الاحتفال بعيد الحب.. مؤشر على تعاف اجتماعي أم مجرد موسم تجاري

الاحتفال بعيد الحب.. مؤشر على تعاف اجتماعي أم مجرد موسم تجاري


14/02/2018

عيد الحب أو “السانت فالنتاين داي” أو عيد العشاق، يحل في الرابع عشر من شهر فبراير من كل عام كما هو معروف، لكن هذا الاحتفال لم يكن “معروفا” ولا شائعا بالقدر الذي هو عليه في السنوات القليلة الماضية في العالمين العربي والإسلامي. وربما يعود ذلك في رأي البعض من المتابعين والمهتمين إلى مرجعيته المسيحية، ذلك أنه يلتصق باسم قديس.

لكن الأمر يتجاوز هذا التفسير ويؤكد على أن لهذه المناسبة جذورا ومظاهر ضاربة في القدم بالنظر إلى ارتباطها بمواسم الخصوبة والزواج في الحضارات القديمة من جهة، ومن جهة ثانية فإن من إيجابيات مظاهر العولمة أنها قد محت الفوارق بين الثقافات وجعلت البشرية تتقاسم احتفاليات واحدة دون أن نسقط في الحسبان أهمية أن يفرض المتفوق ثقافته وعاداته على الطرف الأضعف.

أسباب كثيرة تقف وراء رفض أو تقبل هذه المناسبة التي يكاد يشترك فيها العالم برمته، خصوصا وأنها تحتفي بقيمة إنسانية لا تموت بل وإن العالم في أمسّ الحاجة إليها في هذه الأجواء المحتقنة وسط الحروب والنزاعات وتنامي موجات الكراهية والعنصرية. الكل يزعم ويدعي احتفاءه بالحب كقيمة خالدة، ويحاول تقريبها من عقيدته، لكن، وعند المحك، تبرز المتناقضات التي تصل حد تحريم الاحتفال بـ“عيد الحب” باسم المحبة نفسها، فقد نقلت وكالات أنباء منذ يومين أن باكستان حظرت أي تغطية إعلامية لمثل هذه الأحداث للسنة الثانية على التوالي، وذلك بعد أن قضت محكمة بأن احتفالات عيد الحب لا تتماشى مع تعاليم الإسلام. وأصدرت هيئة تنظيم الإعلام الإلكتروني في باكستان تحذيرا الأربعاء الماضي، لمحطات التلفزيون والإذاعة من بث أي نشاطات تتعلق بعيد الحب. وقالت الهيئة “لن يقام أي حدث على المستوى الرسمي أو في أي مكان عام”.

وفرضت محكمة إسلام أباد العليا الحظر العام الماضي، بعد دعوى من مواطن قال إن الاحتفالات مستوردة من الغرب و“تتنافى مع تعاليم الإسلام”.

ويمثل الشبان دون 30 عاما أكثر من 60 بالمئة من سكان البلد ذي الأغلبية المسلمة وتبنت المؤسسات التجارية في السنوات الأخيرة تقاليد عيد الحب المليئة بالقلوب والورود والشوكولاتة.

لكن البلد، الذي يبلغ عدد سكانه 208 ملايين، شهد أيضا نشاطا سياسيا كبيرا من جانب جماعات متشددة، الأمر الذي أثار ردود فعل عنيفة ضد هذه الاحتفالات التي يصفها البعض بأنها غير أخلاقية. ونظمت أحزاب سياسية دينية مثل جماعة علماء الإسلام المرتبطة بحركة طالبان في السنوات الأخيرة، تجمعات للتنديد باحتفالات عيد الحب التي تقام يوم 14 فبراير.

أما في الهند، فالحالة تبدو على النقيض تماما، إذ تعتبر من أكثر دول العالم احتفاء بـ“السانت فالنتاين”، وانطلقت مظاهر الاستعداد للاحتفال بعيد الحب 2018. وبدأ العشرات من البائعين في تجهيز الورود الحمراء، وتصنيع مجسمات القلوب استعدادا لبيعها خلال الاحتفال بهذا اليوم.

وفي ذات الاستعدادات لاستقبال المناسبة، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي في تونس، بمقطع فيديو، مثير للجدل لشابة تونسية من مدينة صفاقس، وهي تتقدم فيه لخطبة صديقها وسط مجموعة من أصدقائهما، فقد ظهرت الفتاة وبكل جرأة معبّرة عن حبها لصديقها في وقت وقع فيه الشاب تحت تأثير الحركة الدرامية لصديقته، وعقب احتضانها له جثت الشابة على ركبتيها مخرجة علبة حمراء تحوي خاتم الخطوبة في إشارة منها إلى طلب يده.

وتتصف ردود الفعل بالتناقض على مستويات مختلفة وحتى بين المحتفلين أنفسهم، فهذا الشاب يحتفي بالحب وفي نفس الوقت لا يحتفي بعيد الحب، وتلك الفتاة تلتزم بكل المظاهر المعروفة ليوم “السانت فالنتاين”، لكنها في نفس الوقت تشكو غياب الحب وخلوّ هذا العالم منه.

وحدها الأرقام تؤكد تقدم أو تراجع الاحتفال بهذه المناسبة في العالم، إذ تؤكد الرابطة التجارية لناشري بطاقات المعايدة في الولايات المتحدة الأميركية أن عدد بطاقات عيد الحب التي يتم تداولها في كل أرجاء العالم سنويا يبلغ حوالي مليار بطاقة؛ الأمر الذي يجعل هذا اليوم يأتي في المرتبة الثانية بعد عيد الميلاد من حيث كثرة عدد بطاقات المعايدة التي يتم تداولها فيه.

وفي كل عام، أصبح الملايين من الناس يستخدمون الوسائل الرقمية لتصميم وإرسال رسائل المعايدة الخاصة بعيد الحب، والتي تأخذ شكل البطاقات الإلكترونية أو كوبونات الحب المصوّرة التي يتبادلها المحبون أو بطاقات المعايدة التي يمكن إعادة طبعها.

حالة مركبة وهجينة

اللافت أن غالبية المعترضين على احتفالية عيد الحب يأتون من فئات عمرية متباينة وطبقات اجتماعية مختلفة إلى حد التناقض. كما أن هؤلاء يسوقون تبريرات وذرائع متضاربة، فتحضر الاعتبارات المالية والثقافية والاجتماعية والدينية وحتى النفسية والذاتية. هذا بالإضافة إلى وجود اختلاف واضح بين بلد وآخر داخل العالم العربي مع إشارة لا بد من تسجيلها، وهي أن المجتمعات العربية التي تحتوي على مكونات دينية وإتنية مختلفة، تكثر فيها مظاهر الاحتفال بعيد الحب أكثر من المجتمعات ذات الغالبية المسلمة.

وتفسيرا لهذه الملاحظة يرى عزالدين العامري، أستاذ الاجتماع في جامعة تونس في حديثه مع “العرب”، أن الأمر طبيعي وبديهي إذا نظرنا بأن المناسبة في حد ذاتها هي من صلب الثقافة المسيحية، إضافة إلى أن المكون المسيحي في بلدان المشرق العربي أكثر اطلاعا والتصاقا بأنماط العيش الغربية.

وقالت آمال (40 عاما) وهي عزباء، بلغة غاضبة “هل يقتصر الحب على يوم واحد في السنة؟ هل أنا بحاجة إلى يوم ليذكرني بأن أشتري هدية أو أعبر عن حبي؟ ماذا لو احتفلت بذلك قبل عيد الحب بيوم؟ لا أجد تفسيرا منطقيا لذلك، ما دمت سوف تجد حتما في كل يوم طريقة للتعبير عن حبك”.

ويقول عمر (35عاما) “لا أفهم حقا ما الذي يحدث للفتيات والشباب من 7 وحتى 14 فبراير؟ يبدأون بالتلميح باقتراب عيد الحب، وتبدأ علب الشوكولاتة والورود الحمراء والدببة الصغيرة والبالونات بالظهور على وجهات المحلات فجأة”.

ويضيف عمر الأعزب والموظف “تبدأ العروض التجارية والترويجية بالظهور لشراء ما يلزم وما لا يلزم بحجة الاحتفال بعيد الحب.. بصراحة هذا العيد مجرد وسيلة تجارية لتسويق المنتجات والحصول على نقود الشباب والمراهقين وحتى الكبار أيضا”.

ويتدخل أكرم، “أشعر بالاشمئزاز عندما أرى أصدقائي يتحدثون عن عيد الحب بالكثير من الحماس وكأنه عيد ميلادهم (..) رائحة الورود أو أصناف الشوكولاتة على شكل قلوب تجعلني أشعر بالغثيان”.

أما حمودة صاحب كشك لبيع الورود بالقرب من المقهى الذي يجلس فيه عمر وصديقه وسط العاصمة التونسية، فيعلق على كلام الصديقين بقوله “أتفهم وضعية الشباب وقلة ذات اليد في هذه الأيام التي يتذمر فيها الجميع من الغلاء، ولكن هذا ليس سببا لإلغاء أو إدانة هذه المناسبة اللطيفة.. ونحن في مهنتنا هذه نعتمد على المناسبات لكسب رزقنا”، ويعقب حمودة مبتسما “أنا بصراحة لا أحتفل بهذه المناسبة لكن الناس أذواق.. اللّهم أدم الأفراح بعد أن أفتى بعض رجال الدين بتحريم الزهور في الجنائز وفي مناسبات عديدة أخرى”.

ويسوق المتشددون من رجال الدين في معرض وقوفهم ضد هذه الاحتفالية العديد من المبررات، وفي هذا الصدد يقول محمد الشحات، أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر، إن الاحتفال بعيد الحب بدعة وأمر دخيل على المجتمعات العربية لأنه يتبع الثقافة الغربية، ولا يمكن أن نجعل للحب والعواطف عيدا نتبادل فيه الكلمات العاطفية والهدايا لأن ذلك “محرم” ومرفوض في الإسلام، ويشجع الشباب على الاهتمام بالمناسبات الاجتماعية أكثر من اهتمامهم بالأعياد الدينية.

وأضاف أن الشاب أو الزوج عندما يستقطع من ماله الكثير لشراء هدية بدعوى أن ذلك “فرض عين” في ذكرى عيد الحب، فإنه ارتكب خطأ سوف يحاسب عليه، واصفا الداعين للاحتفال بهذا اليوم بأنهم يروجون للأفكار الليبرالية المتحررة التي تمثل خطورة على المجتمع وصلابته وتماسكه وتبعد الناس عن الأمور الشرعية.

وتوعز الفئة، التي توصف بالعريضة نسبيا، في اعتراضها على الاحتفال بيوم السانت فالنتاين، الأمر إلى سببين: الأول يمكن أن نطلق عليه بأنه سبب معرفي ويتعلق بفكرة أن الحب لا يحتاج إلى يوم بعينه كي نعبر فيه عن مشاعرنا، ولا يمكن بالضرورة أن يكون بين ذكر وأنثى.

السبب الثاني برأي هذه الفئة فإن الحب لا يحتاج إلى هذه المظاهر من الاحتفال والتي تستنزف الجيوب في أوقات الضيق وتجعل الحب أمرا لا خصوصية فيه، يقاس بقيمة الهدية ويجعله سلاحا مسلطا ضد الفقراء بعد أن كان سلاحهم الدفاعي الوحيد والمشروع.

وفي هذا الصدد يقول كريم ( 28عاما) عامل في محطة بنزين “في عيد الحب تتغير الفتيات، ويصبحن لحوحات جدا، فهن يرغبن في إثارة غيرة صديقاتهن، والضحية هو الرجل، فهن يرغبن في أغلى هدية، وأفخم المطاعم، وأكثر الليالي رومانسية.

احتفالية مبهجة ونبيلة

يتفق الجميع على أن الحب هو قمّة القيم الإنسانية التي تلتقي عندها شتى الثقافات والعقائد وتتمحور حولها الإبداعات البشرية، لذلك فليس الغريب أن يُحتفى بالحب بل الغريب والهجين والمستوحش ألا يقام للحب عيد يختصر في يوم واحد، يوم تنتفي فيه جميع الخلافات والفوارق، وينتصر فيه للحب وحده.. ولا شيء غير الحب.

البحث في الميثيولوجيا والأسطورة من أجل إقامة احتفالية للحب، ليس إلا ذريعة مشروعة نحو تخليد قيمة الحب في المشاعر والعلاقات الإنسانية. أما انتقاد منظومة الطقوس والنشاطات الاحتفالية كالهدايا وغيرها فهو ضرب من القصور المعرفي والعجز على إدراك الأبعاد الرمزية في الاحتفاء بهذه القيمة الإنسانية الخالدة.

وفي هذا الصدد يذكر الباحث والأكاديمي التونسي الشريف المبروكي لـ“العرب”، بتعريف إرنست كاسيرر، فيلسوف الرمزية الأكبر، في قوله “الوظيفة الرمزية نشاط خلاق للروح، وليست مجرّد إعادة إنتاج لواقع أولي وسيرورة بنائه في نسق علامات دالة، لا تشتق من شيء آخر غير النشاط المبدع للروح”، ويعلل المبروكي ضرورة وجود وإيجاد حالة احتفالية بالحب متمثلة بمجموعة مفردات رمزية بقوله “إنّ الواقع الأوّلي لا يسبق في الوجود الأشكال الرمزية، لأنّها ليست انعكاسا لواقع موجود من قبل باستقلاله عنها، بل على العكس من ذلك، يصبح الواقع قابلا للتعقّل والفهم بفضل الأشكال الرمزية.

فكما تخرج اللغة الأشياء من الركام والتلاشي، يعقل الرمز العالم ويخرجه من السديم والغفلة، وقبل ذلك يكون العالم محتجبا وخارج التجربة الإنسانية”.ولأن الأشياء من مأتاها لا تستغرب، كان من المتوقع أن ترتفع أصوات الأصوليين والتكفيريين والجهاديين بتحريم الاحتفال بعيد الحب تحت ذرائع مختلفة، أبرزها أنه ليس من جوهر الدين في شيء.

وردا على هذه الادعاءات التي استنكرتها فئات اجتماعية مختلفة رغم عدم حرص الكثير منها على الاحتفال بهذه المناسبة، وبالطقوس والعادات الغربية المألوفة، تقول آمنة نصير، أستاذة العقيدة والفلسفة الإسلامية بجامعة الأزهر، إن الاحتفال بعيد الحب “حلال” ولا عيب في ذلك، لأنه يذكّر الناس بالمودة والمشاعر الإنسانية والعاطفة والغريزة الحسنة ويجعلهم متقاربين من بعضهم، ويدفعهم نحو السعادة وحب الحياة والقيام بأعمال مبهجة لهم ولأحبائهم مثل تبادل الهدايا والتعبير عن الحب.

ووصفت نصير في تصريح لـ“العرب”، الفئة التي تحرّم الاحتفال بعيد الحب عبر فتاوى منسوبة للإسلام بأنهم متشددون ومتطرفون، لأنهم جعلوا أنفسهم أوصياء على الناس ومتحدثون باسم الدين، ويتعاملون بقسوة مع كل الداعين إلى الحب، وهذه صفات لا علاقة لها بالدين ولا الشريعة الإسلامية.

وأوضحت إن كون هذه المناسبة هي تقليد اجتماعي راسخ فإنها لا تخضع للحرام والحلال من أي جهة كانت، شريطة أن تكون بعيدة عن السلوكيات التي يلفظها المجتمع بعاداته وتقاليده الراسخة.

وتزايد الاحتفال في العالم العربي بهذا اليوم العالمي المخصص للحب في معناه النبيل، هو دليل على الانخراط الإيجابي للمجتمعات العربية في الحضارة الإنسانية الحديثة والتي تبشر رغم كل الصعاب، بمستقبل أكثر سلما وأمانا، ذلك أن لا سبيل لمحـاربة الشر والكـراهية إلا بالحـب والتسامح.

فيما الانتقادات الموجهة لهذه الاحتفالية التي بدأت تأخذ لها مكانا في تقاليدنا، لا تعدو أن تكون طبيعية، ومن التبعات التي يمكن توظيفها وترشيدها نحو المسار الصحيح.

والمقصود هنا بالتبعات هي الأعباء المالية ومظاهر الكلفة والتكلّف التي يكابدها الفرد، لكنه ينبغي التنبّه إلى أن هذه الاحتفالية ـ ومثلها مثل كل المناسبات ـ تخلق حركة في الأسواق وتحرك بعض المهن في جو من الفرح والوئام.

وهذه الاحتفالية في مجملها تظل أقل وقعا وأكثر لطفا من مناسبات أخرى تثقل كاهل الجيوب (وحتى القلوب) دون أن تحدث آثارا طيّبة في النفوس، ولعل استبدال مناسبة أخرى بعيد الحب من شأنه أن يختصر مجمل المشاعر الإنسانية بعبارة واحدة اسمها الحب، برمز واحد اسمه الوردة وبلون واحد هو الأحمـر، لـون كل ما هـو زكي وطاهر ونبيل.

ويكفي أن نستحضر إحدى الأساطير التي ارتبطت بنشأة عيد الحب كي ننتصر للحب ضد الإرهـاب وتسفير المقاتلين إلى بؤر التوتر.

حكيم مرزوقي-عن"العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية