ما الذي أرغم أنقرة على التهدئة الإجبارية؟

ما الذي أرغم أنقرة على التهدئة الإجبارية؟


21/01/2021

يتوجه النظام الحاكم في تركيا،  إلى سياسة تهدئة إجبارية مع أوروبا، ، بعد أن وجد نفسه محاصراً بالعقوبات الأمريكية والأوروبية، ومتورطاً في جرائم اقتصادية وقضايا خاصّة بحقوق الإنسان، لا يستطيع الإفلات من تبعاتها القادمة، خاصة بعد تنصيب الإدارة الأمريكية الجديدة، بقيادة جو بايدن أمس الأربعاء.

طريق طويل من الخلاف

خلال مؤتمرٍ صحفيّ عقد بمدينة لشبونة، عقده وزير الخارجيّة التركيّ تشاويش أوغلو مع نظيره البرتغاليّ، سانتوس سيلفا، حمّل الأول الجانب الفرنسيّ مسؤولية توتّر العلاقات بين أنقرة وباريس، معرباً عن انفتاح بلاده على فرنسا، وفي لهجة يشوبها اللّوم، اعترض أوغلو على الاتهامات التي توجهها فرنسا إلى تركيا، منذ إطلاق عملية "نبع السّلام" ضدّ ما أسماه "مكافحة الإرهاب الكرديّ" في الشمال الشرقيّ لسوريا، عام 2019.

اقرأ أيضاً: هل يُسقط أتراك الشتات أردوغان؟

يبدو أنّ لغة التعالي التركي، قد خفتت كثيراً عمّا كانت عليه في المرّات السابقة، فلأكثر من عام انشغلت الدبلوماسية التركيّة بالتراشق اللفظي الموجه للإدارة الفرنسية، في محاولة لمناكفة فرنسا التي تقف عقبة أمام تركيا المتطلعة بشدة لاستعادة تاريخها الإمبريالي.

محطّات طويلة شهدها الخلاف الفرنسي التركي، ربما أطول من أن يتسع ذكرها، لكنّ بعض الخلافات مثّلت نقطة تحوّل في الخلاف الدبلوماسيّ والسياسيّ الذي تشهده الساحة بين البلدين؛ حيث مثّل الخلاف الذي دار في أعقاب أزمة الرسومات المسيئة للرسول، وذبح المعلم، صمويل باتي، على يد الإرهابي الشيشاني، تصعيداً خطيراً من الجانب التركي، الذي استخدم الأمر للترويج له باعتباره أزمة دينية عقائدية، لا سياسية، واستغلّ الأمر في تثبيت دعائم حكمه باعتباره الخليفة المدافع عن الإسلام والمسلمين.

اتّجهت وسائل الإعلام التركية إلى الترويج لخطاب أردوغان الذي نادى بضرورة التوجه إلى أوروبا، بعد أن حفل، عام 2020، بأزمات كبيرة

وعليه؛ اتهم الرئيس الفرنسيّ، إيمانويل ماكرون، تركيا بتبني موقف عدواني من حلفائها في حلف شمال الأطلسي، موضحاً أنّ التوترات قد تنحسر إذا أظهر نظيره التركيّ بعض الاحترام. وهو ما أشار إليه ماكرون بعد تصريحات أردوغان المسيئة له واتهامه بالجنون، لكن في أعقاب الدعوات التركيّة لمقاطعة المنتجات الفرنسية، ظهر الرئيس الفرنسيّ في لقاء مع قناة "الجزيرة"، تمّ بثه في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، ساعياً إلى تهدئة التوترات مع مسلمي العالم، الذين اتخذوا موقفاً سلبياً من فرنسا، بناءً على دعوات الرئيس التركيّ، وأوضح ماكرون؛ أنّ رغبة فرنسا كانت أن "تهدأ" الأمور، لكن كي يحدث هذا، كان من الضروري أن "يحترم الرئيس التركيّ فرنسا، ويحترم الاتحاد الأوروبيّ وقيمه، ولا يكذب ولا ينطق بالإهانات".

اقرأ أيضاً: هل تصلح سياسة العقوبات سلوك أردوغان؟

استمرّ الرئيس الفرنسيّ على موقفه المتحفّظ من تركيا، واتّهمها خلال لقائه بانتهاك كلّ الأعراف الدولية، بداية من اقتحامها الشمال السوري، ثمّ تدخلاتها السافرة في ليبيا، وكسر حظر الأسلحة المتفق عليه دولياً، إضافة إلى تعليقاته على انتهاكات تركيا في شرق المتوسط.

هل تراجعت تركيا حقاً؟

تشير المؤشرات والتصريحات الرسميّة؛ إلى أنّ الموقف التركيّ يتقهقر أمام الضغط الدولي من جهة، والضغط الداخلي الذي تعانيه من جهة أخرى، ورغم استمرار الاتحاد الأوروبي لفترة طويلة، يلوّح بعقوبات على تركيا، لم يتمّ تنفيذها، إلّا أنّ السرعة التي جاءت بها العقوبات الأمريكية، أواخر العام الماضي، ربما دفعت الاتحاد الأوروبي لاتّخاذ مواقف أكثر جذرية من تركيا، تمثلت في فرض دول الاتّحاد رسوماً على الواردات التركية من الصلب، وبعد أعوام من الصراع بين أردوغان وزعماء الاتّحاد الأوروبيّ، الذين لم يسلم أحدهم من تطاول الرئيس أردوغان، فقد تغيّرت اللغة التركيّة تماماً نحو أوروبا، بعد أن أعربت أنقرة مؤخراً عن أنّها ترى نفسها جزءاً من الاتّحاد الأوروبيّ، وتتوقّع أن تنضمّ قريباً إلى دوله، حيث إنّها جزء لا يتجزأ من الأسرة الأوروبية.

وفي سياق متصل؛ ظهر الرئيس التركيّ على شاشات التلفاز، معلناً حزمة إصلاحات اقتصادية وقضائية لجذب الاستثمارات إلى بلاده، كما تعهّد بتحقيق معدّل نمو مقبول، ينهض بمستوى حياة المواطن التركيّ، بعد الإخفاقات التي حدثت بسبب فيروس كورونا، على حدّ تعبيره، وما يلفت النظر في حديث أردوغان؛ الاعتراف بالأزمة، حتى إن لم تأتِ بشكل واضح وصريح، لكن بالطبع يختلف عن النّبرة الاستعلائية التي أطلّ بها عبر وسائل الإعلام، ردّاً على العقوبات الأمريكية، معلقاً بأنّ الأمر لا يعدو سوى حقد غربيّ على النجاح التركيّ الكبير في قطاع التصنيع.

الباحث أحمد العناني لـ"حفريات": تدرك تركيا أنّ أطماعها في ليبيا على شفا الانهيار، لذلك فإنّ ترميم ما أفسده عنادها لا مناص عنه

اتّجهت وسائل الإعلام التركية إلى الترويج لخطاب الرئيس، الذي نادى بضرورة التوجه إلى أوروبا، بعد أن حفل، عام 2020، بأزمات كبيرة بين أنقرة وزعماء الاتّحاد الأوروبيّ، لكن تبقى القضايا الخلافية بين تركيا ودول الاتحاد معلّقة إلى حدّ كبير، ولا يستطيع أحد حلّها، وأهمّها قضية التواجد في ليبيا، وهي مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى تركيا، وكذلك أزمة شرق المتوسط مع اليونان وقبرص، وأخيراً ملفات حقوق الإنسان التي تعاني من إخفاق كبير في تركيا، ويبدو أنّ تركيا لا تملك النية بعد لإصلاح الملفّ، خاصة بعد توجيه تهمة إهانة الرئيس لزعيم المعارضة، كمال كليجدار أوغلو، بعد أن وصف أردوغان بالرئيس المزعوم.

ما الذي تغيّر؟

احتدّ النزاع بين باريس وأنقرة، طوال العام الماضي، وبلغ ذروته قبيل العام الجديد، وهو ما دفع بالمحلل التركي ورئيس مركز الدراسات الاقتصاد والسياسة الخارجية في إسطنبول، سنان أولجن، إلى القول إنّ أردوغان لن يتراجع أبداً عن موقفه، ولا حتى ماكرون في فرنسا، وذلك وفق تصريحات أدلى بها لوكالة "رويترز".

كمال كليجدار أوغلو

 لكن حمل العام الجديد لغة مغايرة، يصفها الباحث في  العلاقات الدولية وشؤون الشرق الأوسط، أحمد العناني، بأنّها منطقية وتساير الواقع المأزوم الذي تعيشه تركيا من الاتّجاهات كافّة، إذ يرى في تصريحه لـ "حفريات" أنّ "تركيا أظهرت أخيراً بعض المرونة نحو مواقفها الحادّة، وهو ما يعكس عمق أزمتها الخارجية، والتي بدورها تنعكس داخلياً، ويتجلّى هذا في كلّ المؤشرات الاقتصادية في تركيا، بداية من الليرة الآخذة في الانهيار، والتي فقدت، خلال 2020، أكثر من نصف قيمتها، وصولاً إلى العقوبات الأمريكية التي فرضتها إدارة ترامب خلال الأيام الأخيرة من العام، ثمّ العقوبات الأوروبية".

اقرأ أيضاً: قرارات جديدة لأردوغان لقمع الحريات.. ما هي؟

ويتابع: "تدرك تركيا جيداً أنّ أطماعها في ليبيا على شفا الانهيار، كما حدث مع سوريا سابقاً، وبذلك فإنّ ترميم ما أفسده العناد التركيّ أمر لا مناص عنه، خاصة أنّ تركيا ما تزال تطمح دخول الاتّحاد الأوروبيّ، وما يزال أذيالها من المرتزقة مبعثرين بين سوريا وليبيا وأذربيجان، وغيرها من المناطق التي قررت أنقرة أن تقحم نفسها فيها، وهو ما يكبّدها المزيد من الخسائر الاقتصادية، لكنّها الآن في غنى عنها".

الباحث في  العلاقات الدولية وشؤون الشرق الأوسط، أحمد العناني

وتعاني تركيا داخلياً من آثار فيروس كورونا، الذي ضرب البلاد في موجته الثانية،  إلّا أنّ الوباء ليس أسوأ ما يهدّد عرش النظام التركي، بقدر ما تهدّده المعارضة القوية، والآخذ نجمها في الصعود، بسبب ما تقوم به من أدوار تقاعست الدولة عن القيام بها؛ لذلك يحاول النظام ترميم جراحه الخارجية أولاً، علّها تنقذ عرشه داخلياً.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية