ناجون وأهالي ضحايا معتقلات الأسد لـ "حفريات": محاكمة رسلان انتصار، ولكن!

ناجون وأهالي ضحايا معتقلات الأسد لـ "حفريات": محاكمة رسلان انتصار، ولكن!


19/01/2022

العدالة أمر ممكن. هذا ما يوحي به صدور الحكم القضائي بالسجن المؤبد من المحكمة الإقليمية العليا، في مدينة كوبلنز، جنوب غرب ألمانيا، بحق الضابط السابق (المنشق) في الاستخبارات السورية، أنور رسلان، على خلفية اتّهامه بارتكاب "جرائم ضدّ الإنسانية".

الرسالة المباشرة التي اتفق عليها ناجون من معتقلات نظام بشار الأسد، وذوو ضحايا آلة الحرب التدميرية، مفادها أنّ تحقيق العدالة والمحاسبة أمر ممكن. وثمّة منصات قضائية بمقدورها وصم رجال "الأسد"، ورفع أيّ حصانة عنهم، بعدما ساهمت أطراف خارجية تستفيد من اقتصاد الحرب، الذي تحوّل لشبكات "كبتاغون" في تعويم النظام.

جرائم رسلان

رسلان، الذي بدأت محاكمته، في نيسان (أبريل) العام الماضي، بينما تمّ توقيفه بناء على مبدأ الولاية القضائية العالمية، يحفل سجله بوقائع تعذيب وجرائم دموية؛ إذ ارتبط وجوده في معتقل الخطيب بتعذيب قرابة أربعة آلاف شخص، خلال الحرب السورية، بينما قضى ما لا يقل عن 58 معتقلاً تحت وطأة التعذيب، بالإضافة إلى 25 حالة اعتداء، تتضمن العنف الجنسي.

مريم الحلاق والدة الطبيب السوري أيهم غزول

وثمّنت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة الخاصة بسوريا الحكم الصادر من المحكمة الألمانية، وقد اعتبرته بمثابة "حكم تاريخي، ويعطي دفعة للعدالة الدولية"، موضحة أنّ الحكم "اختراق في البحث عن الحقيقة والعدالة والتعويضات عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبت في سوريا منذ أكثر من عقد".

اقرأ أيضاً: هل يفهم العرب طبيعة الوجود الإيراني في سوريا؟

وعبر حسابها الرسمي في موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، نشرت منظمة "هيومن رايتش ووتش" الأمريكية تقريرها الكامل عن محاكمة رسلان في كوبلنز، بينما وصفته بـ "التاريخي"، وتابعت: إنه "انتصار للمدنيين الناجين من التعذيب والاعتداء الجنسي في سجون سوريا".

إدانة أممية

وقالت وزارة الخارجية الأمريكية إنّ الحكم الذي صدر بحق رسلان يعدّ "انتصاراً مهماً لضحايا هجوم نظام الأسد الذي استمر عقداً من الزمن ضدّ شعبه، إنّها إشارة واضحة إلى وجوب محاسبة المسؤولين عن مثل هذه الفظائع".

وجهت للمتهم العميد أنور رسلان عدة تهم، من بينها تعذيب أكثر من أربعة آلاف معتقل، والتسبّب في موت 58 معتقلاً تحت التعذيب، بجانب تهم تتعلق بالاغتصاب والعنف الجنسي

وعقّبت وزيرة العدل الألمانية، ماركو بوشمان، على قرار المحكمة؛ بأنّ "على بقية الدول أن تأخذ هذه المحاكمة كنموذج يحتذى به. حدث ظلم مرعب في سجون حكومة الأسد، هذه الجرائم ضدّ الإنسانية يجب ألا يُسمح بأن تبقى دون محاسبة".

وغرّد المتحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، دينيس كوميتات، عبر حسابه في موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"؛ بأنّ "الحكم قائم على مبدأ "الولاية القضائية العالمية"، فأخطر الجرائم يمكن أن يعاقب عليها في ألمانيا، حتى لو ارتُكبت في بلدان أخرى، مشدداً على ضرورة التمسك بمبدأ "منع الإفلات من العقاب".

اقرأ أيضاً: ما الرسائل السياسية المضمَرة للاعتداءات الإسرائيلية على سوريا؟

التقت "حفريات"، في أعقاب صدور الحكم القضائي الصادر بحق رسلان، بثلاث شخصيات، لكلّ منهم سردية خاصة عن وقائع وملابسات ومآلات ما تعرضوا له مع أقبية التعذيب السورية، بواسطة الأذرع الأمنية التابعة لـ "الأسد"، وكذا التلفيق الممنهج للجرائم المنسوبة لبعضهم أو لذويهم بدرجة القمع نفسها.

ومن مقرّ إقامتها في برلين، تحدثت "حفريات" مع مريم الحلاق، والدة الطبيب السوري أيهم غزول الذي قضى في سجون الأسد، إثر فترة من التغييب القسري ثم الاحتجاز غير القانوني، وشيار خليل، معتقل سابق وأحد الناجين من مصير مجهول بعدما تم تلفيق جرائم جمّة بحقه، من بينها انتماؤه لـ "جماعة إرهابية"، وقد جرى إرغامه على الاعتراف بذلك أمام عدسات كاميرا قناة "الإخبارية" السورية، وسيدرا علي الشهابي، ابنة المعتقل السياسي والمفكر اليساري علي الشهابي، والذي جرى اعتقاله بواسطة الاستخبارات العسكرية، نهاية عام 2012، بالقرب من مخيم اليرموك للاجئين والذي كان يقيم به.

شهادات حول سجون الأسد

والدة الغزول تدير "رابطة عائلات قيصر" في برلين، تأسست عام 2018، والتي تعنى بتقديم الدعم المتبادل لأسر الضحايا، وتمثيل صوت الذين فقدوا أبناءهم بعد تغييبهم القسري، ومن ثم، مواصلة تشكيل ضغط حقوقي مستمر باتجاه تحقيق العدالة وتعقب المسؤولين المتورطين في جرائم وخروقات ضدّ الإنسانية.

شيار خليل بجلسة في البرلمان الأوروبي للحديث عن جرائم النظام في سوريا 2017

وقد كانت "صور قيصر" التي اشتقت منها حزمة العقوبات الأمريكية اسمها، بمثابة صدمة مدوية، عندما ظهرت قبل نحو سبعة أعوام على منصات التواصل الاجتماعي، بينما كشفت عن المصير الصعب والمؤلم لبعض المعتقلين، وفضحت الأوضاع المأساوية داخل السجون السورية.

"اعتقل ابني مرتين؛ الأولى لمدة ثلاثة أشهر، عاد بعدها بنزيف في الكليتين نتيجة الضرب اليومي الموجَّه لهما، مما أثر أيضاً على طريقة المشي عنده، وكان يعالج حتى اعتقاله الثاني بعد ستة شهور". تقول الحلاق.

اقرأ أيضاً: بالأرقام... التوسع الإيراني في سوريا عام 2021

ووثقت والدة الطبيب السوري شهادة صديق ابنها، والذي رافقه في الاعتقال الأول، منصور العمري، فتقول: "روى لي (منصور العمري) أنّ ابني كان يعذَّب بشكل متواصل وبصورة يومية، وأكثر من غيره، فيعود، كلّ مرة بجروح غائرة، ويستغربون كيف يتحمّل كلّ هذا الألم. وفي البداية كان (أيهم غزول) يثابر ويتجاسر على الألم بالغناء، لكنّه تحت وطأة التعذيب أمسى صامتاً تماماً".

وتردف الحلاق: "في اعتقاله الثاني من جامعة دمشق ومن قبل شبيحة الاتحاد الوطني لطلبة سورية وتعذيبهم له، جرى نقله إلى سرية المداهمة (٢١٥) التابعة للأمن العسكري، حيث تبين أنّ نزيفاً داخلياً هو سبب إغمائه بعد ضربة قوية على رأسه، ولم يستجب السجّان لطلب المعتقلين بإسعافه، أو نقله للمشفى، قائلاً: "حين يموت خبروني"".

البشر في سجلات الأسد مجرد رقم

وفي ظلّ حالة التجاهل المتعمد "بقي ابني أيهم خمسة أيام وجسده يقاوم النزيف والألم المتواصلين، حتى غطى جسده اللون الأزرق، فجسّ زميل له في الاعتقال جبينه فوجده بارداً. حينها جاء السجان ومعه الطبيب ليثبت وفاته ويضع على جبينه ورقة تحمل رقم (٣٢٠). بينما لم أتاكد من استشهاده إلا حين رأيت صورته بين صور قيصر بعد أن جرى تداولها على منصات التواصل الاجتماعي، وأسسنا رابطة عائلات قيصر".

اقرأ أيضاً: نهاية العزلة: كيف يتصالح العالم العربي مع سوريا؟

وتوضح الحلاق التي تكشف أنّها تشعر بـ "قليل من الراحة بعد صدور حكم على أحد هؤلاء الجناة"، أنّها من أوائل الذين رفعوا دعوى قضائي ضدّ خمسة من رؤساء الأفرع الأمنية السورية، في برلين، الأمر الذي نجم عنه صدور مذكرة توقيف بحقّ جميل حسن، مدير الأمن الجوي، مشدّدة على أنّ الحكم "لن يخفف معاناتنا، ولن يطمئن قلب أيّ أمّ عن ابنها المخفي قسراً"، وتطالب بضرورة "الإفراج عن المعتقلين لتكون خطوات العدالة على الطريق الصحيح".

سيدرا علي الشهابي أمام مقر محكمة كوبلنز

وتتابع: "ذهبت، أكثر من مرة، إلى مقر محاكمة المتهم أنور رسلان في كوبلنز، والذي سبق أن أصدرت حكماً بإدانة عنصر أمني سوري آخر هو إياد غريب. ومنذ أيام كنت هناك حين صدر الحكم على رسلان بالمؤبد. وأشعر، الآن، بأنّ العدالة بدأت تتشكل ولو على نحو طفيف، وأنّ خطواتها لن تكتمل إلا بمحاسبة كلّ من كان سبباً في اعتقال وموت أولادنا".

اعتراف قسري واتّهامات مزيفة

الصحفي السوري شيار خليل الذي وقع في قبضة النظام الثقيلة أثناء عمله الصحفي في دمشق، يراجع شريط الفيديو الوحيد المتبقي معه، والذي تمكن من الحصول عليه، بعد أن قام النظام بمحو التسجيل المصور، وإتلاف الأدلة على تلفيق الاتهامات، لا سيما بعد الإفراج عنه وآخرين، وقد أجبرته القيادات الأمنية بالمعتقل على الاعتراف القسري بجرائم لم ينفّذها. يقول: "خلال متابعتي للشهادات التي قدّمت، وبحكم أنني معتقل سابق في زنازين النظام السوري، كنت على يقين أنّ القرار الذي سيصدر من المحكمة، سيحرّض العديد من السوريين لتقديم المزيد من الدعاوى، وذلك بعد التخاذل الدولي في دعم قضاياهم. فالشهادات التي قدمت في المحكمة كشفت عن بعض آليات التعذيب والقتل الممنهج بحق السوريين في المعتقلات الأسدية، والتي ما تزال تكتظ بالضحايا من معتقلين ومختطفين".

سيدرا ، ابنة المفكّر والسياسي المعتقل علي الشهابي، لـ"حفريات": المحاكمة تحمل أهمية قصوى تجاه مبدأ العدالة والمحاسبة، لا يجوز لأيّ مجرم حرب أن يعيش بين الضحايا كأنّهم سواسية

هذا الحكم القضائي يحمل رمزية مهمة ولافتة لدى الصحفي السوري، تتمثّل في كون الحكم يتجاوز مجرد إدانة أحد الأذرع الأمنية للنظام إلى وصم نظام كامل، وصل لدرجة قصوى من التوحش، وتصفية البشر، لافتاً إلى وجود المزيد من الدعاوى التي ستضغط على النظام وسمعته في الخارج، ومن بينها "المحكمة المقبلة التي ستجري في فرانكفورت بألمانيا، في 19 كانون الثاني (يناير)، بخصوص طبيب سوري كان يعذب المعتقلين في مشفى حمص العسكري التابع للنظام".

وبالتالي، يردف خليل، على منظمات المجتمع المدني، وتحديداً المنظمات الحقوقية، بوجه خاص، الاصطفاف من أجل "توحيد جهودها وتشكيل بنك معلومات عن المعتقلين والمعتقلات السوريين، ووضع كلّ ذلك في خدمة الإفراج عنهم، ثم المساهمة في الوصول إلى تحقيق العدالة، خاصة بعد تخاذل المجتمع الدولي والمعارضة السورية السياسية والعسكرية".

الحكم أتى استناداً لعشرات الشهادات المختلفة عن التعذيب والقتل في فرع كان يرأسه الجاني، بحسب المصدر ذاته؛ إذ إنّ المتهم (أنور رسلان) كان يعمل في إدارة أمن الدولة الداخلي برتبة عميد، بجانب ترؤسه لقسم التحقيق في فرع أمن الدولة الداخلي (الفرع 251 المعروف بفرع الخطيب)، عام 2011، وحتى مغادرته سوريا، نهاية عام 2012، وهو الفرع الأخطر والأكثر قوة وتأثيراً في سوريا، حيث وجهت له عدة تهم، من بينها تعذيب أكثر من أربعة آلاف معتقل، والتسبّب في موت 58 معتقلاً تحت التعذيب، بجانب تهم تتعلق بالاغتصاب والعنف الجنسي.

اقرأ أيضاً: هل نشهد فصولاً جديدة لمسلسل "داعش" في سوريا؟

وإلى ذلك، تؤكد سيدرا ، ابنة المفكّر والسياسي المعتقل حتى الآن علي الشهابي، أنّ المحاكمة تحمل أهمية قصوى تجاه مبدأ العدالة والمحاسبة، وكذا عدم تفلت الجناة من المسؤولية والعقاب، مشدّدة على أنّه "لا يجوز لأيّ مجرم حرب أن يعيش بين ضحايا الحرب والفارين منها كأنّهم سواسية".

وتؤكّد الشهابي على أنّ الحكم القضائي الصادر بحق رسلان يعد بمثابة "استرداد لجزء من حق الضحايا، وهو، رغم بساطته وبداهته، حقّ أصيل في كلّ الأحوال. كما أنّه لا يمكن الاستناد لمحاكمات محلية، تقوم على محاسبة رؤوس صغيرة، ارتكبت جرائم ثم فرّت من البلاد، خاصة أنّ المنظومة التي توفر لتلك الجرائم مشروعيتها واستمراريتها ما تزال قائمة. وما تزال الاعتقالات (وفرع الخطيب) والتعذيب والقتل مستمرين. كما أنّه ما يزال أبي (علي الشهابي) في سجون النظام بدون حقوق".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية