كفانا حرباً.. كفانا شهداء

كفانا حرباً.. كفانا شهداء

كفانا حرباً.. كفانا شهداء


25/11/2023

في قصيدة أينعت في تربة الحرب، ونمت جدائلها فوق ريح الموت والدم، يقول شاعر فلسطين ومؤرّخ تراجيديّتها، محمود درويش:

 "عندما يذهب الشهداء الى النوم أصحو

وأحرسهم من هواة الرِّثاء

أقول لهم

تُصبحون على وطن

من سحابٍ ومن شجرٍ

من سراب وماء

أهنئُهُم بالسلامةِ من حادثِ المُستحيل

ومن قيمة المذبح الفائضة

وأسرقُ وقتاً لكي يسرقوني من الوقتِ

هل كُلُنا شهداء؟".

أمسِ كانت أول أيام الهدنة في الحرب الهمجيّة التي خاضتها إسرائيل، ولما تزل، على قطاع غزة. أمسِ تنفّس الناس هواء ليس ملوّثاً تماماً بالخوف ورائحة الموت. وأمسِ شرع طفل صغير يحلم بهدنة دائمة، كي يكمل ما تبقّى من رسمة على دفتر مدرسة لم تقصفه طائرة، ولم تُصبه قنبلة..

أهل غزة يستحقون، بعد كل هذا العذاب، أن يعيشوا كبقيّة خلق الله. كفانا حرباً.. كفانا نزفاً.. وكفانا شهداء.

 

رائحة الموت الآن تزكم الأنوف، وقد حان الأوان أن تأخذ الطائرات والدبّابات إجازة مفتوحة لتختبر لُزوجة الصدأ في المستودعات

 

سنقول للأحياء تصبحون على وطن، وسنهنئهم بالسلامة من حادث الموت المستحيل، وسنحرسهم من "هواة الرثاء". لقد آن للفلسطينيين أن يفرحوا. وآن لآلة الموت الإسرائيليّة الوحشيّة أن تُستأصل. آن للجنرالات المدجّجين بالأحقاد ورغبات التطهير العرقيّ والإبادة الجماعيّة أن يذهبوا إلى الجحيم، لأنهم يقودون الناس الأبرياء إلى الموت المجانيّ المؤسَّس على الخرافة، وأوهام الغطرسة والهيمنة والتوسّع.

لقد سقطت الأقنعة التوراتيّة الآن. وعلى أولئك الذين يعتقدون أنّ الشعب الفلسطينيّ بضاعة يتم نقلها، أو أنها عبء زائد على المكان، ويمكن إزاحته وحمله في شاحنة وإلقاؤه في سيناء أو الأردن أو أي دولة في العالم.. أؤلئك المخرِّفون والمحرّفون مفارقون للواقع وذهانيون ومحض مشعوذين.

لقد لقّنت غزة أولئك المنفصمين أنّ الشعب الفلسطينيّ باقٍ في بلاده، وعلى تراب وطنه، وأنه لا يستبدل ذرّة رمل واحدة بكل جنان الأرض. سقطت أسطورة "الترانسفير"، وعلى القادة الذين يتجرّعون الآن مرارة الهزيمة أن يوقنوا بأنّ أفكارهم الشاذة لا تقودهم إلا إلى المتاهة، وربما تكون متاهة أبديّة تدمّر الهيكل.

الطريق إلى السلام في مرمى التحقّق، إذا تخلّى الجنرالات والمتطرّفون الدينيّون وعبَدَة الأوهام عن غطرستهم وعن تفوّقهم المزيّف. ومفتاح هذا السلام إعادة الحقّ إلى أصحابه، والكفّ عن التعامل مع أهل الأرض الأصليين على أنهم "هنود حمر". 

في تلك اللحظة التي ينزل فيها الوعي الإسرائيليّ المشوّه عن الشجرة، ستبدأ أول خطوة للبحث عن بناء الأمن والأمان والشروع في صياغة مستقبل مشترك لشعبين متكافئين لا فضل فيه لإسرائيليّ على فلسطينيّ إلا في مقدار العمل على ترسيخ هذا السلام وتعضيده، وبثّ الثقة في عروقه.

لقد ظل كاتب هذه السطور مستمسكاً بخياره الراديكاليّ "فلسطين من البحر إلى النهر"، وما زال كذلك. لكنّ الأشواق البعيدة لا تتنزّل فجأة ودفعة واحدة من السماء. لا بدّ من من صراع سلميّ مرحليّ، فيما يتكفّل الزمن بالحلول الاستراتيجيّة التي ربما لا يتمّ إنجاز وعودها في الزمن المنظور.

الحقّ لا يسقط بالتقادم، وما زال مفتاح البيارة التي أجبر أهلها على تركها في صرفند العمار بمدينة الرملة ماثلاً يلمع بالزيت المبارك، ولكنّ رائحة الموت الآن تزكم الأنوف، وقد آن الأوان أن تأخذ الطائرات والدبّابات إجازة مفتوحة لتختبر لُزوجة الصدأ في المستودعات.

آن للموت أن يختنق..

آن للحريّة أن تتنفّس الصعداء. 

لقد تعبنا يا الله.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية