تهويد يافا.. حكاية نكبة لم تتوقف

فلسطين

تهويد يافا.. حكاية نكبة لم تتوقف


20/02/2018

لم يكن الاحتلال الإسرائيلي مجرد حرب عابرة أو حدث تاريخي، وإنما هو عملية مستمرة من السطو والنهب للأراضي والتراث والثقافة، مثلما حدث ويحدث في مدينة يافا الفلسطينية، إحدى أهم مدن وموانئ الساحل الفلسطيني وشرق المتوسط ما قبل النكبة.

تعد يافا شاهداً على إحدى أكبر عمليات السلب في التاريخ المعاصر؛ فمنذ احتلال المدينة العام 1948، لم تتوقف محاولات ومساعي التهويد فيها؛ حيث عملت سلطات الاحتلال بشكل ممنهج ومخطط على مسح الآثار والطابع العربي للمدينة وأحيائها؛ بغرض نزع هويتها عنها، التي اكتسبتها عبر تاريخها الممتد إلى الألف الثامن قبل الميلاد.

سوق يافا كما يظهر في لوحة مرسومة العام 1877 للفنان غوستاف بورانفايند

حكاية التهويد
انخفض عدد سكان يافا من الفلسطينيين إبان النكبة من 120 ألفاً إلى 3900 فلسطيني، وفي العام 1950، ضمت بلدية "تل أبيب" مدينة يافا إلى نفوذها، وأصبحت منطقة من مناطقها وسُميت (يافو)، وبذلك تم إلغاء بلدية يافا وأصبح سكانها تابعين لبلدية "تل ابيب".

وكانت بداية عملية التهويد، على يد السلطة الجديدة، مع إزالة أحياء بالكامل عن بكرة أبيها، كحي المنشية العريق، الذي اختفى تماماً، وهُجّر سكانه، لتقام مكانه مجموعة من الفنادق، في إطار مساعي تحويل المدينة إلى منطقة سياحية. وكان الحي من أشهر الأحياء بالمقاومة في فترة ما قبل النكبة، وأثناء الحرب؛ حيث عُرف بحي "القبضايات"، وكان الصغار يرددون فيه دائماً "إحنا ولاد المنشية .. حمالين الشبرية".

حي المنشية قبل النكبة اشتهر بتصديه ومقاومته لعصابة الإرغون خلال حرب العام 1948

كما عمدت سلطات بلدية الاحتلال مباشرة إلى إزالة لافتات الأسماء العربية لشوارع العديد من أحياء المدينة واستبدلتها بأسماء مأخوذة من التوراة أو لزعماء يهود.

وفي العام 1953 سن الكنيست قانوناً عُرف باسم "قانون استملاك الأراضي"، الذي تم بموجبه الاستيلاء على أملاك المهجَّرين الفلسطينيين التي تم تسميتها بـ"أملاك الغائبين"، كما قام الاحتلال بمصادرة جميع الأوقاف الإسلامية، بادعاء غياب المسلمين في الداخل؛ حيث أصبحت "مديرية أراضي إسرائيل" هي الوكيل الرسمي لأملاك اللاجئين، وهي المديرية التي قامت لاحقاً، ومنذ مطلع الألفية الجديدة تحديداً، ببيع هذه الأملاك للمستثمرين، بلا رادع.

عملت سلطات الاحتلال بشكل ممنهج ومخطط على مسح الآثار والطابع العربي للمدينة وأحيائها

وفي ستينيات القرن الماضي أنشأ الاحتلال "حي الفنانين" في المدينة القديمة؛ حيث ساهم في عملية تهويد يافا بحجة التحسين العمراني، فقد أدى توافد المصممين والفنانين في تغيير النظرة العامة إلى المدينة، وشكّل ملجأ للعديد من الأسر اليهودية التي تذهب إلى تلك المنطقة بغرض التنزه.
وخلال السبعينيات والثمانينيات، هدمت سلطات الاحتلال العديد من المنازل في منطقة العجمي، في وقت تم حظر البناء أو التجديد في مناطق الفلسطينيين، ما عنى انعدام إمكانية إجراء إصلاحات كبيرة على المنازل المتواجدة أو حتى بناء منازل جديدة.
كما لم تتوقف عمليات التهويد، بشكلها الاستيطاني المباشر، ففي العام 2009، وفد إليها مستوطنون يهود من مستوطنات مفككة في منطقتي الخليل وقطاع غزة، وذلك بهدف ترسيخ تهويدها.

إهمال الآثار الإسلامية
وكان من ضمن المخطط التهويدي إهمال الآثار الإسلامية بشكل كامل، ومنها مسجد حسن بيك، وهو مسجد عثماني تاريخي تراثي، تعرض منذ النكبة إلى اعتداءات ومحاولات رسمية لهدمه بحجة التطوير، كان أخطرها في العام 1981، بيد أن هبّة فلسطينيي يافا أنقذته من يد التخريب والتدمير وقد تم ترميم ما تصدع من أجزائه بفضل أهالي المدينة. وقد ظل المسجد مغلقاً إلى أن رمّمته الهيئة الإسلامية المنتخبة في يافا وفتحته للصلاة العام 1988. لكن السلطات الإسرائيلية ما تزال تحظر رفع الأذان فيه. وقد تعرض المسجد منذ افتتاحه لاعتاداءات ومحاولات إحراق عديدة من المستوطنين المتطرفين، من إلقاء زجاجات حارقة، وقاذورات، إلى حرقه بالكامل في آذار (مارس) 2004، ومازال يعاني حتى اليوم من اعتداءات مستمرة.

مسجد حسن بيك في يافا تعرض لاعتداءات عديدة من قبل المستوطنين المتطرفين

ومثال آخر لطمس الآثار والمعالم الإسلامية، هي المقبرة المملوكية الموجودة في مسجد المحمودية بمنطقة الدوار؛ حيث انتهكت هذه المقبرة مراراً وتكراراً، بحجة عمليات التطوير ومدّ الشوارع، التي لم تعبأ بحرمة المسجد أو مقابر المسلمين، وكل ذلك من أجل تطوير "البنية السياحية" في المدينة.
كما تم إزالة مقبرة عبد النبي التي تقع على حدود حي المنشية وبناء فندق سياحي مكانها، إضافة إلى إزالة مقبرة السلمة التي تحوي قبوراً لبعض الصحابة، وبناء وحدات سكنية للقادمين من الاتحاد السوفييتي العام 1991.
مشاريع استثمارية وتهجير جديد

وتتعرض يافا لتهويد ما تبقى من الأملاك والمباني العربية تحت مسميات مشاريع استثمارية، تجتاح الأحياء العربية وتستهدفها؛ فبعد أن كان يُنظر سابقاً إلى يافا على أنها مكان قديم دون تنظيم أو تخطيط عمراني، أصبحت محط الأنظار كمدينة سياحية، تكمن جاذبيتها في جمالها وسحرها ورونقها المختلف عن المدن الأخرى المكتظّة والحديثة.

كانت بداية التهويد في المدينة مع إزالة أحياء بالكامل عن بكرة أبيها كحي المنشية العريق

وهكذا، أصبحت المدينة تُعَدّ جوهرة عقارية، تجذب طبقة الأغنياء من اليهود من كل أرجاء البلاد ومن خارجها كذلك؛ يهود فرنسا على سبيل المثال، يستثمرون في العقارات منذ بضع سنوات، من دون قيود.
وفي نهاية التسعينيات، كان مشروع "أندروميدا" أول مشروع للمساكن باهظة الثمن في يافا، وقد هدف إلى توفير السكن الخاص والدائم للمستفيدين.

وحدات سكنية فاخرة في مشروع "أندروميدا"

وكانت حصيلة المشاريع الاستثمارية الجديدة هي امتلاء المدينة بالمشاريع السكنيّة التي تناسب فقط الأغنياء، الذين يمثّل اليهود الأغلبيّة الساحقة منهم. وقد انتشرت مكاتب السمسرة والعقارات في المدينة خلال السنوات الأخيرة، بهدف الترويج للعقارات وبيعها فقط لتلك الشريحة.
وهكذا امتلأت المدينة بمشاريع ضخمة،؛ فبالإضافة إلى مشروع "أندروميدا، هناك مشاريع مثل "سوق الجبليّة"، ومشروع "كاسيوبيا" الواقع بالقرب من سوق العتق.

وكان أخطر ما في هذه المشاريع، أنّ الشاب العربي في يافا، لم يعد بمقدوره شراء منزل أو شقة سكنية بسبب الأسعار الباهظة، وبالتالي يضطر للخروج من المدينة، فما يحدث هو الدفع بالمواطنين العرب إلى هجرة جديدة لخارج المدينة؛ حيث ينخفض عدد السكان العرب في يافا يوماً بعد يوم.

مشاريع سكنية جديدة على إحدى التلال القريبة من ميناء يافا

تهويد ما تبقى من أحياء عربية
وخلال السنوات الأخيرة، ازدادت أعداد المباني اليهودية في أحياء يافا ذات الأغلبية العربية، كأحياء العجمي، والجبليّة، وتلّ العرقتنجي.
ففي حي العجمي التاريخي، كانت سلطات الاحتلال قد عمدت إلى هدم عدد من المنازل خلال السنوات الأخيرة، ووسّعت مساحة الشاطئ أيضاً، وحولت بعض مناطقه إلى حدائق. وفي العام 2012 تم إقرار مخطط من "مديرية أرض إسرائيل" عرف باسم "مخطط كيدم"، شمل أعمال تطوير وشق شوارع وطرح أراضي اللاجئين المصادرة في الحي للبيع بأسعار باهظة، مما يعني حرمان العرب منها لعجزهم المالي عن شرائها، وبيعها للمستثمرين اليهود.

تتعرض يافا لتهويد ما تبقى من الأملاك والمباني العربية تحت مسميات مشاريع استثمارية

ويأتي ضمن مساعي التهويد في الحي منح بيت "مصطفى درويش القطان"، الذي تهجّر مع عائلته زمن النكبة العام 1948، واستولت بلدية تل أبيب على المبنى منذ ذلك الحين، لمؤسسة صهيونية عسكريّة، هي "حركة الإصلاح اليهوديّة" التي تنوي الاستقرار في يافا، وبالتحديد في حيّ عربي مثل حي العجمي.

المباني العربية التقليدية في حي العجمي

وفي حي النزهة العريق، هدم الاحتلال مؤخراً مبنى تاريخياً كان ملكاً للراحل علي المستقيم مالك "سينما نبيل" المشهورة في فترة ما قبل النكبة. وهو ما يصبّ كالعادة في مصلحة المستثمرين اليهود الذين يبحثون عن كلّ قطعة أرض في يافا من أجل تهويدها وزيادة ربحهم السنوي من خلال بيع أو تأجير شقق سكنية.
أما في حي "العرقتنجي"، فقد تم الاستيلاء على منزل كبير في الحي، وهو بالأصل لعائلة عربية هُجِّرت قبل النكبة، وبيع في الفترة الأخيرة لجمعية "راب إلياهو" اليهودية التوراتية، المعروفة بفكرها المتطرف، حيث استوطن في هذا المنزل 100 مستوطن، يجولون ويصولون داخل الأحياء العربية. وما أثار قلق أهالي الحي أن المتطرفين اليهود يتنقلون وهم مسلحون، ما يؤدي لتعكير صفو الحياة داخل الحي.

من مظاهرة رافضة لعمليات تجديد أحياء يافا القديمة

هكذا إذاً، تبذل السلطات الإسرائيلية منذ العام النكبة 1948 جهوداً مكثفة، وبمختلف الوسائل، وبمشاركة ومؤازرة المنظمات الصهيونية في العالم، بهدف تحويل يافا والمدن العربية الفلسطينية الساحلية إلى مدن ذات أغلبية يهودية، وهو ما يؤكد على طبيعة هذا الكيان، القائمة على الاستيلاء والإحلال ويكشف زيف شعارات التعايش التي يروّجها في العالم.

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية