حكايات "السندباد".. من هو وفي أي عصر عاش؟

التراث العربي

حكايات "السندباد".. من هو وفي أي عصر عاش؟


25/04/2018

أسفار بعيدة، ورحلات في أعالي البحار، واكتشاف لجزر مجهولة، مشاهد غرائبية وعجائبية، ولقاء بمخلوقات أسطورية مُذهلة، تلك هي الصُوَر والمشاهد التي تتداعى إلى الأذهان عند سماع كلمة "السندباد"، وعند ذكرِ رحلاته وحكاياته، وهي الشخصية التي عرفها كثيرون في طفولتهم، عبر مسلسل الكارتون الشهير "مغامرات سندباد". ولكن من أين أتت قصة هذا البحّار؟ وهل كانت مِنْ محض الخيال؟ هل هي من وحي كاتب مُعاصِر أم أنّ لها أصلاً قديماً؟
بطلٌ من بغداد
"سندباد.. تاجرٌ، مندفعٌ، بطلٌ، من بغداد"، هكذا تنسب أغنية الشارة في مسلسل الكارتون "مغامرات سندباد"، السندباد إلى أرض العراق، في زمن توحي تفاصيله بأنه زمن ازدهار الحضارة العربية، ذروة العصر العباسي، وهذا هو ما تتحدث عنه بالفعل قصة السندباد الواردة في الليالي 558 – 565 من ليالي "ألف ليلة وليلة"؛ حيث يعود انتشار وشهرة حكايات هذا البحّار الشهير بالأصل إلى كتاب الحكايا الخيالية "ألف ليلة وليلة"، أحد أهم كتب الأدب الغرائبي والعجائبي في تراثنا العربي.

تناولت حكايات من "ألف ليلة وليلة" قصص السندباد وهو اسم لبحار عربي عاش، وفق الحكايات، زمن هارون الرشيد

تناولت سبع ليالٍ من "ألف ليلة وليلة" سبع حكايات للسندباد البحار، ووفقاً لها فإنّ "سندباد" هو اسم لبحّار ومغامر عربي شهير، عاش في بغداد في أوجْ الدولة العباسية، زمن الخليفة هارون الرشيد (786 – 809 مـ)، قبل أن ينتقل إلى البصرة، ليبدأ بالإبحار من مينائها في رحلات بعيدة، عبر البحار والمحيطات (والتي هي بالأساس المحيط الهندي وما اتصل به من بحار)، وليصل إلى السواحل البعيدة (سواحل شرق إفريقيا وجنوب آسيا)، والجُزُر التي لم تطأها قدم إنس من قبل، قبل أن يعود إلى الأصحاب والأهل في البصرة لإخبارهم بما خَبِرَ من مغامرات، وما رأى من عجائب المخلوقات.
أما عن الاستدلال على مكان الإبحار باعتباره المحيط الهندي بالأساس، فهو معلوم من طبيعة خطوط التجارة في تلك العصور، إضافة إلى أنّ الاسم "سندباد"، مأخوذ من الكلمتين الفارسيتين "سند آباد"، وتعنيان بالفارسية "زعيم نهر السند"، وهو ما يشير إلى شهرته في الإبحار جهة ساحل ما يعرف اليوم بـ "باكستان" وما يليها من السواحل الهندية الغربية.

جزيرة قريبة من مدغشقر في شرق إفريقيا حيث وصلت رحلات السندباد

حكايات سابقة
تعود كتابة "ألف ليلة وليلة" إلى القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، والمعروف بالعصر الذهبي؛ حيث بلغ الإنتاج الحضاري والثقافي والأدبي العربي ذروته، وحسب أول من أرخّ للكتاب، كالمسعودي، في "مروج الذهب"، وابن النديم، في "الفِهرست"، فإنه لا يُعلم له كاتب معيّن، وإن قصصه وحكاياته مجموعة من حكايات وقصص كانت متداولة في عموم بلاد العرب، والعجم، وبلاد الهند والسند.

يعتبر السندباد رمزاً لتاريخ المِلاحة العربية وتعبّر حكاياته عن رغبة وتوق العربي الدائم للسفر والترحال والمغامرة

وهو ما جعل الباحثين المعاصرين يختلفون في تحديد الأصل التاريخي لقصة السندباد؛ فمنهم من رأى أنّها محضّ قصية خيالية، نُسِجَت من وحي رحلات ومغامرات البحارة العرب في زمن كتابة كتاب (ألف ليلة وليلة)، فقد كانت مثل هذه الحكايات متداولة في ميناء البصرة والخليج العربي، وانتشرت بين عموم الناس البحارة، وقد جمع "بزرك بن شهریار" - وهو قبطان ورحالة من أهل خوزستان (عاش في القرن العاشر الميلادي/الرابع الهجري) – العديد منها في كتاب "عجائب الهند برّه وبحره وجزائره"، دون أن يذكر اسم السندباد، والذي لم يظهر إلّا لاحقاً مع تأليف كتاب "ألف ليلة وليلة".
ومنهم من ذهب إلى التأكيد بأنّ المقصود بها هو تاجر عربي معروف، عاش كما ذكر "ألف ليلة وليلة" في العصر العباسي الأول، وسكن البصرة؛ حيث توجد اليوم جزيرة على شطّ العرب في البصرة، تسمى "جزيرة السندباد"، ويُنسب لها أنّ السندباد كان يخيّم فيها قبل انطلاقه في أسفاره الطويلة.

تعتبر "جزيرة السندباد" اليوم أحد المواقع السياحية في البصرة

عراقي أم عُماني؟
وفي عُمان، يسود الاعتقاد بأنّ شخصية السندباد البحري تقوم على بحّار من مدينة "صحار"، والتي كانت عاصمة قديمة لعُمان، لها ميناء بحري مهم، وكان البحّارة والتجار يُبحرون منها إلى شبه القارّة الهندية والصين، فكانت تسمى "بوابة الصين".
وقد ذهب البعض إلى القول بأنّ شخصية السندباد مأخوذة عن الملاح والجغرافي العُماني الشهير "أحمد بن ماجد"، ولكن ما ينفي هذا القول هو أنّ الأخير عاش في الفترة ما بين 1418 إلى 1500م، وهي متأخرة جداً عن زمن تدوين حكايات السندباد في "ألف ليلة وليلة".

تعتبر شخصية السندباد من أكثر الشخصيات الأسطورية البارزة في التراث والأدب العربي

أصول فارسية
ومن الباحثين من ذهب إلى القول بالأصل الفارسي للسندباد، فأشاروا إلى إمكانية أن تكون قصته مستوحاة من شخصية المغامر والتاجر الفارسي "سليمان السيرافي" (سليمان التاجر) الذي غيّر وجه التجارة البحرية في طريق الحرير، عندما قام بالسفر من بلاد فارس إلى الصين، عبر ساحل مالابار، وخليج البنغال، إلى بورما، وتايلاند، وفي نهاية المطاف وصل إلى جنوب الصين عبر مضيق "ملقة"، وكان ذلك في القرن التاسع الميلادي، ليعتبر بذلك أول شخص من غرب آسيا يقوم بالوصول إلى الصين عبر هذا الطريق، وقد اكتسب شهرة كبيرة في عصره، لا سيّما بعد تأخره في العودة من رحلته الشهيرة حتى ظنّ أهل بلده أنه قد هَلَك، قبل أن يعود سالماً، محملاً بالتوابل، والمجوهرات، والخزف الصيني.
كما ظهر في الأدب الفارسي كتاب "السندباد نامة" (سيرة السندباد)، والذي كتبه بأسلوب نثريّ في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) الأديب "ظهير سمرقندي"، وكان تجميعاً لحكايات ومرويات شفوية فارسية تتناول شخصية السندباد. وعلى العموم، قد تكون القصة مستوحاة من مثل هذه الحكايات، إضافة إلى قصص البحارة العرب، مع استعارة الاسم "سندباد" من الأدب واللغة الفارسية.

طبعة حديثة لرحلة السيرافي البحرية

رحلات السندباد والأوديسة
ومن الباحثين من ذهب إلى الاعتقاد بوجود أصول إغريقية للحكايات؛ حيث يحضر الأثر الإغريقي في أكثر من موضع، وبالتحديد قصص "أوديسوس" ملك "إيثاكيا"، الواردة ضمن كلاسيكية هوميروس الشهيرة "الأوديسة"، وعلى سبيل المثال، الوحش آكل لحوم البشر في رحلة السندباد الثالثة مشابه جداً للوحش "بوليفيمسوس" من ملحمة الأوديسة. وفي رحلة السندباد الرابعة يُدفن السندباد تحت الأرض في مغارة الموتى وهو على قيد الحياة، قبل أن يتمكن من الفِرار، من أحد الأنفاق الصغيرة التي حفرتها بعض الحيوانات التي تتغذى على الجثث في المغارة، وهو مشابه لما حدث مع الملك الإغريقي "أريستومنسيس" ملك مسينا أثناء صراع مع اسبرطة.

أوديسوس كما تصوّره الخزفيات الإغريقية

رمز لتاريخ المِلاحة العربية
تبدأ حكاية رحلات السندباد من الليلة الثامنة والخمسين بعد الخمسمئة؛ حيث يبدأ فيها بسرد أخبار أسفاره على جلسائه، فيظهر السندباد في صورة البطل الأسطوري، الذي يهوى المجازفة والمغامرة، حتى تبدو وكأنها هاجِسه الذي يدفعه في الأسفار البحرية الطويلة، بحثاً عن الأماكن الغريبة والجديدة التي لم تطأها قدم إنسان.
وأيّا كان أصل الحكاية، فقد برزت شخصية السندباد واكتسبت شهرتها العالمية من خلال الثقافة والأدب العربي، وبالتحديد عبر كتاب "ألف ليلة وليلة"، والذي هو أحد عيون أدب اللغة العربية، كما راجت حكاياته في أزمان لاحقة عبر الحكواتيين، وفي كتب لاحقة ككتاب "سفرات السندباد"، وهو من الأدب الشعبي العربي الذي شاع في العصر المملوكي، كل ذلك يجعل هذه الشخصية معبّرة عن المِخيال والوعي العربي، سواء أكان منتجاً لها، أو معيد لصياغتها وتصويرها، ومذيع، ومتداول لها، حيث يعتبر "السندباد" رمزاً لتاريخ المِلاحة العربية، وتعبّر حكاياته عن رغبة وتوق العربي الدائم للسفر والترحال والمغامرة.

من الطبعات الأوروبية: السندباد في وادي الألماس (يسار) ورسم لمواجهة السندباد الغول في الرحلة الثالثة

اكتشاف بيضة طائر الرخّ: رسم تخيلي للرحلة البحرية الخامسة للسندباد

مغامرات السندباد
واشتهرت قصة السندباد عبر المسلسل الكرتوني الشهير "مغامرات السندباد"، وهو مسلسل رسوم متحركة ياباني، من إخراج "فوميو كوروكاوا"، ومن إنتاج شركة "نيبون أنيميشين" اليابانية، ويتكون من 52 حلقة، تستند بالأساس على الحكايات السبعة الواردة في "ألف ليلة وليلة" ثم تتوسع وتنسج على منوالها.
وقد تم إنتاج هذا المسلسل وعُرض لأول مرّة باللغة اليابانية عام 1975، وحمل اسم "أرابيان نايتو شيندوباتو نو بوكين"، وقد دُبلج في العراق إلى العربية، بعد فترة قصيرة؛ حيث ذاعت شهرته منذ ذلك الحين في عموم العالم العربي.

أبطال مسلسل الكارتون الياباني "مغامرات السندباد"

السندباد في الفن المعاصر
وتعتبر شخصية "السندباد" من أكثر الشخصيات الأسطورية البارزة في التراث والأدب العربي، حيث تناول قصته عدد كبير من الأعمال الفنية، ما بين أفلام سينمائية وكرتونية، وأعمال مسرحية، ورسوم تحركة، وقد لاقت جميعها رواجاً ونجاحاً كبيراً. وظهر السندباد لأول مرة في فيلم كرتوني بعنوان "السندباد البحار"، أنتجه في الولايات المتحدة الأمريكية، الفنان السويسري-الألماني "بول كلي" عام 1920، أما أول فيلم سينمائي تناول شخصية "السندباد" فكان في العام 1947، من إخراج الأمريكي ريتشارد والاس. وكان آخر الأعمال التي تناولت الشخصية: فيلم الرسوم "سندباد: أسطورة البحار السبع"، الصادر في الولايات المتحدة عام 2003.

الفيلم الكارتوني الأمريكي "السندباد البحار" (يمين) (1935) والفيلم السينمائي الأمريكي "السندباد البحار" (1947)

كما تناولت هذه الشخصية أعمال مسرحية، كمسرحية "السندباد البحري" التي عُرضت في الكويت عام 1978. وفي الشعر العربي المعاصر، استُخدم السندباد كرمز للتعبير عن فكرة المغامرة ودوام الارتحال، كما نجد في أشعار  "صلاح عبد الصبور". وفي الأغنية العربية، ظهر "السندباد" أيضاً كرمز للتعبير عن دوام السفر، كما في الأغنية الشهيرة "صاير إنته سندباد..." لفضل شاكر.

ملصق مسرحية "السندباد البحري" (1978)

واليوم، وفي زمن تغلق فيه الحدود أمام الإنسان العربي، يشتدّ اشتياق العربي لهذا النموذج الذي مثل انطلاق العربي في زمان ما نحو أبعد الأماكن دون حاجز أو معترِض.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية