الغرب في مخيال الجماعات الإسلامية.. قراءة في الحالة الفصامية

الغرب في مخيال الجماعات الإسلامية.. قراءة في الحالة الفصامية

الغرب في مخيال الجماعات الإسلامية.. قراءة في الحالة الفصامية


31/01/2024

تمثّل عقلية الجماعات الإسلامية عقلية مغلقة، ترى كلّ جماعة منها أنّ تفسيرها للإسلام، يمثل حقيقة الإسلام، وأنّها تملك الصواب المطلق في هذا التفسير وهذه القراءة، ومن هذا المنطلق؛ فإنّ الجماعات الإسلامية تنطلق في موقفها من الآخر الغربي، من خلال نظرة استعلائية ترى أنّ الإسلام وحضارته أرقى من الآخر الغربي بحضارته، وأنّه من المستحيل أن يلتقي الإسلام مع هذه الحضارة، فيقول أبو الأعلى المودودي (1903-1979) عن الحضارة الغربية: إنّها "حضارة لادينية بحتة لا مجال فيها لمخافة إله من السماء عليم قدير، فكأنّ الإسلام والحضارة الغربية سفينتان تجريان في جبهتين متعاكستين، فمن ركب إحداهما هجر الأخرى، ومن أبى إلّا أن يركبهما في وقت واحد، أتاه معاً، وانشقّ بينهما نصفين"، لذا يرى المودودي استحالة التقاء الإسلام بالحضارة الغربية؛ لأنّها حضارة مادية، وهذا ينم عن موقف استعلائي يميل إلى تكفير الآخر المادي، باعتبار أنّ الإسلام وحضارته يملك الطريق الحق، فالمودودي يرى أنّ "الدين، في الحقيقة، ليس جزءاً من الحياة، إنّما هو الحياة بأسرها، وهو روحها الناطقة، وقوتها الدافعة، وهو الفهم والشعور، والوعي والفكر والنظر  والإدراك".

موقف الإسلاميين من الغرب ينطلق من خلال نظرة استعلائية ترى أنّ الإسلام وحضارته أرقى من الآخر الغربي بحضارته

ولقد سار سيد قطب على منوال المودودي، فرأى (أنّ الإسلام ليس هو أي مذهب من المذاهب الاجتماعية الوضعية، كما أنّه ليس أيّ نظام من أنظمة الحكم الوضعية، بشتى أسمائها وراياتها جميعاً، إنّما هو فقط الإسلام بشخصيته المستقلة، وتصوره المستقل للإسلام الذي يحقق للبشرية خيراً ممّا تحكم به كل هذه الأوضاع، الإسلام الرفيع المتناسق الجميل الصادر مباشرة من الله العلي الكبير)، ومن ثمّ يرفض سيد قطب أية مشابهة بين الإسلام وبعض الأنظمة، ويقول: نحن نرفض هذه الأنظمة في الشرق والغرب، نرفضها لأنّها منحطة بالقياس إلى ما يريد الإسلام أن يبلغ بالبشرية إليه.

ومن منطلق شمولية الإسلام رفض سيد قطب، كلّ ما هو دخيل على المنهج الإسلامي، وحكم على الحضارة الغربية بالجاهلية، سواء كانت شيوعية أو رأسمالية، ومن ثمّ فقد أصبح الفكر الأوروبي كله، شأن الفكر الجاهلي، في جميع الأزمان، وفي جميع البقاع مختلفاً عن مقومات التصور الإسلامي؛ بل ومعادياً في الوقت ذاته لهذا التصور، ووجب على المسلم أن يرجع إلى مقومات تصوره وحدها، ولا يأخذ إلا من المنهج الرباني، ويرفض قطب رفضاً شاملاً إمكانية أن ننظر إلى الغرب كمعلم وصاحب حضارة، كما نظر المصلحون الأوائل؛ أمثال الطهطاوي وخير الدين التونسي وغيرهم، وذلك لأنّ العلاقة القائمة بيننا وبين الغرب علاقة عداء خالصة، فيقول سيد قطب: إنّ "مناهج الفكر الغربي، ونتاج هذا الفكر في كلّ الحقول، يقوم ابتداء على أساس تلك الرواسب المسممة بالعداء لأصل التصور الديني جملة، فإنّ تلك المناهج، وهذا النتائج أشد عداء للتصور الإسلامي"، كما أنّه يرى أنّ اتجاهات الفلسفة الغربية، ومنتجات علم النفس، ومباحث الأخلاق كلّها نتاج هذا الفكر الجاهلي، ويجب رفضها، ويرى قطب أنّ الاتجاه التجريبي الذي قامت عليه الحضارة الصناعية في أوروبا لم ينشأ في أوروبا، لكنّه نشأ في الجامعات الإسلامية، فهو يريد أن ينسب الميزة الموجودة في هذه الحضارة إلى حضارة الإسلام.

 جوهر نظرة الإسلاميين للغرب أنّه ملحد وكافر فلا ينبغي التعلم منه أو النقل عنه لأنّه معادٍ للإسلام

ومن ثمّ؛ فإنّ آراء قطب والمودودي تنطلق من رفض إمكانية قبول التعلم من الغرب، ومن فكره ونظرياته؛ لأنّ الإسلام لديهم، كدين، مُكتف بذاته، وتجاهل هؤلاء مدى انفتاح الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، على تراث اليونان والفرس والهنود، ومدى نقل المسلمين لهذا التراث، لكنّ سيد قطب يدين هذا التأثر بتراث الحضارات القديمة؛ لأنّه أحدث خلطاً في المنهج الإسلامي الخالص، وهنا يتضح مدى العقلية المغلقة التي يحملها منظرو الجماعات الإسلامية في موقفهم من الحضارة الغربية، وتراثها وعلومها وفنونها.

إنّ جوهر نظرة الجماعات الإسلامية للغرب، أنّه مادي وملحد وكافر، ولا ينبغي أن نتعلم منه، أو ننقل عنه، لأنّه معادٍ للإسلام، وتركز الجماعات الإسلامية على البعد الاستعماري للحضارة الغربية، ويعيدون التذكير دوماً بالحروب الصليبية، والمجازر التي ارتكبها الأوروبيون في الأندلس، وممارسات المستعمر الغربي في العالم الإسلامي في العصور الحديثة، ولا شكّ في أنّ تلك الممارسات للغرب المستعمر هي ممارسات مرفوضة، لكنّ الجماعات الإسلامية لا تميز بين الغرب المستعمر، والغرب المعلم؛ صاحب العلم والفكر والحضارة، فالغرب ليس له صورة واحدة، لكن له صور متعددة؛ فالجماعات الإسلامية تنظر إلى الغرب على أنّه كتلة واحدة ينبغي رفضه وعداؤه، مثلما كان يعادينا، كما أنّه في حالة تآمر علينا في معظم الأوقات، ولا بدّ لنا من أن نحذر من مخططاته التآمرية ضدّ الإسلام وحضارته.

وتبدو النظرة الفصامية لدى الجماعات الإسلامية واضحة في وصمها الغرب بالمادية، متجاهلين أنّ هذا الطابع المادي للحضارة الغربية؛ هو نتاج العلوم والفنون والآداب، التي هي نتاج إبداع الروح الإنسانية، وتعبير عن مدى الحرية التي تسود في الغرب، وأن المنتج المادي نفسه ما هو إلا تجلٍّ للروح الإنسانية، فإنّ وسائل الاتصال، والأجهزة الطبية، والتقنيات المختلفة التي كانت نتاج نظريات العلم، هي التي حررت الجسد والروح من المعاناة والألم، وقصرت المسافات بين الإنسان والإنسان في مختلف أرجاء الأرض.

الطابع المادي للغرب هو نتاج العلوم والفنون والآداب التي هي من إبداع الروح الإنسانية وتعبّرعن الحرية 

إنّ أقطاب الجماعات الإسلامية أدعياء الروح مقابل الحضارة الغربية الكافرة، لم يكونوا روحانيين بالقدر الذي يستغنون عمّا أنتجته تلك الحضارة من وسائل اتصال وتقنيات، فشيوخ الجماعات يستقلّون أحدث السيارات، ويطلون علينا من أجهزة التلفزيون، ويمسكون أحدث الهواتف المحمولة بأيديهم، ويطلون علينا من شبكات التواصل الاجتماعي، إنّهم لا يتركون أيّة فرصة في أن يتنعموا بما أنتجه الغرب الكافر المادي؛ بل ويسخّرون هذه التقنيات كي يحشدوا الناس ضدّ الغرب الكافر، ويدعوهم إلى الزهد في الحياة، وتحمل الظلم والمشاق من أجل الجنة الموعدة.

ولا تتوقف هذه النظرة الفصامية لدى أعلام تلك الجماعات، في حالة مرضهم، أن يذهبوا إلى أوروبا لتناول العلاج في مصحّاتهم، وفي حالة تعرض بعض أعلامهم للقمع والاضطهاد داخل أوطانهم، يطلبون اللجوء السياسي في بلدان أوروبا، ويحصلون عليه كي يتنعموا بالحرية في أحضان الغرب الكافر، تلك الحرية التي عجزوا عن الحصول عليها في أوطانهم، وقد يتجه بعض أعضاء تلك الجماعات إلى ممارسة العنف والتفجيرات داخل تلك الأوطان، التي تُربَّى على العداء لها، ولم يغفر للغرب لديهم أنّهم من احتواهم حين طردتهم أوطانهم.

وينتهي معظم منظّرو الجماعات الإسلامية إلى القول، إنّ الحضارة الغربية على وشك الزوال، وإنّها لم تستطع أن تمنح البشرية القيم الروحية، ولذلك فإن المستقبل، في نظرهم، سيكون لسيادة الإسلام، وكلّ يوم نكتشف أن تفسير هذه الجماعات للإسلام، هو الذي يشوه صورة الإسلام في العالم، بل وتقدم هذه الحركات الإسلام على أنّه دين يحض على العنف، وإقصاء الآخر، وعدم المقدرة على التعايش، وذلك بسبب التفسيرات المرضية التي قدّمها منظّرو الجماعات الإسلامية للإسلام، وموقفه من الآخر.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية