كيف جعلت السلفية الجهادية الدينَ منصةً للعنف؟

كيف جعلت السلفية الجهادية الدينَ منصةً للعنف؟

كيف جعلت السلفية الجهادية الدينَ منصةً للعنف؟


07/01/2024

لم يخضع مفهوم من المفاهيم المتعلقة بالظواهر الاجتماعية والسياسية والدينية، لما خضع له مفهوم السلفية الجهادية من جدل وخلاف بين الباحثين في الظاهرة، بين من ينكرون وجود هذا المصطلح من الأساس أو صلاحية اقترانه بالسلفية، باعتبار أنّ السلفية، ضمن مقرراتها العقدية، لا تقبل فكرة استخدام العنف تحت عنوان الجهاد لتحقيق أغراض سياسية؛ فكيف ظهر هذا المصطلح أو المفهوم؟ وكيف شاع استخدامه كعنوان دالّ على الحركات المسلحة التي تدّعي الصلة بالسلف الصالح؟

شاع هذا المصطلح قبل أكثر من عقد تقريباً، عبر وسائل الإعلام، معبراً عن صعود موجة من العنف المتسربل بالدين وعبر ساحات واسعة في العالم، وتحت عناوين فرعية متعددة بحسب الجغرافيا، بالشكل الذي جعل السلفية الجهادية مصطلحاً ذا محتوى مترامي الأطراف، عصيّ على التعريف، صعب في إدراك معانيه، فرغم أنّ السلفية الجهادية في مضمونها اتجاه محدّد واضح الخصائص؛ فهي في الوقت ذاته تبدو غير متجانسة وتتّسم بالغموض والتعدّد، وتفضي إلى اتجاهات متباينة ومتناقضة أحياناً، وربما هذا التناقض هو الذي صبغها بالعنف الذي خرج لديها من رفض الواقع، بوصفه فاسداً ومفسداً؛ لأنّه يقود، وفق تصوّرها، إلى المواءمات في العقيدة والمنهج.

ما تزال أفكار أبو الأعلى المودودي وسيد قطب تمثل عماد أفكار السلفية الجهادية، وما تزال قادرة على إنتاج المزيد من العنف المبرّر باسم نصرة الدين

تستند السلفية الجهادية، بشكل مختزل وانتقائي جداً، إلى نصوص سلفية متفرّقة في كتب التراث، لم تخضع لأيّة قراءة نقدية أو تفكيكية تراعي السياق الزماني والمكاني لتلك النصوص، إضافة إلى تأثّر السلفية الجهادية بحركات إسلامية سياسية مزجت بين الحركية والنصّ على غرار الإخوان المسلمين.

أما عن أصل التسمية فيؤكّد منظّرو هذا الاتجاه، من أمثال أبو محمد المقدسي، أنّهم لم يطلقوا على أنفسهم هذا الاسم، بل وصفه بهم آخرون، لتمسّكهم بما كان عليه السلف الصالح من الاعتقاد والعمل والجهاد، وبذلك فهو يعرّف السلفية الجهادية بأنّها "تيار يجمع بين الدعوة إلى التوحيد بشموليته والجهاد لأجل ذلك في آن واحد، أو أقل؛ هو تيار يسعى لتحقيق التوحيد بجهاد الطواغيت ...، فهذه هي هوية التيار السلفي الجهادي، التي تميزه عن سائر الحركات الدعوية والجهادية"، ويعرّفها أبو قتادة الفلسطيني بأنّها تتمثل بأمرين: أولهما منهج علمي في التعامل مع الأصلين الكتاب والسنّة، حيث تقوم على اعتمادهما فقط ونبذ سواهما في الصدور عنهما بالحكم المراد للحركة والحياة. ثانيهما: حركة حياة وسلوك طريق في تطبيق هذا المنهج، أما السلفية الجهادية في العالم" فإنّها تلك التجمعات والتنظيمات التي قامت من أجل إسقاط الأنظمة الطاغوتية الكافرة في بلاد الردّة، وإحياء الحكومة الإسلامية التي تعمل على تجميع الأمة تحت راية الخلافة الإسلامية، كما يعرّفها مروان شحادة.

إقرأ أيضاً: الحقيقة الدينية والأخلاقية في الفضاء العام.. أين هي من الفردانية؟

لا يرى التيار السلفي الجهادي غير القتال والجهاد سبيلاً لتغيير الأوضاع السياسية وتحقيق هدف إقامة الدولة الإسلامية، ويؤكد ذلك محمد عبد السلام فرج في كتابه "الفريضة الغائبة". بالنسبة للأقطار الإسلامية فإنّ العدو يقيم في ديارهم، بل أصبح يمتلك زمام الأمور، وذلك العدو هم هؤلاء الحكام الذين انتزعوا قيادة المسلمين، ومن هنا فجهادهم فرض عين "بينما يقدم أبو قتادة في مقالته: لماذا الجهاد؟ رأياً واجتهاداً يقول فيه" هؤلاء الحكام مفسدون في الأرض، بسبب ما هم عليه من البغض لهذه الأمة وبسبب حكمهم بشريعة الشيطان ...، وهؤلاء الحكّام اجتمع فيهم ما تقدّم من محاربة لله ولرسوله، وذلك بالإعراض عن شريعة الإسلام، وترك الخضوع لأحكام الكتاب والسنّة والإفساد في الأرض، فالواجب أن يقوم أهل الإسلام عليهم كلّ قيام حتى تتطهّر الأرض منهم".

السلفية التقليدية والسلفية الجهادية

يتمسّك المنهج السلفي التقليدي بشكل صارم بعدم التنوع والتعدّد، ويقرن ذلك بالفرقة والنزاع والشقاق المحظور شرعاً؛ لذا ينبذ الجماعات والحركات والأحزاب الإسلامية، معتبراً أنّ الحزبية مرض أصاب العالم الإسلامي وأنّ الاشتغال بالسياسة انحراف خطير، لذلك كان الموقف السلفي المحافظ من السلفية الجهادية متميزاً بالعنف الفكري واللفظي، فقد تبادل كلا الطرفين الاتهامات المغلظة حول مسائل الإيمان والعمل، الأمر الذي أفرز قطيعة شبه تامة بينهما، حيث تتهم السلفية الجهادية أداء السلفية المحافظة بالإرجاء في الإيمان، والمثالية في منهج العمل، وفق نظرية التصفية والتربية التي تتبعها السلفية التقليدية، التي تركّز على أسلمة المجتمع وتصفيته من الشوائب البدعية، قبل الانتقال الى العمل السياسي وإقامة دولة الخلافة، في حين تتهم السلفية التقليدية السلفية الجهادية بالغلو والتشدد وانتهاج فكر الخوارج في التكفير؛ حيث أنتج أتباع السلفية التقليدية عشرات الرسائل والكتب التي انتقدت الجماعات السلفية الجهادية.

عبدالله عزام: كلّ رضا بترك كلام الله وبتحكيم كلام غيره أو تقديم كلام أيّ بشر على القرآن والسنّة، فلا حظّ له في دين الإسلام وهذا الكفر بعينه

يقول الشيخ الألباني، وهو أحد رموز التيار السلفي المحافظ: " .... إنّ مسألة التكفير عموماً لا للحكام فقط، بل وللمحكومين أيضاً هي فتنة عظيمة قديمة، تبنتها فرقة من الفرق القديمة وهي المعروفة بالخوارج، ومع الأسف الشديد؛ فإن البعض من الدعاة أو المتحمّسين قد يقع في الخروج على الكتاب والسنّة، لكن باسم الكتاب والسنّة".

نشطت الحركات السلفية الجهادية بشكل عام عقب انهيار النظام القومي العربي، وما رافقه من انحسار للفكر القومي بعد هزيمة حزيران (يونيو) عام 1967؛ إذ صعدت قوى الإسلام السياسي بدءاً من الثورة الإيرانية الإسلامية عام 1979، واقتحام مجموعة من المتشددين الحرم المكّي بقيادة جهيمان العتيبي، وصولاُ إلى اغتيال الرئيس السادات في مصر على يد مجموعة متطرفة عام 1981، وما تلا ذلك من مواجهات عنيفة بين الإخوان المسلمين في سوريا والدولة، لكنّ اجتياح القوات السوفييتية لأفغانستان عام 1979 كان من أكثر الحوادث إلهاماً في ظهور وبروز تيار الجهاد المعولم.

أهمّ المقولات والمرتكزات الفكرية 

تستند الذهنية السلفية الجهادية إلى عدة مرتكزات أيديولوجية، أهمها مفهوم الحاكمية أو إقامة الحاكمية كهدف جهادي قادم أو قائم في أية بقعة في العالم الإسلامي، وخطورة هذا المبدأ أو المفهوم أنّه أسقط بفعالية واحتلّ بشراسة المكانة التي شغلتها على مدار عقود الدعوات الوطنية والقومية، التي آمنت على مدار عقود متتالية بثقافة الأولويات والتحرير الوطني، فنقلها من هدف محلّي محدود لا يتجاوز من الأقطار، إلى تحقيق هدف كونيّ عالمي؛ حيث يفسّر عبد الله عزام مفهوم الحاكمية فيقول: "التحاكم إلى الكتاب والسنّة هو الإسلام فحسب؛ لهذا فالتحاكم إلى كلام البشر عن رضا وطواعية هو خلع لرقبة الإسلام من الأعناق، فكلّ رضا بترك كلام الله وبتحكيم كلام غيره أو تقديم كلام أيّ بشر على القرآن والسنّة، فلا حظّ له في دين الإسلام وهذا الكفر بعينه لا غبش به ولا لبس ولا خفاء".

إقرأ أيضاً: كيف يمكن مواجهة العنف والكراهية؟

يمثّل الولاء والبراء المرتكز الأيديولوجي الثاني، وهو ببساطة المنهج والقانون الذي يحكم علاقة الجماعة بغيرها، من المكونات الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية والفكرية والمؤسساتية، وباختصار هو قانون التعامل مع الآخر، ورغم بساطة تعريف هذا المبدأ لكنّه يضمّ في ثناياه من السلطة ما لا يقدر عليه أعتى القضاة أو أرفع المحاكم التي عرفتها البشرية؛ فهو يملك الحكم بالردّة والجاهلية والضلالة، ويحكم من يستحق الحياة ومن لا يستحقها.

تطورات خضعت لها السلفية الجهادية 

دخل مفهوم الحاكمية كبعد أيديولوجي ومفهوم سياسي في قاموس التيار الإسلامي، على يد الداعية الهندي، أبو الأعلى المودودي، لكنّ الذي نقل المفهوم إلى الاستخدام السياسي فترة الستينيات هم الإخوان المسلمون في مصر، وتحوّل المفهوم إلى سياسة نشطة على يد منظر الجماعة، سيّد قطب، الذي أكسبه مزيداً من التشدّد.

عايش المودودي مشاعر القهر والرغبة في الانتقام من المستعمر الغربي في القارة الهندية، ما دفعه إلى تبنّي نظرة مشحونة ومتشددة، يتمرّد من خلالها على الحكم الغربي الجائر، فراح يبحث عن مفهوم للحاكمية بناء على منطلقاته، حتى توصل إلى أنّ الحاكمية لا تكون إلا لله، يقول: "...الحاكم الحقيقي في الإسلام إنما هو الله وحده... فإذا نظرت إلى هذه النظرية الأساسية وبحثت عن موقف الذين يقومون بتنفيذ القانون الإسلامي في الأرض، تبيّن لك أنّه لا يكون موقفهم إلا كموقف النواب عن الحاكم الحقيقي"، كما يؤكّد في كتابه الحكومة الإسلامية: "الإسلام ينصّ على أنّ الله وحده خالق الكون وحاكمه الأعلى، وأنّ السلطة العليا لله وحده، أما الإنسان فهو خليفة هذا الحاكم الأعلى ونائبه، والنظام السياسي لا بدّ من أن يكون تابعاً للحاكم الأعلى، ومهمّة الخليفة تطبيق قانون الحاكم الأعلى في كلّ شيء، وإدارة النظام السياسي طبقاً لأحكامه".

إقرأ أيضاً: شيوخ السلفية.. سلطة الماضي على الحاضر

الحاكمية المودودية، إذاً، تتضمن رفض حاكمية البشر وضرورة الثورة عليها؛ لذا نظرية التوحيد عند المودودي ليست عقيدة وطقوساً، بل نظام حياة اجتماعي بني على خضوع الإنسان لله وليس لحكومة أو دستور أو قانون، أو مؤسسة من مؤسسات الدولة المدنية الحديثة، نحن أمام فكرة انقلابية بامتياز.

لكنّ كتابات سيد قطب ومقولاته أثّرت بشكل أكبر في منهاج عمل الحركات الإسلامية، حيث بدأ في تقديم مفهوم الحاكمية الإلهية كتعبير عن تغيير جذري شامل، يحمل في ثناياه شرارة ثورة أيديولوجية كاسحة، يقول في "معالم في الطريق": "العالم اليوم يعيش في جاهلية من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها، هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخصّ خصائص الألوهية، وهي الحاكمية، فمملكة الله على الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعينهم هم رجال الدين، كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم الثيوقراطية أو الحكم الإلهي المقدس، لكنّها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكم، وأن يكون مردّ الأمر إلى الله، وفق ما قرّره من شريعة مبينة".

لم تكن نصوص قطب مجرد نصوص أدبية إبداعية رمزية، بل نصوصاً ثقافية مباشرة أراد من خلالها إحداث تغيير ثوري وجذري في فهمنا للحقيقة القرآنية والتاريخ الإسلامي، وأوضاع مجتمعاتنا، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، فنصوص قطب لا تحمل إلا وجهاً واحداً هو وجه التطرف والغلوّ، والمنغلقون على نصوصه لن يكونوا على نحو آلي إلا من المتطرفين، وما تزال أفكار المودودي وسيد قطب تمثل عماد أفكار السلفية الجهادية، وما تزال قادرة على إنتاج المزيد من العنف المبرّر باسم نصرة الدين، وصدق من قال: كم من الجرائم ترتكب باسم الدين!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية