عبد الحميد الثاني ولعبة الخلافة

عبد الحميد الثاني ولعبة الخلافة


20/07/2020

وليد فكري

عندما تربّع السلطان عبد الحميد الثاني على عرش الدولة العثمانية، كانت إمبراطورية العثمانيين تتهاوى.

ففي الجناح الأوروبي (الرومللي) تسبب الطغيان العثماني في ثورات وانتفاضات تطلب الاستقلال في البلقان واليونان وغيرها، وفي الجناح العربي كانت الحركات الوطنية تبزغ وتعلن عن نفسها في مصر وسوريا ولبنان وغيرها من البلاد بعد أن فاض بأهلها من ظلم وظلام العثمانيين واستنزافهم ثرواتها وعبثهم بأمنها فضلا عن عجزهم عن حمايتها، كما تم إحياء القومية العربية ضد العنصرية العثمانية التركية، فصار العرب يتطلعون للاستقلال عن المتغطرسين المتربعين على كراسي الحكم في الأستانة.

وعلى صعيد آخر، كانت القوى الاستعمارية الأوروبية تنظر لجسد رجل أوروبا المريض وتتلمظ بشراهة وكل منها تمني نفسها باقتطاع جزء كبير ثري من تَركة العثماني المحتضر، بل إن في قلب إسطنبول ومدن الأناضول كانت تقوم حركات وطنية تركية تطالب بالإصلاح والدستور والبرلمان والرقابة على تصرفات السلطان ورجاله...

وحتى السلطان نفسه كان وصوله لمنصبه بعد الإطاحة بسلطانين سابقين لجأ أحدهما للانتحار بعد أن التاث عقله بسبب عزله!

هكذا وجد عبد الحميد نفسه يواجه تحديات لا تتماشى مع شخصيته التي تنزع إلى السلطة المطلقة.

الخليفة المصون!

لم يكن من حل أمام عبد الحميد الثاني إلا أن يواجه دعاوى القومية والوطنية بدعوى دينية، استغل فيها حالة الصراع القائمة بين معسكرات ثلاث: المندفعون في الأخذ من الحضارة الغربية بغير محاولة لتوفيق نظمها مع طبيعة المجتمعات العربية والإسلامية، الرافضون بشدة للتأثير الغربي، وأولئك المعتدلون بينهما.

فقام السلطان بإعلان الدستور في العام 1876، والذي نَص على أن "السلطان أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، وإسطنبول هي دار الخلافة" فضلًا عن مادة نصت على أن السلطان/الخليفة شخصه مصون من النقد!

إذاً كانت "الخلافة" العثمانية مجرد لعبة من السلطان العثماني لتحقيق أهدافه في السلطة المطلقة.

إحياء الحكم الثيوقراطي

من أحط نماذج وأنظمة الحكم "النظام الثيوقراطي" وهو "حكم الدولة الدينية" حيث رأس الدولة هو ممثل الله على الأرض! هذا النظام يتشح بقدسية دينية تقوم على أن الحكم هو منحة إلهية للحاكم وتفويض إلهي منه بأن يمثل الإله بين رعيته، وبالتالي فإن مجرد مخالفته هي مخالفة للإله نفسه!

هذا النظام استخدمه ملوك الحضارات القديمة في مصر والعراق لإخضاع الرعية للإرادة المقدسة للحاكم، وإن شهد في مصر القديمة تطورًا جعل قدسية الملك مستمدة من عظمة أعماله وعدله وليست من مجرد توليه الحكم، واستخدمه كل من بابوات روما وأباطرة أوروبا في العصور الوسطى لتحصين مناصبهم وإشباع رغباتهم في التسلط.. وجاءت الثورة الفرنسية والحراك الفكري والسياسي في أوروبا القرن الثامن عشر للقضاء على نظرية "الحكم بالحق الإلهي".

وحتى في نظام الخلافة الإسلامية، لم تقم الخلافة على فكرة أن الخليفة مفوض من الله وأنه ممثل الألوهية في الأرض، بالعكس فإن الإسلام قد نظر للخلافة باعتبار أنها "تكليف" وليست "تشريفا" وأنها "عبء ومسؤولية" وليست "حقًا إلهيًا".. والمتأمل في عبارة أبو بكر الصديق - أول خلفاء المسلمين - في خطبة مبايعته حين قال "إني قد وُليت أمركم ولست بخيركم" يدرك موقع الخلافة من مبادئ الحكم في الإسلام.. وتحول الخلافة إلى "مُلك عضوض" على أيدي الأمويين والعباسيين لا يغير من مبدأ أنها لا تضفي على صاحبها "عصمة" من المساءلة والنقد..

ولكن نظرة العثمانيين للحكم كانت تختلف، كانت نظرة رجعية متأثرة بعهودهم القديمة وحياة أسلافهم القبلية التي تنظر للقائد "البادشاه" باعتباره صاحب مكانة مقدسة يمثل فيها إرادة الإله، فلما اعتنقوا الإسلام وانتحلوا شكليًا البروتوكولات الإسلامية للحكم والبلاط الحاكم، تبنوا تلك الفكرة ولكنهم أضفوا عليها بعدًا إسلاميًا.. فروضوا الفتاوى الدينية لصالحهم كالفتوى لمحمد الفاتح بإباحة قتل الإخوة الذكور باعتبار أن "الفتنة أشد من القتل ونحن نأخذ أهون الضررين" أو فتوى فقهاء سليم الأول له بأن المماليك قد خرجوا عن الإسلام وأن غزوهم وقتالهم حلال، أو فتوى خروج محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا على جماعة المسلمين لمحاربتهم السلطان.

والعثمانيون لم يفكروا في انتحال الخلافة أصلًا حتى القرن الثامن عشر عندما بدأ رجال السلطان عبد الحميد الأول في الترويج لأكذوبة تنازل الخليفة العباسي عن الخلافة لسليم الأول فقط ليخدموا غرض عبد الحميد الأول في تقوية موقفه السياسي في مفاوضات معاهدة كوجك قينارجي مع روسيا وإتاحة ذريعة يتدخل بها في الشأن الروسي بحجة حماية مسلمي شبه جزيرة القرم باعتباره "أمير المؤمنين وخليفة المسلمين".. ثم بعد ذلك لم يتلقبوا بها ولم يعلنوها رسميا، أي أن نظرتهم للخلافة كانت براغماتية جدًا..

من المنطلق نفسه جاء تبني عبد الحميد الثاني في القرن التاسع عشر لفكرة "الجامعة الإسلامية" و"الخلافة" ليخلق تكتلًا سياسيًا إسلاميًا يواجه به دعاوى الوطنية والقومية وليعيد الترويج للأكذوبة العثمانية أن آل عثمان هم حماة الإسلام والمسلمين..

ولا ينسى أن يضيف المادة التي تحصنه من النقد! ولا أعرف في أي كتب الفقه وجد مثل تلك الفتوى وقد كان الخلفاء المسلمون الأوائل يقف أحدهم على المنبر فيقول "لو أحسنت فأعينوني ولو أسأت فقوموني"؟ أما هو فقد جعل حصانة الخليفة من النقد بقوة الدستور، وألغى وجود البرلمان ليضمن تحقق ذلك بعد أن كان قد تعهد باحترامه!

أي أنه كان ينتقي من الخلافة ما يناسبه ويخدم أغراضه.

 ختاما

ورغم ذلك نجد من يقدم عبد الحميد الثاني باعتباره أيقونة للحاكم المسلم، وهي بحق إهانة للتاريخ الإسلامي أن يكون مثل هذا المتلاعب الطاغية أيقونة لأمة عمرها قرون قدمت خلالها نماذج عظيمة للحاكم العادل القدير المستنير!

ولكنها أبواق الدعاية الخبيثة حين تستغل جهل القطيع الذي يتبعها!

عن "سكاي نيوز عربية"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية