هجمات “داعش” بالبادية السورية.. محاولات لإعادة تموضع ومساع لعودة أكثر توحشاً

هجمات “داعش” بالبادية السورية.. محاولات لإعادة تموضع ومساع لعودة أكثر توحشاً

هجمات “داعش” بالبادية السورية.. محاولات لإعادة تموضع ومساع لعودة أكثر توحشاً


11/03/2024

سامح إسماعيل

تتصاعد وتيرة الهجمات التي تنفذها عناصر تنظيم “داعش” الإرهابي في البادية السورية، مؤخراً، ومع زيادة الأحداث والطفرة التي تشهدها تحركاته الميدانية لاستهداف المدنيين وبعض العناصر الأمنية والعسكرية سواء من قوات الحكومة في دمشق أو “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا، فإن مراجعة هذه الحوادث تؤكد أن انحسار التنظيم الإرهابي وهزيمته العسكرية وتلاشي وجوده الجغرافي الذي عُرف بـ”دولة الخلافة” المزعومة، يحتاج إلى تصفية جيوبه والتي ما تزال تنشط وتقوم بتفريغ هذه “الذئاب المنفردة” التي لا تكفّ عن شنّ الهجمات المباغتة وتحقيق خسائر.

غير أن الأمر الآخر اللافت هو قدرة فلول التنظيم الإرهابي الذي سيطر على مساحات شاسعة في سوريا والعراق قبل هزيمته في آخر معاقله عام 2019 على يد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على التموضع الميداني من جديد، وهو مؤشر آخر على إمكانياته في التجنيد والاستفادة البيئية التي تشكّل له فرصة للانتشار أو إعادة تنظيم صفوفه.

والبيئة هنا بمعنى الجغرافيا والسيولة الأمنية، فضلاً عن مرجعيتها الثقافية التي تحتاج إلى تعديلٍ ونبذٍ للأفكار المتشددة وتصفية القيم التقليدية التي تجعل الفرصة مواتية لعناصر جُدد من الإرهابيينَ.

بالتالي، فإن الهجمات المتكررة لا تبدو صورة خارج الأنساق المعهودة للتنظيمات المسلحة والإرهابية التي تتعرض لهزيمة عسكرية تؤدي لتراجعها وتشتيت عناصرها، كما أن تحذيرات “قسد” ونداءاتها المتكررة لاستكمال مهام محاربة “داعش” تجعل العمليات الإرهابية متوقّعة، حيث إن التنظيم له خلايا ما تزال تعمل في الخفاء وبسرّية وتعتمد استراتيجية الكمون. بل إن عناصره المتشددة والإرهابية داخل المخيمات التي تسيطر عليها القوات الكُردية كما في مخيم “الهول” هم عبارة عن قنابل متفجرة وألغام بمقدورها وضع الأطراف كافة والقوى المحلية والدولية والإقليمية على الحافة. إذ إن الوضع المائل من دون حسم يجعل البيئة السياسية والأمنية قلقة ويجعل فرص الإرهاب الداعشي في تزايد.

“داعش” ومحاولات إعادة التموضع

سبق للناطق الرسمي بلسان “قسد” سيامند علي، أن أكد اعتقال عناصر من تنظيم “داعش” في مدينة الحسكة شرق سوريا، وقد كشف عن تقديراته بخصوص أعداد عناصر التنظيم على الأراضي السورية والتي تبلغ نحو 10 آلاف مقاتل من “داعش” يعملون بشكل غير معلن وفق تقديراته.

وقال علي، إن الدلائل والشعارات توحي بأن التنظيم بدأ عمليات فردية وجماعية لاستهداف القوات العسكرية ووجهاء العشائر وحتى الموظفين في “الإدارة الذاتية”. وصرّح علي في شباط/ فبراير الماضي أن التنظيم ما زال قادراً على القيام بجرائم إرهابية، لافتاً إلى أن عمليات قواته المضادة للتنظيم تشير إلى أن “داعش” بدأ بجمع صفوفه.

تزامن تصريح الناطق الإعلامي باسم “قوات سوريا الديمقراطية” مع تقرير “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، والذي ذكر أن التنظيم المصنّف على قوائم الإرهاب تسبّب في مقتل ما يزيد عن 100 مدني وعسكري في سوريا، وذلك إثر تنفيذ نحو 50 عملية منذ مطلع العام الحالي. وقال إن تلك الخلايا تعتمد على تكتيك الهجمات المباغتة وزراعة الألغام لإيقاع القتلى ضمن صفوف قوات الجيش السوري والمسلحين الموالين لها، بالإضافة إلى تسبّبها بمقتل مدنيين خلال هذه الهجمات.

نهاية آذار/مارس عام 2019، نجحت “قوات سوريا الديمقراطية” في كتابة الفصل الأخير من هيمنة التنظيم الإرهابي على مناطق شمال وشرق سوريا، بمجرد تحرير آخر معاقله في منطقة الباغوز، المتاخمة للحدود السورية العراقية. لكن التنظيم الذي اتخذ لنفسه شعار “باقٍ ويتمدد” ليبعث الخوف في صفوف العالم وينشر الرعب بينما يلقي الدعاية لحواضنه، لم ينجح في التمدد وفشل في البقاء، ومن ثم، يسعى بكل طاقته الاستفادة من البادية السورية بجغرافيتها الممتدة والشاسعة لتكون نقطة مركزية في انطلاق عملياته الإرهابية، ومحاولة توسيع أنشطته الأمنية ووجوده العسكري، فضلاً عن التموضع الميداني وإعادة تشكيل هياكله الأمنية والعسكرية.

وبالرغم من عدم وجود أعدادٍ معروفة لعناصر التنظيم في وسط سوريا والبادية الشرقية إلا أنهم يُقدّرون بثلاثة آلاف مقاتل. في حين تعاني تلك المنطقة من وضع اقتصادي مزري، فإن التنظيم يعتمد على موارد مالية عدّة أبرزها فرض الضرائب و الأتاوات على السكان المحليين والتجار وكذلك الغنائم التي يستولي عليها من خلال نصب الكمائن ضد عناصر قوات الحكومة السورية بالإضافة إلى استفادة تنظيم “داعش” من مخزونه من المال والسلاح عندما كان في أوج سيطرته أعوام 2016 -2017، وفق “معهد واشنطن” لسياسات الشرق الأدنى.

ولفت المعهد الأميركي إلى أن جغرافية مناطق انتشار “داعش” الحالية في سوريا تشكّل عامل قوة للتنظيم تمكّنه من إعادة تنظيم نفسه، حيث يستفيد من غياب أي إرادة عسكرية حقيقة لمكافحة التنظيم في تلك المناطق. فهذه المنطقة إما خالية من أي قوة عسكرية محلية أو مشغولة من قبل قوات السلطة في دمشق وحلفائها مثل روسيا وإيران وهذه القوات تسعى لتأمين وجودها ومصالحها الاقتصادية على الطرقات الرئيسية المؤدية إلى الحواضر الأساسية مثل مدن دير الزور وحمص ودمشق ولا تبدو مكافحة التنظيم من أولوياتها على المدى المنظور.

وأضاف المعهد الأميركي، “تساعد أيضاً التضاريس المعقّدة من صحراء وجبال، تنظيم داعش في عمليات التمويه والاختباء وكذلك في إنشاء معسكرات التدريب العسكري والأيديولوجي المتطرف. كما يسمح هذا الموقع لداعش بالحفاظ على خطوط الدعم الخارجية في كلٍّ من العراق وتركيا وتفعيل مصادر الدعم اللوجستي من داخل سوريا. وانفتاح جغرافية الصحراء السورية الوسطى إلى الصحراء العراقية وصولاً إلى جبال حمرين ومناطق مخمور العراقية، يُمكن داعش من تفعيل شبكات التهريب بسهولة وتوفير الدعم اللوجستي له في سوريا”.

تهديدات استراتيجية خطيرة!

تقديرات “معهد واشنطن” لا تختلف عن التحذيرات التي تطلقها “الإدارة الذاتية” بين الحين والآخر، وتبدو المقاربة واحدة، حيث إن الإدارة في شمال شرقي سوريا، تصرّ على أن “داعش” رغم هزيمته العسكرية إلا أنه يشكّل تهديدات استراتيجية في ظل شروط عديدة تجعله قائماً بمخالب عديدة، لا سيما أن هناك إلى جانب البيئة الجغرافية والسياسية والأمنية وفقدان الردع العسكرية، البيئة الاجتماعية والثقافية التي تتوافر من خلال التنظيمات المماثلة في الفكر والأيدولوجيا لـ”داعش”، بإرادة تركية وفي مناطق نفوذها شمال غربي سوريا وفي إدلب. وهي جماعات كلّها تعتنق الفكر السلفي الجهادي القائم على معادلة التكفير والعنف، والقتل باسم المقدس، وأنهم النسخة الوحيدة من الإسلام الصحيحة والسليمة التي يتعين تطبيقها قسراً.

بل إن فصائل ما يُعرف بـ”الجيش الوطني السوري” في شمال غرب سوريا، والمدعومة من أنقرة، جميعها تحمل فكر تنظيم “القاعدة” الإرهابي، إلى جانب عناصر هم بالأساس من فلول “داعش” وقد تمكّنوا من الهرب والانتماء لجسم تنظيمي عسكري آخر يوفر لهم امتيازات جديدة ويتم تأدية نفس المهام. ولا يخفى على أحد أن “هيئة تحرير الشام” والتي هي “جبهة النصرة” سابقاً تاريخها المتنقل بين “داعش” و”القاعدة” يبدو معروفاً ومعلناً.

وبالعودة لـ”معهد واشنطن”، فيقول: “لتسهيل عودته مرة أخرى، يقوم التنظيم حالياً بتطوير هيكليات أمنية (ولايات أمنية) تنطلق من الصحراء السورية وتنتشر على شكل خلايا أمنية تنشط في مناطق مختلفة من سوريا وبالأخص في أرياف كلٍّ من دير الزور والرقة والسويداء. وتكمن مهمة التنظيم عبر هذه الخلايا بضرب قيادات الحكم المحلي في شرق الفرات والعمل على بثّ الرعب بين العشائر العربية هناك لضمان عدم الانضمام إلى صفوف “قوات سوريا الديمقراطية” وكذلك لتأمين شبكات التهريب لجلب العناصر الجدد إلى الصحراء السورية.

“العودة بصورة أكثر توحّشاً”

وقبل نحو يومين، أعلن “المرصد السوري” مقتل 18 شخصاً بينهم 4 من عناصر “الدفاع الوطني” وإصابة 16 آخرين وفقدان أكثر من 50 شخصاً، في هجوم شنّه مسلحون، يرجّح أنهم تابعون لخلايا تنظيم “داعش”، في بادية كباجب بريف دير الزور الجنوبي. وقال المرصد إن هؤلاء حوصروا في المنطقة، أثناء جمع مادة “الكمأة”، حيث جرى استهدافهم بالأسلحة الرشاشة. ولفت إلى أن اشتباكاتٍ عنيفة اندلعت إثر ذلك بين خلايا التنظيم وعناصر “الدفاع الوطني”، تخللها حرق 12 سيارة في مكان الاشتباك.

وحول خطورة التنفيذ، فإن مراجعة نشاط التنظيم من الناحية الكمّية، تجعل المخاطر تبدو واضحة ومباشرة، والتحدّيات مُلّحة، خاصة على المناطق القريبة والمتاخمة من شمال شرقي سوريا والتي تبدو طاقتها الأمنية ستعاني من نزيف متواصل يثبط قدرتها على التنمية والاستقرار. ويقول “المرصد السوري” في تقرير نهاية العام الماضي، إن التنظيم نفّذ حوالي 336 عملية في مناطق حكومة دمشق و”الإدارة الذاتية”، وقد أودى ذلك بحياة نحو 700 شخصاً من المدنيين والعسكريين. فيما اعتبر أن التنظيم الإرهابي يسعى من خلال عملياته التي شهدت قفزة لافتة عام 2023 إلى بعث رسائل مفادها “أن التنظيم سيظل باقياً”.

وتابع المرصد الحقوقي، إن “داعش نفّذ 165 عملية ضمن مناطق الإدارة الذاتية حيث تتواجد قوات سوريا الديمقراطية، عبر هجمات مختلفة: اغتيالات بإطلاق الرصاص، القتل بأدوات حادة، زرع عبوات ناسفة وألغام. وأسفرت هذه الهجمات عن مقتل 120 شخصاً في مناطق الإدارة الذاتية بينهم 26 مدنياً، والباقي من قوات سوريا الديمقراطية وقوى الأمن الداخلي”.

في المحصلة، الحادث الأخير الذي نفّذه “داعش” أو ما سبقه من حوادث مماثلة، يشكل صورة عن وضع التنظيم الذي ما زال يؤدي عدة أدوار ويستفيد من جملة أوضاع ويتحرك في داخل جيوب وحواضن توفّر له الملاذات الآمنة والقدرة على التّخفي والعمل من دون تهديد أو تعقّب وتضييق. فالناحية التنظيمية قد تعرّضت لضربة لم تكن هيّنة، وتلاشي الدولة المزعومة بعد استفحال الخطر كان لحظةً قاصمة، إلا أن الخبرات الحركية التاريخية للجماعات الإرهابية والمسلحة مثل (بوكو حرام، والقاعدة، وطالبان، والإخوان المسلمين) تشي بملمح وحيد، وهو أن لديها القدرات على تلقّي تلك الصدمات والاستجابة لها والبحث عن شروط جديدة للتواجد حتى مع سنوات الكمون أو الشتات والضعف.

بل إنها تكون فرصة أحياناً للتموضع السياسي والميداني من جديد والعودة بصورة أكثر توحّشاً وبطشاً وقوة وعدوانية بعد مرحلة إعادة التشكّل وبناء الهياكل الأمنية وغيرها.

النصف الثاني من العام الماضي، أوضح “مركز الإمارات للسياسات” في دراسةٍ لافتة إلى أنّنا بصدد “حربٍ بلا نهاية”، وقال إن “سَعْي تنظيم داعش لتقوية صفوفه يجعله يُركّز خلال المرحلة المقبلة على عدة أولويات تُمثِّل المحدد لمستقبله على المدى القصير. يتمثَّل أولها في استمرار وجوده في البادية السورية، باعتبارها ملاذاً آمناً مثالياً ونقطة انطلاق لعمليات الكَر والفر، التي تستهدف طرق الإمداد ومحيط البادية، مثل دير الزور والسلمية. وثاني هذه الأولويات، الاستمرار في دعم نظريته الدعائية بهدف الاستقطاب البشري إلى صفوفه، والدعم المعنوي لفروعه المنتشرة في العالم عبر تأكيد وجوده القوي في سورية والعراق، المنطلق الرئيس ومعقل خلافته الأولى. ففي إطار تحقيق هذا الهدف، قد يسعى التنظيم إلى إيصال ضربات قوية لخصومه في عمق مناطق سيطرتهم على غرار تفجير السيدة زينب، أو اقتحام سجن الصناعة في الحسكة، في شباط/ فبراير 2022”.

وتابع: “يتمثل ثالث أولوياته في إيجاد موطئ قدم له في الحواضر المدنية على شكل خلايا أمنية لاستهداف الخصوم وتجنيد عناصر جُدد. وفي هذا الإطار، يعمل التنظيم على بناء قاعدة لحضوره في المناطق الحضرية، وتشكّل عماد هذه القاعدة خلايا أمنية عسكرية مهمتها تنفيذ عمليات خلف الخطوط مثل عملية التفجير في السيدة زينب، وأخرى تنظيمية تسعى لكسب أنصار جُدد وضمِّهم إلى صفوفه. وعادةً ما يكون لهذه القواعد دور مالي من خلال استثمار بعض الأصول المالية للتنظيم في أعمال تجارية تصبّ في خزينته”.

ومن المرجّح، على المدى القصير، أن يمضي تنظيم “داعش” في محاولاته لبناء هذه القواعد، وسط خيارات صعبة، في مناطق عدة من سوريا، وفق “مركز الإمارات”، والذي يرى أن من أهمها إدلب، لكن لن يضحى للتنظيم فرصة كبيرة في التوسّع داخل المحافظة، على خلفية وجود خصم قوي مناهض للتنظيم هو “هيئة تحرير الشام”، التي تلاحق خلايا التنظيم وتعتقلها بشكل مستمر، بالإضافة إلى العمل الاستخباراتي التركي والأميركي داخل المحافظة، الذي راح ضحيته عدد من قادة التنظيم.

هذا فضلاً عن شرق الفرات، حيث لدى “داعش” نشاط مستقر منذ سنوات في شرق الفرات عبر خلاياه الأمنية، كما يستغل التنظيم الخلافات القومية بين العرب والكُد لتوسيع نفوذه. إلا أن احتمال توسّعه بشكل كبير ضئيلٌ نظراً لوجود القوات الدولية لمكافحة الإرهاب، وعلى رأسها القوات الأميركية. وعلى المستوى الشعبي، لا يزال قسم كبير من السكان يميل لخيار “الإدارة الذاتية”، باعتبارها أقل الأطراف سوءاً، طبقاً لـ”مركز الإمارات”.

عن "الحل نت"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية