ماذا يبقى من الصوفية إذا تورطت في السياسة؟

ماذا يبقى من الصوفية إذا تورطت في السياسة؟


26/12/2019

على غرار التحولات التي نعاينها لدى الفاعلين الإسلاميين، في الخطاب والممارسة، إلى درجة الحديث عن "ما بعد الإسلاموية" و"ما بعد السلفية" وغيرها، لم يسلم التديّن الصوفي من هذه التحولات.

 

ومعلوم أنّ التديّن الصوفي عند المسلمين، خاصة منذ أولى محطات بزوغه التاريخي في المنطقة العربية، ابتداءً من القرنين الثاني والثالث الهجري، تديّن بعيد عن إبداء مواقف سياسية صريحة حول أحداث الساحة التي تهم السلطة الحاكمة؛ لأنّه غالباً ما يتبنّى تربية الذات على التأمل والذكر والأوراد والولاء للشيخ، مع أخذ مسافة قصوى على قدر المستطاع من القلاقل السياسية، سواء كانت تهم المجال الثقافي والمجتمعي الذي توجد فيه الطرق الصوفية المعنية أو باقي المجالات، ومن باب أولى، أخذ مسافة واضحة من أيّ انتماء سياسي وحزبي.

 

من مُميزات جماعة "العدل والإحسان" أنّ مؤسسها، الشيخ عبد السلام ياسين، كان مريداً في طريقة صوفية مغربية

نتحدث هنا عن الانتماء المؤسساتي الصوفي للعمل الحزبي، بخلاف الانتماء الفردي، بمعنى آخر، لا أحد يمنع متديّناً صوفياً من أن يكون فاعلاً سياسياً في أحد أحزاب الساحة، بخلاف الأمر مع إعلان طريقة صوفية ما عن تأسيس تنظيم دعوي (صوفي تحديداً) وحزبي في آن، فهذا أمر لا علاقة له قطّ بالعمل الصوفي، كما جرى العرف منذ قرون.
ليس هذا فحسب، فحتى مع المتديّن الصوفي الذي يرغب في ممارسة العمل السياسي أو العمل الإداري المؤسساتي، واحتراماً لأبسط مقتضيات العمل الصوفي، فإنّه معني ومطالب بعدم المزايدة على باقي الفاعلين في المؤسسة الحزبية ذاتها بمرجعيته الدينية الصوفية، وإلا سقط في مأزقين اثنين على الأقل، لا علاقة لهما بمقتضى العمل الصوفي:
ــ أولهما: تعارض تزكية الذات مع مقتضى الآية القرآنية التي تنهى عن ذلك: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ﴾، وإذا كان المتديّن الصوفي بشكل عام، يدعي دفاعه عن الأخلاق والنهل من مقام الإخلاص، مقارنة بباقي أنماط التدين، فمن باب أولى أن يحترم بعض هذه المقتضيات المرتبطة بثنائية الأخلاق والإخلاص.

اقرأ أيضاً: لماذا يكره داعش الصوفية ويفجر أضرحتهم؟

ــ وثاني هذه المآزق؛ أنّ عملية التزكية تلك لن تختلف عن عقلية التزكية الصادرة أساساً عن باقي أنماط التديّن الإسلامي الحركي، خاصة التديّن الإخواني والتديّن السلفي، باعتبار إصرارهما على الزعم بأنّهما يمثلان الإسلام أفضل من باب المسلمين، إضافة إلى انخراطهم في "أسلمة المجتمعات والنظام والدولة"، تطبيقاً لتلك الذهنية سالفة الذكر.
تأسيساً على ما سبق؛ يتضح أنّ تورط العمل الصوفي في قلاقل العمل السياسي والحزبي، يجعله خارج مقتضى التصوف أساساً، إلا إذا كانت سياقات وظروف اللحظة التاريخية، تتطلب الإدلاء بمواقف سياسية صريحة، صيانة للدولة والدين في منطقة عربية تعجّ بالفتن ومفتوحة على احتمالات الأزمات، على غرار ما عاينا في الحالة المغربية مثلاً، مباشرة بعد اندلاع أحداث "الفوضى الخلاقة" أو "الربيع العربي"، عندما أدلت بعض الطرق الصوفية المغربية بمواقف صريحة من موضوع تعديل الدستور، ووجهت الدعوة لأتباعها كي يصوتوا إيجاباً مع الاستفتاء الدستوري، المؤرَّخ في تموز (يوليو) 2011، كما هو الحال مع إحدى أهم هذه الطرق؛ أي الطريقة القادرية البودشيشية، التي تخرجت منها مجموعة من الأسماء في مجالات السياسة والفكر والاجتماع، من قبيل: وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الحالي أحمد التوفيق، أو المفكر طه عبد الرحمن، وأسماء أخرى.

اقرأ أيضاً: من يخطط لاستدراج الصوفية إلى ملعب الإسلام السياسي في تونس
بين أيدينا نموذج تطبيقي لهذه الجدلية، الخاصة بالجمع بين العمل الصوفي والعمل السياسي، وتهم جماعة "العدل والإحسان"، وهي حركة إسلامية غير معترف بها رسمياً، ولكن معترف بها عملياً، بمقتضى ترخيص السلطة لأغلب أتباعها بالعمل في مؤسسات الدولة، موازاة مع اعتراف السلطة بتأسيس جمعيات ومنظمات وحتى مراكز بحثية تابعة للجماعة، بصرف النظر عن عدم إعلان الانتماء بشكل صريح، فهذا أمر متوقع بشكل عام في العمل الإسلامي الحركي، في شقّه الإخواني على الخصوص، بسبب عقلية التقية، على غرار السائد مع الشيعة؛ أي العقلية التي تخوّل المتديّن الإخواني لقابلية ممارسة التقية على المقربين، فالأحرى ممارسة التقية على مؤسسات الدولة.
من مُميزات جماعة "العدل والإحسان" أنّ مؤسسها، الشيخ عبد السلام ياسين، ينهل من مرجعية صوفية بداية؛ حيث كان مريداً في طريقة صوفية مغربية، وهي الطريقة القادرية سالفة الذكر، قبل انفصاله عنها، وتأسيس جماعة إسلامية، تجمع "التصوف السياسي" و"العمل الإسلامي الحركي" في شقه الدعوي والسياسي.

اقرأ أيضاً: هل الصوفية في إفريقيا مهيأة لمواجهة الإسلام السياسي والتطرف الديني؟
وبالتالي؛ بقي هذا الأثر الديني الصوفي حاضراً بشكل أو بآخر في أدبيات الجماعة؛ لأنّ الأدبيات المؤسسة لها، كانت عبارة عمّا يؤلفه مؤسسها، دون سواها، ودون صدور أيّ اعتراض أو نقد، وهذا أمر متوقع، بمقتضى علاقة تجمع الجماعة بالمؤسس، لا تختلف كثيراً عن علاقة الشيخ والمريد في الطرق الصوفية.
ومعلوم أنّ الذكرى السابعة لوفاة مؤسس الجماعة مرت مؤخراً، ولوحظ انخراط العديد من أتباع الجماعة في نشر سلسلة مقالات في عدة مواقع رقمية تابعة للجماعة، أو نشر تدوينات رقمية تفاعلاً مع الحدث، واتضح كما هو متوقع، أنّها لا تختلف عن تدوينات أيّ عضو في طريقة صوفية ما، في حال ما عبّر عن رأيه من شيخ الطريقة، وبالنتيجة، كان متوقعاً أن تتعامل هذه المقالات الصادرة في مواقع الجماعة أو تلك التدوينات، مع شخصية ياسين تعامل المريد مع الشيخ، وتضعه في مقام يسمو على الاعتراض أو بالأحرى النقد؛ لأنّ الأمر يتعلق بممارسة دينية يجري العمل بها في المجال الإسلامي منذ منعطف مأسسة العمل الصوفي، ابتداءً على الخصوص من القرن السادس والسابع الهجري، وما يزال الأمر كذلك.

اقرأ أيضاً: توظيف العمل الصوفي في مواجهة الظاهرة الإسلاموية
رُبّ معترض بأنّه إذا كان الأمر مع مشروع الجماعة في المغرب، لا يخرج عن هذا الخيط الناظم، وهو خيط تربوي ودعوي، ينهل من مرجعية صوفية؛ فلماذا لا تعترف السلطة المغربية بالجماعة، وتسمح لها بتأسيس حزب سياسي؟
ما كانت السلطة ترفض الاعتراف بالجماعة لو أنّ الأخيرة حسمت في هذه الازدواجية المنخرطة فيها بخصوص الجمع بين العمل الصوفي والعمل السياسي، دون الحديث عن اختراق أنماط أخرى من التديّن للجماعة، من قبيل التديّن الإخواني والتأثر بالتجربة الشيعية في العمل السياسي، حتى إنّ بعض أدبيات الجماعة نجدها بالحرف في أدبيات الشيعة، من قبيل: "المرشد" و"الإمام" و"القومة"، ...إلخ.

تورط العمل الصوفي في قلاقل العمل السياسي والحزبي، يجعله خارج مقتضى التصوف أساساً، إلا إذا كانت الظروف تتطلب ذلك

ولأنّ مرجعية الشيخ تتراجع سنة بعد أخرى، لأسباب عدة، أهمّها؛ أنّ ما من أحد من القيادات الحالية للجماعة، سواء في الدائرة السياسية أو مجلس الشورى، يمكنه أن يعوض الشيخ المؤسس، فإنّ أعضاء الجماعة، في القيادات والقواعد، داخل وخارج المغرب (خاصة في إسبانيا وإيطاليا وأمريكا)، يوجدون أمام معضلة تنظيمية مؤرقة، عنوانها التعامل مع إرث عبد السلام في شقّيه؛ الدعوي والسياسي، خاصة أنّ الشقّ السياسي تعرّض لنكسات ميدانية في المنطقة، مع تأكّد العامة قبل الخاصة من طبيعة وأداء المشروع الإسلامي الحركي في الساحة المغربية والعربية بشكل عام، ويكفي استحضار صورة حزب "العدالة والتنمية" المغربي مثلاً، لدى الرأي العام، أخذاً بعين الاعتبار تواضع ومحدودية ما صدر عنه في التدبير الحكومي، بين خريف 2011 وخريف 2019، موازاة مع ما صدر عن إخوان تونس ومصر وغيرهم، بما يُفيد بأنّ شعارات المعارضة السياسية باسم الدين، لا تصمد أمام إغراءات وعقل تدبير العمل الحكومي، وشؤون دولة وطنية، لا "دولة خلافة" أو "خلافة على منهاج النبوة"، بحسب أدبيات الجماعة.

اقرأ أيضاً: ما حقيقة الصراع بين الفقهاء والصوفية؟
ويبدو من خلال مؤشرات الساحة الأولى؛ أنّ أعضاء الجماعة معنيون بالاشتغال أكثر على الإرث التربوي والوعظي لمؤسس الجماعة، باعتبار مرجعيته الصوفية، أما ما تبقى من الشقّ السياسي الصرف في المشروع، من قبيل "القومة" (أي الثورة)، و"الخلافة على منهاج النبوية"، وشعارات من هذه الطينة، فهذا خطاب أصبح متجاوزاً حتى عند بعض أتباع الحركات الإسلامية، من الذين شرعوا في تبنّي مراجعات، أفضت بهم إلى الانفصال النهائي عن هذه الأيديولوجيات، أو البقاء ضمن المشروع، ولكن مع إبداء تحفظات على تلك الأدبيات ومآل المشروع.
وإذا أصبحت هذه الشعارات متجاوزة عند الإسلاميين أنفسهم، وهم أقلية أساساً، فكيف ننتظر منه أن يكون شغل العامة والخاصة المنخرطين في صيانة ما تبقى من الدولة الوطنية، وإصلاح ما يمكن إصلاحه في زمن يتميز بأزمات مفتوحة على الاحتمالات كافة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية