إذا كان من حقّ الدول أن تطبع مليارات الأوراق، من ذوات العلامة المائية، لتصبح بعد ذلك أموالاً متداولة، لها قوة شرائية، ودون أن يكون لها مستند من الذهب يساويها، كلّ ذلك بحجّة الدفع بسيولة، لا يستفيد منها سوى أصحاب رأس المال، ورجالات الأعمال، فلِمَ لا يكون من حقّ حفنة من الفقراء طبع أوراق مالية رسمية، بعد السيطرة على مقرّ سكّ العملة، ليستمتعوا بعد ذلك بالأموال، ولا يعودوا للعمل المضني مرة أخرى.
اقرأ أيضاً: كيف أصبح "تشيرنوبل" أنجح مسلسل في التاريخ؟
يرتكز المسلسل الإسباني "لاكاسا دي بابل"، أو "بيت من ورق"، على هذه الفكرة المناهضة للقانون، ويراهن عليها في كسب التعاطف، إلا أنّ اللافت أنّها لم تلقَ رواجاً داخل المجتمع الإسباني، كما يرى مراقبون، ولكنّها لاقت انتشاراً واسعاً في المجتمعات العربية، الذي حاز هذا المسلسل على مشاهدة مئات الملايين منهم.
دراما متمردة
تمرّدت الدراما الغربية، منذ مدة طويلة، على كثير من القيم المفترض أنّها ثابتة لدى العرب، منها: قيم الخير والشرّ، كما تمرّدت على مبادئ قانونية، باعتبار أنّ إنشاء القانون وتمريره من قبل نيابة الشعب، ليس دليلاً على أنّه الحقّ المطلق، كما أنّ أحكام القضاء ليست بالضرورة عنواناً للحقيقة!
يتمرّد "لا كاسا دي بابل" حتى على قيمة العمل، فهؤلاء الأشخاص يسرقون بضربة واحدة، ما يقترب من المليارين ونصف المليار يورو، حتى لا يُجبروا على العمل من أجل الحياة؛ إذ إنّهم يطرحون سؤالاً: هل العمل يجلب السعادة؟ أو بمعنى آخر؛ هل عدم العمل مع وجود الكثير من الأموال يجلب التعاسة؟ الإجابة هي: إنّ الذين يملكون المال ولا يعملون يستمتعون بحياتهم أكثر من هؤلاء التعساء الذين يتقاضون حفنة من الدولارات شهرياً مقابل العبودية لصاحب ربّ المال.
يرتكزمسلسل "لاكاسا دي بابل" الإسباني على فكرة مناهِضة للقانون ويراهن عليها في كسب التعاطف
تدور أحداث المسلسل حول شاب يبلغ من العمر 40 عاماً، لقَّب نفسه بالبروفيسور، تبدو من ملامحه الطيبة والهدوء، وضع خطّة للسيطرة على دار سكّ العملة في مدريد، ثم بدأ في تجنيد 8 أشخاص أطلق عليهم أسماء مدن عالمية، وحذرهم من الارتباطات العاطفية، أو أن يكشف أحدهم للآخر مسمّاه الحقيقي.
كانت لهؤلاء سوابق إجرامية، وكانوا مطلوبين أمنياً، ولم يعد لديهم ما يخسرونه، ما عدا البروفيسور، الذي لم يكن يشتبه به أحد؛ بل تعمّد عدم تجديد بطاقة هويته منذ أن كان عمره 19 عاماً، ولم تكن له بصمات لدى السلطات.
سارق وعالم نفس
يهدف البروفيسور إلى السيطرة على دار سكّ العملة، أحد عشر يوماً، حتى يتمكن من طبع 2.4 مليار يورو، بعد احتجاز 67 رهينة، والتعامل مع عشرات من قوات النخبة، فضلاً عن لجنة تضمّ عدداً من أبرز العناصر في الشرطة الإسبانية وأجهزة التحقيق.
اقرأ أيضاً: مسلسل "دقيقة صمت" وقفة على روح الوطن
كان الأهم لدى البروفيسور، أن يكسب الرأي العام لصالحه، ويجعل الناس يحبّون ما يفعل، فحرص على ألا تسيل نقطة دم واحدة في صفوف قوات الشرطة، أو من جانب الرهائن، واستطاع أن ينجح في ذلك لحدٍّ بعيد.
يقول البروفيسور لعصابته: "تذكّروا، لو سُفكت نقطة دماء واحدة فلن نبقى روبن هود؛ بل سنكون مجرد أوغاد"، وهو ما استطاع البروفيسور تحقيقه، فقد قُتل شخصان من مجموعته، أحدهما على يد الشرطة، والآخر على يد الرهائن أنفسهم.
استطاعت المجموعة دخول دار السكّ المحصنة بالأسلاك الشائكة، وبذخيرة تصل إلى 3 أطنان من المتفجرات، باستخدام نظرية تقول: إنّ "الشجاعة ستتغلب على رجل يرتدي زياً ويتقاضى راتب 1600 دولار شهرياً"، أو "مَن يريد الحصول على ما يزيد على الملياري يورو، سيتغلب على من يتقاضى فوق الألف دولار شهرياً".
اقرأ أيضاً: "جن": مسلسل متواضع المستوى أثار زوبعة في فنجان
إنّ حبكة المسلسل وإقناعه في كافة التفاصيل بالمنطق والحسابات المادية والاعتبارات المعنوية يجعلنا نرفع القبعة لصنّاعه، الذين يضعوننا في مواجهة صنّاع الدراما العربية، لنسألهم: هل عجزت مخيلاتكم عن صنع مثل هذا؟ لا شكّ في أنّهم يمكنهم الردّ بأنّ هذا هو الفارق بين العقل الغربي، والعقل العربي الآن، ليس في صناعة الدراما فحسب؛ بل وفي كلّ ما عداه.
عسكر وحرامية
ليس بالضرورة أن تنجح الشرطة في النهاية في القبض على اللصوص، أو تتفوق في البحث والتحري على زعيم العصابة المجرمة، كما هو السائد في الدراما العربية؛ بل في "لاكاسا دي بابل" كان البروفيسور الأكثر مهارة، حتى استطاع في النهاية الخروج من دار سكّ العملة، ومعه المليارات، ليتنعّم بها في جزر الكاريبي.
يسعى بطل العمل للسيطرة على دار سكّ العملة 11 يوماً حتى يتمكن من طبع 2.4 مليار يورو
يحسب البروفيسور كلّ خطوة من خطواته، ويتوقّع ردود فعل الأجهزة الأمنية؛ بل واستطاع أن يوصل لهم ما يريد، بينما هو يخطط لفعل أشياء أخرى تماماً.
أوهم الشرطة بعد السيطرة على دار السكّ، بأنّهم مجرد مجموعة من الطائشين الذين يريدون أن يسرقوا 8 ملايين من اليوروهات، ويفرّوا باتجاه الخارج، فأمر بضرب أجهزة الإنذار، قبل أن يخرج 4 من عناصره للخارج، وعندما تيقن من وصول قوات النخبة، قاموا بالضرب عليهم من بعيد، ونثروا مئات الأوراق المالية، فاضطرت الشرطة للردّ عليهم، فعادوا أدراجهم، لقد كانت مناورة لا أكثر.
اقرأ أيضاً: "دفعة القاهرة": مسلسل ممتع لكنه مخيّب للآمال
كلّ ما كان يهدف إليه البروفيسور، هو كسب الوقت؛ ففي حين كانت أجهزة التحقيق تظنّ أنّه يريد أن يسطو على قدر من المال ثم يهرب، كان هو يخطط لطبع المزيد من الأموال، وكلّ ساعة زيادة كانت تعطيه قدراً أكبر من المال، كان الوقت فعلاً من ذهب! فكلّ ساعة كانوا يطبعون فيها 8 ملايين يورو.
لقد فشلت محاولة الاقتحام الأولى؛ لأنّ المقتحمين اكتشفوا أنّهم لن يستطيعوا التفرقة بين الخاطفين والمخطوفين، لقد ارتدوا جميعاً زياً وقناعاً موحَّداً، ومَن أخبر بذلك وسائل الإعلام على الهواء مباشرة كانت ابنة السفير الإنجليزي، الذي فوجئ فريق العمل الأمني بأنّ البروفيسور يعرف هويتها.
معايير الحلال والحرام
يقول البروفيسور: "ما الذي يمكن أن يحدث لو طبعنا تلك الأموال، إنّ البنك المركزي الأوروبي طبع مليارات الدولارات دون أيّ سند لذلك، بدعوى ضخّ السيولة، وكان في الواقع من أجل رجال الأعمال، فهل لو فعلنا ذلك نحن يكون جريمة؟".
بصرف النظر عن فلسفة البروفيسور، فإنّ قناعته بالسرقة لم تكن بذاك المنطق السابق، بل الأمر إلى ما حدث له منذ أن كان طفلاً صغيراً.
اقرأ أيضاً: هل تجتمع الإنسانية مع العنف في الثقافة العامة؟.. مسلسل الهيبة نموذجاً
تبدأ القصة بالطفل سيرجيو، المريض في الولايات المتحدة، والذي يحتاج والده للمال كي يعالجه، ولا يتم إخراجه من المستشفى، ولهذا السبب يحاول سرقة بنك في أمريكا، وعندها يتم إطلاق النار عليه، فيموت صريعاً، وبعد ذلك يشفى سيرجيو ويبدأ التخطيط لكلّ شيء، مع رفيقه "برلين"، الذي كان معه منذ البداية.
يخطط سيرجيو لكلّ التفاصيل، اعتماداً على قصص والده عن السرقة التي كان يرويها له، والتي عرف بعد ذلك أنها كانت قصصاً حقيقية، وكان والده ينفذها، إلّا أنّ والده هذا كان مناضلاً في السابق ضدّ الاحتلال، لكنّ ما لاقاه من فقر وتعاسة اضطره لفعل ذلك.
بدأ سيرجيو بالتخطيط للسرقة، وأوّل ما نفذه هو حفر نفق من مقره الخارجي، قبل خمسة أعوام من يوم التنفيذ، كما درس سلوك الشرطة المحتمَل والمتوقَّع، والقوانين والأنظمة القضائية والثغرات، ووضع العديد من الخطط مثل: خطة حصان طروادة، وخطة فالنسيا، وخطة الكاميرون، وخطة الفشل الأخيرة، التي لم يتم استخدامها، وخطة الإعلام، وخطة إطالة أمد التفاوض.
كان الأهم لدى "البروفيسور" أن يكسب الرأي العام لصالحه ويجعل الناس يحبّون ما يفعل
رأى سيرجيو نفسه مناضلاً، حتّى أنّه استخدم أغنية (bella ciao)، وهي أغنية من الفلكلور الإيطالي، تعبّر عن النضال والحرية، وقد استخدمت في القضاء على موسوليني، ولكنّ مخرج المسلسل يستخدمها عند اجتماع البروفيسور مع برلين، قائد العملية، داخل بيت المال، وهم يجلسون على مائدة الطعام، قبل بدء العملية، ويبدأ برلين بالغناء، بعد أن يخبره البروفيسور بأنّ العملية كفاح وطني، من أجل الحصول على المال من أجل حريتهم، كما أنها حلم والده قبل أن يموت.
استخدم البروفيسور أغنية النضال الوطني، مع صديقه الذي أبى أن يموت موتة عادية؛ بل أن يموت في النفق، حتى يحمي مجموعته، تقول كلماتها: "هذا الصباح.. صحوت من النوم.. وداعاً أيتها الجميلة.. وداعاً وداعاً.. هذا الصباح صحوت من نومي فوجدت المحتل في بلدي.. أيها المناضل خذني معك.. وداعاً أيتها الجميلة.. أيّها المناضل خذني معك فأنا أشعر بالموت كلّ حين.. لماذا لا أموت إذاً وأنا أناضل؟ وداعا أيتها الجميلة.. وصيتي لكِ هي أن تدفنيني.. ادفنيني هناك عند الجبل.. تحت ظلال زهرة جميلة.. وسيمر الناس من أمامها ويقولون لكِ ما أجمل هذه الزهرة.. قولي لهم إنّها زهرة المناضل الشهيد.. مات من أجل الحرية".