"IQ" هل هو مقياس لذكائنا أم لغبائنا البشري؟

"IQ" هل هو مقياس لذكائنا أم لغبائنا البشري؟

"IQ" هل هو مقياس لذكائنا أم لغبائنا البشري؟


13/06/2021

يشكّل سؤال المعنى سؤالاً حاسماً في الوجود البشري؛ إذ لا يمكن للوجود أن يكون وجوداً بلا معنى، هذا على الأقل ما يعتقد به الجميع، بالطبع إذا استثنينا العبثيين والعدميين وأصحاب النزعة التشاؤمية، ومن الجيد أنهم لا يشكّلون سوى استثناء ضئيل للقاعدة: إنّ لوجودنا معنى.

وقد تختلف الإجابات عن معنى الوجود - بالنسبة لمن مازال يهمّه ويعنيه السؤال- لكن جميع الإجابات تتفق على أنّ هناك معنى ما على الأقل، يبرر هذا الوجود للكثير ممن باتوا يشككون به، طالما أنهم لا يلمسون فيه سوى اغترابهم وانحسار إنسانيتهم.

قياس"IQ"  العالمي للذكاء، ما هو إلّا الوسيلة المعتمدة عالمياً لتعميم نوع محدد من الذكاء، واعتباره المقياس العام لكفاءة الأفراد وقدراتهم

إذا كان اللامعنى يتأصل في شعور الإنسان باغترابه عن عالمه وعن ذاته، فهذا يترتب عليه إعادة النظر بالكثير من المفاهيم التي شكّلت عبر تطورها التاريخي حدود مجتمعاتنا وأفقها، وأيضاً يترتب عليه البحث عن الإجابة في مكانٍ مختلفٍ، في المكان الذي أتاح للكائن البشريّ أن يصبح كائناً مميزاً، وهو ما يتمثل في امتلاك الذكاء؛ إذ ساهم الذكاء في جعل الإنسان وصيّاً على العالم، ولكن هذا أيضاً تفنّده الجملة العالميّة الشائعة، والتي يندّ عنها  يأسٌ عميق وشاملٌ بالوجود: (ما هذا العالم الذي نعيش فيه)!. فإذا كانت وصايتنا هي ما جعلت العالم على ما هو عليه، فهذا لأنّ ما اعتقدنا أنه الذكاء، قد غررّ بنا وقذفنا إلى الحماقة.

اقرأ أيضاً: هل الاغتراب النفسي طارئ على حياة أطفالنا؟

بالنظر إلى ما قاله "فرناندو بيسوا": "نعذّب إخوتنا البشر ببغضنا، بحقدنا، بخبثنا، لنقول بعد ذلك: (العالم مكانٌ سيئ)"، علينا أنّ ندرك الإشارة الواضحة لمصير العالم الذي نعيش فيه، فالعالم مكان سيئ ليس لأن "بيسوا" قرر ذلك، بل لأنّ النوايا التي يضمرها البشر في إطار الرغبة العارمة بالسلطة والثروة، جعلت من الذكاء الذي يجب أن يوظّف لخدمة الحياة، يوظف في الحقيقة لخدمة العدم، إننا نستثمره في البغض والحقد والضغينة، بالطبع هذا الذكاء المتنامي قد ضاعف الإنتاج البشري، كما ضاعف الطموحات المشرقة للثروة وآفاقها الحالمة، لكنه ساهم في الجانب الآخر، ليس فقط في تدمير علاقة الإنسان بمحيطه، بل وفي تدمير علاقة الإنسان بنفسه وبالإنسان.

اقرأ أيضاً: كيف أصبح الشأن الخاص مشاعاً في مجتمعاتنا؟

بعد دراسة معمّقة قام بها البرفيسور"هاورد غاردنر" استمرّت لـ 15 عاماً، خلص إلى أنه هناك ما لا يقل عن 9 أنواع من الذكاء: "الذكاء البصري، الذكاء اللغوي، الذكاء المنطقي، الذكاء الوجودي، الذكاء الموسيقي، الذكاء الطبيعي، الذكاء الداخلي، الذكاء الشخصي، الذكاء الجسدي"، وهي تأتي بخلاف الاعتقاد الشائع أنّ للذكاء نوعاً واحداً فقط يعتمد على التواصل اللغوي والتفكير المنطقي، يتم قياسه باختبارات "IQ" الشهيرة، لذلك يشير "غاردنر"، إلى أنه يجب قياس ذكاء الإنسان بكل أنواع الذكاء، حيث لا يوجد نوع أفضل من الآخر، هذا بدوره يشكّل إدانة مضمرة في خلاصة "هاورد غاردنر" لمقياس "IQ" للذكاء، الذي يدعم جانباً واحداً من الذكاء، وهو ما يمكن استثماره في تحقيق المصالح الكبرى للقوة المهيمنة.

اقرأ أيضاً: ما معنى "نحن لا نحلّ ولا نربط"؟

كان الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب يتبجح بمعدّل ذكائه الذي صرّح في مناسباتٍ مختلفة أنّه يفوق معدّل ذكاء الرئيسين السابقين باراك أوباما وجورج بوش الابن، ومعدّل الذكاء الذي لم يكشف ترامب عن نسبته، هو ما دفع "فرانك لوليس" أخصائي علم نفس في جمعيّة "منسا" لذوي معدلات الذكاء المرتفعة ليقول: "إن هذا الادعاء لاشيء، فلو ضربنا مثالاً بشخص نعتبره عبقرياً مثل أينشتاين، فربما لن يحصل على درجات جيدة في اختبار الذكاء لأنه يفكّر خارج الصندوق".

اقرأ أيضاً: ماذا فعلت بنا ثقافة الكمّ؟

وما يختبئ وراء ما قاله "لوليس" هو أنّ مقياس"IQ"  العالمي للذكاء، ما هو إلّا الوسيلة المعتمدة عالمياً لتعميم نوع محددٍ من الذكاء، واعتباره المقياس العام لكفاءة الأفراد وقدراتهم، وهذا ما يدفعنا للتساؤل: هل هذا التهميش المتعمّد لأنواع الذكاءات الأخرى، هو ما جعلنا أذكياء بما يكفي لنمتلك قدرات وإمكانات هائلة يمكن لها أنّ تدمر الحياة على الأرض برمّتها؟ 

لقد تم استلابنا لحظة تهميش وإقصاء الذكاءات الأخرى، التي لو رافقت خطانا ربما لما وصلنا إلى أنّ "العالم مكان سيئ"

إنّ الأنظمة الاجتماعيّة كافةً بما فيها مجتمعاتنا تنتهج هذا التعميم الضيّق والمحدود للذكاء، حيث يبدأ التأسيس له منذ مراحل النمو المبكّرة في الأسرة، لتكمل المدرسة وتعمّق هذا النهج، الذي يقيّم الذكاء تقييماً تعسفياً وفق معايير الـ "IQ"، ممّا يؤدي إلى تراجع أنواع الذكاءات الأخرى واضمحلالها أمامه، حيث تصبح الدرجة الامتحانيّة هي المحدد الفعلي لإمكانات الطفل، وتصاغ كافة تطلعات الأسرة والمجتمع حولها، وهذا بالطبع ما يشجّع على العلاقات التنافسيّة والإقصائيّة التي سيخرج من رحمها التطرّف عاجلاً أم آجلاً، بالطبع منذ نعومة أظفار أطفالنا ونحن نترصد نبوغهم ونتوقعه، (يستطيع طفلي العد حتى العشرة، يجيد الكثير من الكلمات الإنجليزيّة، إنه يعرف الكثير من عواصم العالم)، بينما يوماً إثر يوم، تبدأ الهشاشة والعجز برسم طريقه.

درجات الذكاء على مقياس IQ تزداد جيلاً بعد جيل، هذا ما يخبرنا به العلماء، نعم إنّه الذكاء الذي بتنا بفضله قريبين من جحيم نوويّ أو إيكولوجيّ، يستطيع واحدٌ منهما فقط، إغراق الحياة وإلى الأبد في هوّته المظلمة، إنه الذكاء الذي يقود إلى انحطاط أخلاقي وإنساني، الوجه الآخر لسلطة تقصي وتهمّش وتستلب، فقد تم استلابنا لحظة تهميش وإقصاء الذكاءات الأخرى، التي لو رافقت خطانا ربما لما وصلنا إلى أنّ "العالم مكان سيئ"، وربما كنّا أكثر منطقيّةً وتعقّلاً، ولنجحنا أن نترك العالم لأبنائنا، أفضل ممّا تركه آباؤنا لنا.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية