإخوان التي هي لديها تمثيلية في مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا، وهو عموماً يقدم خطاباً يتوافق مع قيم الغرب ويقدم صورة إيجابية عن الإسلام ويحاول أن يعطي انطباعات بأن الإسلام والمسلمين والشريعة أيضاً ضد الإرهاب والتطرف والاعتداء على الآخرين، حتى تصريحاته الأخيرة التي هزت فرنسا والشارع العربي في شأن هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) تأتي في هذا السياق".

ويعتقد أن "حفيظ يحاول تقديم نفسه على أنه في اتساق مع قيم الغرب ويحاول زعزعة الموقف المناهض للمسلمين، فهو يسعى إلى تحييد المسلمين باعتبار أن المقاومة وأفعالها لا تمثل المسلمين الذين لا يريدون العنف والتطرف".

وفي ظل الملفات الحساسة التي تخيم على النقاشات في فرنسا، سواء في شأن المهاجرين أو معاداة السامية أو الإسلاموفوبيا، فإن المسجد الكبير في باريس سيظل على الأرجح محط الأنظار، خصوصاً أن الآلاف من المسلمين الذين يعيشون في هذا البلد العلماني يمتثلون إلى الموقف الذي يعبر عنه.

عن "اندبندنت عربية"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية