موت مفكّر عراقي اختار أن يقيم في السؤال

موت مفكّر عراقي اختار أن يقيم في السؤال


27/02/2018

بموتِ فالح عبدالجبار، بانتكاس مثقفي العراق، ومعهم قراؤهم ومتابعوهم، من أقصى يمينهم حتى أقصى يسارهم، بهذا الموت المفاجيء،

باللحظةِ المائزة التي اضطرّ فيها قلبُ فالح عبدالجبار على أن يعبّرَ عن اضطرابه وارتباكه، وكانت لحظةَ حديثٍ لبرنامجٍ تلفزيوني يحمل عنوان (العراق في قرن)، حتى توقّف القلب، في مستشفى الجامعة الأمريكية ببيروت، عن الخفقان، ينبغي أن نقف عند هذا السؤال:

ما الذي يتبقى؟

اتصال ظهيرة الإثنين الماطرة ببغداد، هو ما أنبأني بموت فالح. كنت أكتب عن غيومٍ كثيفةٍ لكنّها لا تمطر

اتصال هاتفي من لندن، ظهيرة الإثنين الماطرة ببغداد، هو ما أنبأني بموت فالح. كنت حينها، في منزلي، أكتب نصاً شعرياً شاحباً بيأسه عن غيومٍ كثيفةٍ لكنّها لا تمطر.

توقفتُ عن كتابةِ النص. كيف للشعر أن لا يتوقف ولا يقف في حضرة الموت؟ وفعلاً توقفت.

ما بين النص وبين ميتة فالح عبدالجبار كثير من المشتركات. لا صلة للنص بهذه الميتة، لكنّ الغيوم الكثيفة التي لا تمطر أحالتني حين سماع خبر الاتصال اللندني إلى الموت، وكان موت فالح هو الأقرب، مثالاً وتعبيراً، عن هذا الحال.

لم أقوَ على التعليق على أيٍّ من عشرات ومئاتِ منشورات النعي، التي صادفتُها إثرَ ذلك الاتصال، في فيسبوك، صحيفتنا العراقية المعبّرة عن حقيقتِنا وعن فوضانا، وعن جدّنا وصحّتنا وأمراضِنا، وعن قلوبِنا النابضة دوماً بالحياة والمتعثرة دوماً فيها وبها..

كان الموتُ هذه المرّة داعياً للصمت، ولم نعتد، كعراقيين، على أن نصمتَ في حضرةِ الموت؛ المشاعر أعتى من أن تُضبَط. صار معروفاً أن العراقيَّ لا يحتاج إلى مناسبةٍ ليحزنَ ولينفعلَ حزناً، لكن نحن أمام مِيتةٍ ينبغي معها أن نصمت، وأن نتساءل؛ ما أحوجنا إلى السؤال في حياةٍ تظلّ تتبجّح باليقين وبالأجوبةِ الجاهزة كلَّ حين للردِّ على أيِّ سؤال، وحتى للتعريف عن نفسها وتقديمها من دونما حاجة إلى سؤال.

اختار فالح عبدالجبار لحياتِه أن تقيمَ في السؤال.

حياة الفكر والمعرفة التي ظلَّ فالح مخلصاً لها حتى لحظةِ موتِه المائزة كانت تضعُه قريباً من الأسئلة.

الفكرُ الجوهريّ يُعنى بالسؤال أشدَّ مما يُسعَد بالإجابة. المعنيّون بتفكير المعارف والعلوم يفضّلون أن تكون هذه الجملة وهذا التعبير مسلَّمة في دفاتر يوميّاتهم. لا ندري، نحن المعنيّين بفنون الجمال، مدى دقّة خلاصتهم الزاهدة بالإجابة، نحن لا نفضّل زهدَهم، نريد الأسئلةَ والأجوبةَ في آن. عناءُ السؤال يجب أن يُكافأ بالإجابةِ عليه، ولا قيمةَ للجواب ما لم يكن داعياً لأسئلةٍ أخرى. لكننا جميعاً، نحن وهم، وسوانا آخرون من غير المكترثين بالسؤال ولا بالإجابات، على حدٍّ سواء، نحيا في أمّةٍ أضاعت طريقَها إلى السؤال، وكان هذا الفقدانُ هو الأفدحَ بين خسائرِنا المتكاثرة والمتعاظمة. لقد أضعنا الطريقَ إلى السؤال، وها نحن نكادُ نضيع، إن لم نكن قد ضِعنا فعلاً.

اختار فالح عبدالجبار لحياتِه أن تقيمَ في السؤال. حياة الفكر والمعرفة التي ظلَّ مخلصاً لها حتى لحظةِ موتِه

حين توقفتُ ظهيرةَ الإثنين عن مواصلةِ كتابةِ النصّ الشعري، الشاحب كما هو لون رماد الغيم، إثر إغلاق الهاتف بعد اتصال لندن، وجدتُني أمضي، متطلِّعاً ومتأمِّلاً، بين رفوف مكتبتي، كنت أتحرّى رفّاً خاصاً بكتب فالح عبدالجبار؛ المؤلَّف منها والمترجَم، المترجم لفالح والمترجَم من قبله، وكان بينها عشرات العناوين الأخرى التي وضعها آخرون، عراقيون وعرب وغربيون، وأُلّفت أو ترجمت ونشرت بإدارةٍ من فالح عبدالجبار نفسه.

كانت هذه هي وسيلة أساسية لفالح عبدالجبار وضع فيها العراق، ما قبل وما بعد 2003، في مختبر الأسئلة.. ما الذي جرى ويجري؟ وكيف ينبغي لهذا الجريان، الاجتماعي والسياسي والثقافي، أن يمضي؟ وكان مقابل هذا يضع تجارب مجتمعات أخرى ونتائج تفكير مثقفين آخرين من تلك المجتمعات ومن سواها أمام من يريد أن يرى وأن يعرف وأن يفعل شيئاً متِّعظاً بخبرات الآخرين، بمرارة مآسيهم وسعادة نجاحاتهم.. لكن أنّى للحياة أن تقرأ وتتأمل فيما هي ملتاثة بما يمكن أن يوسّخَ السمعَ ويصمّه إذ تواصل إصغاءَها، مكرهةً وطائعةً، لزعيقِ السياسةِ والسياسيّين ولانتفاخِ أوداجهم وخزائنِهم، ولدويِّ الرصاص ووقع الانفجارات، وللهبِ الحرائق ودخانِ ما يتحطّم فيها. لا أحسب أن سياسياً عراقياً، حتى من أشد المختلفين فكريّاً مع فالح، لم يكن يفضّل أن يلتقي فالح عبدالجبار، لكن مَن مِن هؤلاء كان قادراً على أن يُبدي قدراً، ولو متواضعاً، للإصغاء؟

كيف لجهدِ فردٍ أن يتواصلَ كمؤسسةِ؟ كيف لرؤيةٍ أن تمتدَّ فلا تنقطع بانقطاع الرائي عن الحياة الدنيا؟

لم يختَر فالح أن يندفع إلى نفق الموت في تلك اللحظة التي كان فيها ضيفاً متحدثاً في برنامج تلفزيوني عن (العراق في قرن)، كانت المصادفةُ هي من اختارت له هذا القدر الذي ظلّ يسعى من أجله، في جانبٍ مهم من جوانبِ تجربتِه في الفكرِ والمعرفة والبحث، وقبل هذا في السياسة؛ رؤية العراق خلال قرن، والتفكير فيه بموجب هذه الرؤية.

لم أستطع التعليقَ على ما صادفني من منشورات تنعى فالح عبدالجبار.

كنت أتساءل: ما الذي يتبقى؟

كان اختلافُ الناشرين الناعين، وهم بالعشراتِ والمئات، ومعهم آلافُ المعلّقين، وكان تنوّعُ هذا الجميع، فكرياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً، تعبيراً ربما يكون كافياً للوقوفِ على شيءٍ من الإجابة عن السؤال. لكن الإجابة الأوفرَ حظاً بالبقاء هي التي تقوى على أن تظلَّ حيّة في المستقبل.

كيف لجهدِ فردٍ أن يتواصلَ كمؤسسةِ؟ كيف لرؤيةٍ أن تمتدَّ فلا تنقطع بانقطاع الرائي عن الحياة الدنيا؟

أتذكّر علي الوردي، عالِمَ الاجتماعِ العراقي النادر، وأستعيد جواد علي، المؤرّخَ والعالم الفذ، وأفكّر بطه باقر، ولا يغيب عن بالي عبدالرزاق الحسني، وأتذكر، وأتذكر، فأقف على بداياتٍ تنقطع، وعلى تأسيساتٍ لا تتواصل، وعلى وعودٍ  تنطفىء وكأنها لا يُراد لها أن تُنجَز.

ما الذي يتبقى إذاً؟


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية