غياب القوة الناعمة لمصر

غياب القوة الناعمة لمصر


07/01/2019

لطالما مثّلت الثقافة، بكلّ أشكالها، القوة الناعمة لتصدير الدور الحقيقي لمصر لكلّ الشعوب الناطقة بالعربية، ولمعظم أرجاء العالم الإسلامي؛ وتشكل صورتها وتأثيرها الحضاري في محيطها الجغرافي.

اقرأ أيضاً: كيف عبّر الفن والأدب عن الصراع الطبقي في مصر؟

وحين نعود إلى المشهد في مطلع القرن العشرين، نجد أنّ رياح الحرية السائدة في مصر في تلك الفترة التاريخية، جعلت منها قبلة لكلّ المضطهدين في العالمين؛ العربي والإسلامي، فجاء إليها الشاميون والتونسيون والأفغان والأتراك، كما استقبلت اليونان والأرمن وغيرهم من مختلف الجنسيات؛ فكان منهم المفكرون شبلي شميل، وفرح أنطوان، ولبيبة هاشم، وزينب فواز، ويعقوب صروف، ومحمد الخضر حسين، فضلاً عن الفنانين والمطربين والممثلين، ليشاركوا جميعاً في صناعة تاريخ الثقافة المصرية والعربية.

الوجدان العربي يتشكّل في مصر

كانت مصر تصدّر صورتها وتأثيرها عبر أعمال محمد عبده وطه حسين وسلامة موسى وإسماعيل مظهر وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمود مختار، وغيرهم من رموز الثقافة التي شكّلت وجدان الإنسان العربي في كلّ بقعة من جغرافيّته، وكان تأثير الغناء المصري، والسينما المصرية أكثر اتساعاً من قاعدة الكُتّاب؛ لأنّه يتعلق بعوام الناس، فكان لإسماعيل يس وفريد شوقي وعمر الشريف وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، تأثير كبير على مجمل وجدان الإنسان العربي، وأصبحت العامية المصرية هي الأكثر فهماً لدى الإنسان العربي بما صدرته تلك الفنون، وهو ما جعل لمصر مكانة مركزية وثقلاً وتأثيراً في المنطقة، قد يتجاوز تأثيرها السياسي في بعض الأحيان .

رغم ما تمرّ به مصر من ظروف قهرية فهي بحاجة إلى فتح مساحة من الحرية في الأفق  لتوليد الإبداع

وعاشت مصر التجربة الناصرية، وهي مؤمنة بأهمية القوة الناعمة لمصر، ورغم تراجع مساحة الحرية في تلك الحقبة، لكنّ القوة الناعمة ظلت فاعلة في كافة المجالات الثقافية، وداعمة لدعوة عبد الناصر للوحدة العربية، من خلال الصحف والمطبوعات المختلفة لكافة المفكرين والكتاب، وأعمال الفنانين والأدباء مقدمة وجه مصر الجميل الذي تعكسه الثقافة بكل أشكالها.

تراجع المكانة مع انكماش الدور

ومع بداية الحقبة الساداتية، بدأ منعطف التراجع للدور الثقافي المصري، الذي قابله بزوغ المدّ الديني، وبزوغ السلفية في مصر، ليتم التراجع التدريجي للدور الثقافي المصري في المنطقة، وقد استمر منحنى هذا التراجع يتصاعد تدريجياً مع نهج الجمود السائد في عصر حسني مبارك، وتوسع دور الجماعات الدينية في السيطرة على المجال العام الاجتماعي في مصر، وانتشار تأثير هذه الجماعات بما تحمله من رؤية فقهية جامدة للإسلام، وهو ما أسهم في انتشار روح التكفير، التي وجهت سهامها إلى صدور العديد من المثقفين والمبدعين المصريين، فقتل فرج فودة، وكانت هناك محاولة لاغتيال نجيب محفوظ، وفي ظل اتساع رقعة المدّ الديني كانت ينابيع مصر الحقيقية في الإبداع الثقافي، في كافة المجالات، يتم تجفيفها تدريجياً، وذلك على الرغم مما شهدته حقبة مبارك من اهتمام ملحوظ بمؤسسات الثقافة، والدور النشط والفعال الذي قام به الوزير فاروق حسني في تلك الحقبة؛ من إعادة بناء مكتبة الإسكندرية، وتأسيس أهم مشروع ثقافي في مصر، وهو المركز القومي للترجمة، وتنشيط عمل المؤسسات القائمة، مثل: المجلس الأعلى للثقافة، والهيئة المصرية العامة للكتاب، وهيئة قصور الثقافة، لكن ذلك لا يمكن أن ينفي طبيعة التراجع المستمر للقوة الناعمة لمصر، والنابعة من تراجع حجم المبدعين في مصر، وتراجع المنتج الإبداعي في كافة المجالات، وذلك نتيجة للتردي الواضح في أنظمة التعليم في تلك الفترة.

اقرأ أيضاً: تحولات المجتمع المصري.. ما بين معز وحلا ورقصة الساحل

وبعد ثورة يناير؛ غاب، بل اختفى، تأثير القوة الناعمة لمصر في المنطقة، وتراجع دور مصر الثقافي نتيجة الأحداث التي توالت في المنطقة؛ ففي ظلّ السعي نحو الحفاظ على تماسك بنيان الدولة من الانهيار والتفكك، كانت تتنامى رغبة في الحفاظ على القائم، وهو ما نتج عنه تقليص مساحة الحريات، وانتشار رياح الخوف، في زمن مطلوب فيه أن يسود الصمت، وكلّ ذلك كانت له آثاره الوخيمة على الحياة الثقافية والإبداعية التي جفّ ضرعها.

مع بداية الحقبة الساداتية بدأ منعطف التراجع للدور الثقافي المصري الذي قابله بزوغ المدّ الديني والسلفية في مصر

وفي الحقبة الأخيرة، لوحظ تسريب ما تملكه مصر من تاريخ؛ حيث انتشرت ظاهرة تهريب الآثار وسرقتها، فضلاً عن حرق المجمع العلمي المصري إبان أحداث الثورة، كما اتسع دور الرقابة على كل المنتجات الثقافية والفكرية بكل أشكالها.

لقد تركز اهتمام النظام الحالي في مهمة الحفاظ على ما تبقى من أركان الدولة، وسعى إلى تطوير بناء الدولة في مجالات العمران، ولم يمنح الاهتمام  الكافي لبناء الإنسان الذي من أجله يقوم العمران، وعني بالحجر قبل أن يعتني بالبشر، وغاب اهتمام الدولة بالثقافة؛ إلّا في أضيق الحدود، ما أسهم في الغياب الواضح لدور مصر الريادي في المنطقة.

ولا شكّ في أنّ غياب الدور الفاعل للقوة الناعمة لمصر في المنطقة، هو نتاج حالة الانهيار العام التي تسود قطاعات مختلفة في الدولة والعالم العربي، كما أنّ غياب دور مصر الثقافي وقواها الناعمة؛ إنما هو تعبير عن مدى الانهيار المستمر والواضح في أنظمة التعليم.

اقرأ أيضاً: متحف مصري للتسامح يسرد التكامل بين الأديان لمحاربة التطرف

ولا يمكن للقوة الناعمة المصرية أن تعود فاعلة من جديد، إلا حين تعود للدولة المصرية قوتها وازدهارها في كافة مجالات العلوم والفنون والآداب، ولن يتحقق هذا إلا بوجود منظومة إستراتيجية واضحة، لإعادة بناء الإنسان المصري، وبناء أركان هوية الدولة المصرية، والنهوض في كافة المجالات وخاصة التعليم؛ لأنّه معين صناعة الوعي، وهذا لا يمكن أن يتحقق في إطار انسداد الأفق السائد في الدولة المصرية، نتيجة ما تمرّ به البلاد من عمليات إرهابية فرضت الخوف على الجميع، ورغم ما تمرّ به مصر من ظروف قهرية، فهي بحاجة إلى فتح مساحة من الحرية في الأفق؛ لأنّ الإبداع لا يتخلق إلا في وجود قدر من الحرية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية