المسلمون بين السماحة والتسامح.. لماذا تناسينا قيم الإسلام الحقيقية؟

المسلمون بين السماحة والتسامح.. لماذا تناسينا قيم الإسلام الحقيقية؟


22/12/2020

حين تحاصرنا مظاهر البربرية والتوحش، ويتعزز شعور الكثيرين منا بالغربة النفسية عن واقع مجتمعاتنا، وتضيق صدورنا بفعل تلك الفجوة الواسعة بين ما يدعو إليه الدين وسلوكيات المسلمين، تبدو الحاجة ماسة إلى التعلق أكثر بقيم الدين الصحيحة وإعادة اكتشافها، باعتبارها ماتزال تمثل دائرة الإلزام الأخلاقي والقيمي لدى المؤمنين بالإسلام.

يبدو الإطار القيمي، الذي حكم المسلمين عبر تاريخهم، إطاراً ثابتاً غير قابل للتجدد أو التطور، حتى على مستوى القيم والأخلاق التي تتفاعل مع حركة المجتمع والتاريخ، ومن ثم حين نناقش قيمة من قيم الدين لا يمكن التعاطي معها باعتبارها جامدة لا تتحرك.

حين نناقش قيمة من قيم الدين لا يمكن التعاطي معها باعتبارها جامدة لا تتحرك

ولعل أحد أسباب أزمتنا في التعاطي مع الدين ذاته وما أنتجه من حضارة، هو ما عزاه المؤرخ الفرنسي بردويل إلى هذا الثبات "تبدو حضارات الشرق الأقصى مجموعات بلغت في فترة مبكرة جداً نضجاً ملحوظاً، لكن في إطار يتسم بأنّه جعل عدداً من هياكله الجوهرية شبه ثابتة، وقد استمدت من ذلك وحدة وانسجاماً غريبين، ولكنها اكتسبت أيضاً صعوبة قصوى في تغيير ذاتها وفى إرادة التطور والقدرة عليه، كما لو أنّها امتنعت امتناعاً باتاً عن التغيير والتقدم".

ما يحاول أن يشير إليه بروديل هو إصرار الفئات الأكثر تأثيراً في الثقافة الإسلامية من العلماء وكذا السلطة، على تأبيد نسخة جامدة من الدين قد تصنع في مرحلة ما شيئاً من التجانس والوحدة، لكنها تفقد تلك القدرة إذا ما أصرت على ذلك التكلس.

تقديري أنّ قيم الدين لم تكن أبداً قيماً تستعصى على حركة التاريخ والناس، فكما يقول الأصوليون حتى الشريعة في مبناها ومعناها تجري مع المصلحة. والمصلحة لم تعد مفهوماً قُطرياً أو بيئياً بل مفهوم عالمي بعد أن أضحى الناس كأنهم يعيشون في قرية واحدة وبدت احتياجاتهم واحدة وطموحاتهم كذلك.

اقرأ أيضاً: متحف مصري للتسامح يسرد التكامل بين الأديان لمحاربة التطرف

بتأمل الكثير من المفاهيم الإسلامية التي أهملناها سنكتشف أنّها أضحت هي لغة العالم المتقدم، وتجسدت في نصوص تعارفت عليها الأمم عبر مدونات ملزمة كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948.

إنّ الفجوة في واقع مجتمعاتنا العربية والإسلامية ماتزال واسعة بين العقود القانونية والممارسة الفعلية، ومن ثم يبدو التذكير بها والتأكيد على موقعها أمراً ضرورياً.

تأبيد نسخة جامدة من الدين تفقد القدرة على التجانس والوحدة في المجتمع

قد يتصور البعض، حاكماً أو محكوماً، أنّ بعض الأهداف أو القيم قد تتقدم على بعضها، فيجعل حفظ أمن المجتمع مقدماً على حفظ أمن بعض الأفراد، دون أن يعي أنّ أي مجتمع في النهاية هو هؤلاء الأفراد، وأنّ العصمة العامة للمجتمع في حقوقه وحرياته لا تنفصل عن حقوق بعض أفراده، وأنّ السماح بالعدوان عليها بعيداً عن القانون أو الأخلاق أو الدستور، هو عدوان على أساس الشرعية السياسية والدستورية والأخلاقية.

مثل مجتمع المدينة المنورة التجربة الأخلاقية الأولى التي أراد النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، أن تكون الدستور الأخلاقي والسياسي للدولة، وحرص دستور المدينة على نفي أي عنصرية أو تمييز أو ظلم أو قهر أو عدوان على حقوق الناس، مهما اختلفت دياناتهم أو أعراقهم أو خلفياتهم.

أسس الإسلام لمفهوم كرامة الإنسان من حيث كونه إنساناً، كما أكد ذلك القرآن الكريم "ولقد كرّمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً".

وانطلاقاً من مركزية مفهوم كرامة الإنسان أكد الإسلام حضور قيم مركزية ينتصر لها، وتعمل الطقوس خادماً لإصلاح آلة العقل والقلب ليكون قادراً على التخلق بتلك السجايا أو الأخلاق أو القيم التي تكتمل وتتحقق بها إنسانية الإنسان.

اقرأ أيضاً: النبي الشاكّ والإله المتسامح

يقول صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فقد ولد الإنسان قبل أن تولد الشرائع وقبل أن تنزل الديانات، فحياته سابقة في الوجود لذا كانت القيم التي تضمنها الدين وحث عليها، طريقاً مكملاً للسعادة وليس للشقاء، للرفاه وليس العنت والمشقة.

وفي ظل طغيان المادة تبدو الحاجة ماسّة للتذكير ببعض قيم الدين التي تبرز جماله ويبدو معها أبهى كثيراً من واقعنا نحن المسلمين اليوم.

نريد أن نحرر من جديد ما نعتقد أنه ثوابت الدين الحقيقية وأخلاقه التي حث عليها وجعلها هي الدين، وصدق الرسول الكريم الذي قال "إن البر شيء هين وجه طلق ولسان لين"، ابتسم في وجه الخلق واجعل لسانك ليناً تكن من أهل البر المستحقين لرحمته ومعيته تعالى.

خلف تلك الحياة بضجيجها وصراعاتها يوم آخر وحساب نؤمن جميعاً أنه سيأتي، وعند الله تجتمع الخصوم فلا ييأسن أحد من عدل الله عز وجل.

أول قيمة أظننا بحاجة إلى استذكارها هي قبول الآخر واحترامه وحبه لكونه إنساناً، وهو ما نستطيع أن نسميه قيمة السماحة، والسماحة من الكلمات التي تأتي دائماً في معرض الحديث عن الإسلام باعتباره يقبل الآخر، والمصطلح يأتي مقابل كلمة التسامح لدى الغرب هذا المعنى الذي عرفته التجربة الغربية بعد قرون مريرة من التعصب الديني الذي أشعل أوار حروب متصلة أسالت الدماء المتدفقة.

لماذا السماحة وليس التسامح، رغم شيوع الثانية في الخطاب العالمي؟

أول قيمة بحاجة إلى استذكارها هي قبول الآخر واحترامه وحبه لكونه إنساناً

تبدو اللغة العربية هي الأغنى في مبناها ومعناها، وفي هذا السياق سنجد أنّ السماحة أفضل من التسامح؛ فالأولى خلق وسجية والثانية تخلّق وافتعال يحتاج إلى مران ومجاهدة؛ بمعنى آخر نقول: إنّ الثانية تأتي تمهيداً للأولى، السماحة فضيلة والتسامح تفضّل، وهي عطاء وخير من معانيها التساهل والحلم واحترام عقائد الآخرين في حال الحديث عن التسامح الديني.

وفى الحديث المشهور: "السماح رباح"؛ أي المساهلة في الأشياء تربح صاحبها، ويقال "الحنيفية السمحة"؛ أي التي ليس فيها ضيق ولا شدة.

في المعنى اللاتيني عند جون لوك وفولتير وفي كل معاجم الفلسفة والعلوم الغربية يأتينا لفظ التسامح، لكن لدينا تأتي السماحة التي تفيض بالحث عليها الآيات والأحاديث التي تؤكد على مركزيتها كقيمة حاكمة، قال تعالى في قرآنه الكريم: "لا إكراه في الدين"، "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين"، "فاصفح الصفح الجميل"، "ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور"، "ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون"، "فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر".

وفى الحديث  النبوي الشريف "من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يخير في أي الحور العين شاء".

اقرأ أيضاً: صلاح الدين..نموذج التسامح وقاهر الغزاة

وفي رواية الطبراني عن عبادة قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم "ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع الدرجات قالوا نعم يا رسول الله قال: تحلم على من جهل عليك وتعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك".

وعن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم "ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار، قالوا بلى يا رسول الله قال: كل هين لين قريب سهل".

لماذا نستحضر روح عمرو بن كلثوم في جاهليته حين قال: ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطيناً، وننسى كل تلك التعليمات الإلهية، التي حملتها لنا نصوص كتاب الله، عز وجل، وسنّة رسوله الكريم، التي توخّت أن تصوغ إنساناً متصالحاً مع كون الله وخلقه وليس جباراً يقتل باسم الله أو باسم السلطان.

فقط لنحدد أي سلطان سيحكمنا؛ سلطان الله وآياته أم سلطان النفس والهوى والشيطان.

 

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية