هل تمثل الحالة العامة بيئة آمنة للتطرف؟

هل تمثل الحالة العامة بيئة آمنة للتطرف؟

هل تمثل الحالة العامة بيئة آمنة للتطرف؟


16/07/2023

يجادل سكوت هيبارد في كتاب "السياسة الدينية والدول العلمانية: مصر والهند والولايات المتحدة الأميركية، في أن الدور السياسي للدين والجماعات الدينية إنما هو نتاج

سياسات واعية، أدارتها نخب سياسية "علمانية"؛ بهدف توظيف الدين والجماعات الدينية الأصولية لأجل مكاسب سياسية، أو بناء هويات وطنية وقومية وطائفية تنشئ تماسكاً اجتماعياً وراء نخب سياسية علمانية. ويعرض ثلاثة أمثلة لهذا التوظيف السياسي النخبوي من الولايات المتحدة ومصر والهند.

 

ما يجري ليس صراعاً حول الدين، وإنما صراع على الدين؛ وكأن من يملك الدين يملك الشرعية السياسية أيضاً، والأحقية في الحكم والتأثير

لو كان صحيحاً أن الفقر والتهميش الاقتصادي والاجتماعي هما سبب صعود الجماعات الأصولية، فلماذا يصوّت الفقراء في الولايات المتحدة لمرشحي الحزب الجمهوري المحافظين الذين يديرون سياسات ومصالح رأسمالية تضرّ بالفقراء، ولا ينتخبون الديمقراطيين المنحازين للرعاية الاجتماعية والصحية للفقراء، ولسياسات ضريبية تصاعدية تنصف الفقراء والطبقات الوسطى؟ ولماذا ينتخب فقراء الهندوس والمنبوذون طبقياً حزب بهارتيا جاناتا القومي الهندوسي الطبقي، ولا ينتخبون حزب المؤتمر المؤمن بالمساواة؟ ولماذا صعدت الجماعات الدينية ردّاً على الفقر، ولم تصعد بدلاً منها الجماعات اليسارية والاشتراكية المنحازة تاريخياً للفقراء والمعادية للرأسمالية؟

تطوير الأفكار والاتجاهات اليمينية والقومية والاتجاهات السياسية الداعمة في هيئة فكر ديني أكثر تماسكاً ومنطقية من القوميات والوطنيات العلمانية

المسألة الثانية في تفسير الأصولية الدينية والجدل معها، هي تقديمها نقيضاً للحداثة. فقد أظهرت الجماعات الدينية الأصولية، رغم تطرفها وتعصبها، استيعاباً متقدماً للحداثة التكنولوجية والأفكار والنظريات السياسية والاجتماعية الحديثة، ورؤية فكرية وتنظيرية وفقهية مستمدة من التراث الديني التقليدي المعتمد لدى الفئة الغالبة من أتباع الدين والمؤسسات الدينية الرسمية نفسها، وأعادت إنتاج وتطوير الأفكار والاتجاهات اليمينية والقومية والاتجاهات السياسية الداعمة في هيئة فكر ديني أكثر تماسكاً ومنطقية من القوميات والوطنيات العلمانية. وساعدها في ذلك -ويا للسخرية- نخب سياسية علمانية، ومؤسسات بحثية وأكاديمية، وشركات للعلاقات العامة والإعلام. ثم استطاع الأصوليون بأنفسهم أن ينشئوا مؤسسات إعلامية وبحثية، أو مكن لهم العمل في مؤسسات كبرى، وأن يحصلوا على خبرات إعلامية وتنظيمية وتقنية متقدمة. كما أظهروا قدرات تنظيمية في حشد المؤيدين والأتباع، وتنظيم العمل السياسي والجماهيري. لم يكن في واقع الحال ساذجاً سوى خصومهم، الذين أثبتوا أنه يغلب عليهم الوهم والكسل، وأن وجود معظمهم في المؤسسات الإعلامية والأكاديمية لم يعد يفيد في شيء سوى الشتم المثير للسخرية، وكانت غالبيتهم غير قادرة على فعل شيء سوى استهلاك الموارد.

المسألة الثالثة التي جرى ترويجها، هي تقديم الصراع مع الأصوليات الدينية بأنه صراع قيم وأفكار، أو أنه صراع بين الحداثة والرجعية، أو بين التعصب والتسامح. لكن ذلك لا يفسّر التشابه إلى درجة التطابق في الأفكار والسلوك بين الأصوليات الدينية المتصارعة؛ إذ يكاد يكون المتدينون اليهود "حريديم" والأصوليون المسلمون والتجديديون الأنغليكان والبروتستانت جماعة واحدة. ولا يفسّر الصراع الدامي بين الأصوليات المتطابقة داخل الدين الواحد، على نحو ما يجري اليوم في الشرق العربي، كما لا يفسر أن المؤسسات الدينية الرسمية لا تختلف أيضاً في فتاواها ورؤيتها عن الجماعات المتطرفة التي تحاربها وترفضها.

ما يجري ليس صراعاً حول الدين، وإنما صراع على الدين؛ وكأن من يملك الدين يملك الشرعية السياسية أيضاً، والأحقية في الحكم والتأثير. وكانت النخب السياسية "العلمانية" هي من أطلق هذا السلاح ضد الخصوم وليس الجماعات الأصولية. ولا مخرج من الأزمة سوى تحرير الدين والسياسة من بعضهما بعضاً.

إذا منعت السويد الربا هل يمكن وصف نظامها الاقتصادي أو المصرفي بأنه إسلامي؟ علماً بأنّ الدول الشيوعية السابقة كانت تطبق نظاماً اقتصادياً غير ربوي؛ فهل كانت إسلامية؟

تبدأ مواجهة التطرف بتفكيك شبكة عميقة مؤسسية وتعليمية واقتصادية ترعاها الدول والمجتمعات والشركات قائمة على "الأسلمة"، .. لقد تشكلت متوالية هائلة ومعقدة من المؤسسات والكليات والمناهج التعليمية والأسواق والبنوك والشركات، ولم يعد ممكنا وقف هذه التطرف المتنامي إلا بالعودة إلى مبتدأ "الأسلمة" التي اشتعلت في العالم العربي والإسلامي، ذلك أن ما تقوم به الأنظمة السياسية في مواجهة التطرف لا يختلف عن الانشغال بإطفاء الحرائق دون وقف مصدر اشتعالها، يشبه ذلك خزانا هائلا يتدفق منه الوقود يزود الحرائق المشتعلة وينشئ حرائق جديدة بلا توقف ولا نهاية، وسوف يظل ما تفعله السلطات والمجتمعات في مواجهة التطرف مهمة "سيزيفية" أبدية ومستحيلة.

بدأت منظومة "الأسلمة" وما نشأ عنها من جماعات وأنماط جديدة من التدين السياسي والعنفي وتدمير المؤسسات الدينيية العلمية والروحية التي كانت قائمة وتعمل لقرون عدة؛ بالتحول من متدينين إلى إسلاميين أو من التأثير في الأفراد والمجتمعات والمؤسسات القائمة على أساس من الدين إلى تغييرها أو إنشاء منظومات بديلة مختلفة عنها جذرياً تحل مكان المنظومة "الجاهلية" أو تظل في صراع وتنافس معها، وهكذا صار لدينا بنوك إسلامية وكليات جامعية للصيرفة الإسلامية وإعلام إسلامي وكليات ودراسات جامعية للإعلام الإسلامي، وكذلك الحال في الحكم والسياسة واللباس والطعام والفنون، وصار في كل بلد عربي وإسلامي منظومات مؤسسية وفكرية ناشطة وموازية للمنظومات القائمة أو بديلة لها أو منافسة، ومن المفارقات المحيرة أنها منظومات أنشأتها ورعتها الأنظمة السياسية نفسها. هكذا فإن الطلاب يدرسون في الجامعات الرسمية التابعة للدول والتي تنفق عليها من الموارد العامة أنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية "إسلامية" تعتبر الأنظمة القائمة والمطبقة كفرا وجاهلية يجب تغييرها، وتقدم في ذلك دراسات وأطروحات جامعية ومقررات ومناهج دراسية تفرض على طلاب المدارس والجامعات. ماذا يكون أفضل من ذلك للتطرف والجماعات المتطرفة لتحشد المؤيدين والأعضاء والمناصرين والمقاتلين أو تعمل في أمان وسلام في المساجد والجامعات والمدارس؟ وتهيئ لهم الحكومات إضافة لذلك بيئة علمية وبحثية لتحويل هذه الاتجاهات إلى أفكار متماسكة ودراسات علمية ورسائل ما جستير ودكتوراه!

التطرف

أن يكون في القرآن الكريم أحكام واجبة التطبيق في المجالات السياسية أو الاقتصادية أو توجيهات عامة لا يعني ذلك أن هناك نظام حكم إسلامي، أو نظام اقتصادي إسلامي، أو صيرفة إسلامية، وتطبيق أحكام قرآنية في التشريع والحياة العامة لا يعني ذلك دولة إسلامية، وعدم تطبيقها لا ينفي الإسلام عن الدولة أو القيادة السياسية للدولة، ذلك أن الدولة أية دولة لا يمكن وصفها بأنها إسلامية أو يهودية أو مسيحية أو بوذية، ولا يعني ذلك نظاماً سياسياً واقتصادياً وتشريعياً مستمداً من الدين، فحين نقول دول ملكية أو دولة جمهورية أو عسكرية. هل هذه النماذج إسلامية أم غير إسلامية؟ هل نقول دولة ملكية إسلامية، دولة جمهورية إسلامية. دولة عسكرية إسلامية؟ وإذا كانت تطبق نظام ملكية الدولة للموارد والمؤسسات والخدمات الأساسية أو كانت دولة تعتمد نظام السوق أو نظاماً مختلطاً؛ هل تكون إسلامية أم غير إسلامية؟ أم نقول دولة محافظة إسلامية، دولة ليبرالية إسلامية. دولة اشتراكية إسلامية. دولة رأسمالية إسلامية؟ وتحريم الربا هل ينشئ نظاماً مصرفياً إسلامياً، .. حسناً إذا منعت السويد الربا هل يمكن وصف نظامها الاقتصادي أو المصرفي بأنه إسلامي؟ علماً بأنّ الدول الشيوعية السابقة كانت تطبق نظاماً اقتصادياً غير ربوي؛ فهل كانت إسلامية؟ وبالمناسبة ما الربا؟ ومن قال إن البنوك القائمة ربوية؟ وكيف صارت البنوك المسماة إسلامية إسلامية؟ وهكذا فإن بذل الجهود العلمية والمؤسسية لإقامة أنظمة إسلامية ليس سوى عمل ضد الذات ننشئ لخدمته وتطويره مؤسسات علمية وسياسية ومعرفية وبحثية واقتصادية ننفق عليها من الموارد العامة، وليس ذلك مطلباً دينياً ولم يأمر به الله،ولكنا في ذلك نرعى التطرف ونمنحه بيئة مشجعة وآمنة.

كيف يمكن تنظيم الشأن الديني والمؤسسات الدينية والتعليم الديني دون تناقض مع الدين أو متطلبات الدولة الحديثة، ودون رعاية للتطرف؟

مواضيع ذات صلة:

- التطرف والمتطرفون .. والأسئلة الحائرة

- قراءة في كتاب "التطرف" لإبراهيم غرايبة

 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية