بعد أن أوقع الإرهابي الأسترالي برينتون تارانت، الجمعة الماضي، نحو 100 مسلم، بين قتيل وجريح، في هجوم مسلّح على مسجدين في نيوزيلندا، وجدت سلطات التحقيق بعض العبارات والتواريخ، التي كتبها منفذ الهجوم، على ظهر سلاحه، والتي تشير إلى عنصرية قومية ودينية متطرفة، وكان ضمن ما خطّه عبارة "Tours 732" في إشارة إلى معركة بلاط الشهداء التي وقعت العام 732، وربما لم يسمع عنها كثير من العرب والمسلمين في العصر الحديث، إلا أنّه من الواضح أنّ تاريخ الصراع بين الإسلام والمسيحية، لم يتلاشَ بعد في مخيلة العنصريين الأوروبيين ومنهم منفذ المجزرة تارانت، فما هي هذه المعركة وفق ما تذكره كتب التاريخ العربية والغربية:
كان ضمن ما خطّه منفذ هجوم نيوزيلندا عبارة "Tours 732" في إشارة إلى معركة بلاط الشهداء
1- معركة بلاط الشهداء أو معركة تور "Battle of Tours" بالإنجليزية أو بواتييه بالفرنسية "Bataille de Poitiers" هي معركة دارت في رمضان العام 114هـ/ تشرين الأول (أكتوبر) 732م، في موقع يقع بين مدينتي بواتييه وتور الفرنسيتين ولا يبعد أكثر من 340 كيلومتراً عن باريس، وكانت بين قوات من المسلمين تحت لواء الدولة الأموية بقيادة والي الأندلس عبدالرحمن الغافقي، وقوات الفرنجة والبورغنديين بقيادة شارل مارتل من جهة أخرى، وانتهت بانتصار قوات الفرنجة وانسحاب جيش المسلمين بعد مقتل قائده عبدالرحمن الغافقي.
2- اعتبر غالبية المؤرخين الغربيين، نتيجة المعركة حكماً إلهياً لصالحهم، كما اكتسب شارل مارتل من حينها لقبه "Martellus" الذي يعني المطرقة، بزعم أنّ هذا الانتصار بإيقافه الزحف الإسلامي تجاه قلب أوروبا حفظ المسيحية كديانة سائدة فيها، ولعل أشهر هؤلاء المؤرخ الإنجليزي إدوارد جيبون (1737-1794م) الذي قال في كتابه "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها: لو كان العرب قد انتصروا في بواتييه لأصبحت المساجد في باريس ولندن بدلاً من الكاتدرائيات حالياً، ولتُلي القرآن الكريم في جامعات أوروبا.
3- لم تكن هذه المواجهة الأولى بين الطرفين في الأراضي الفرنسية، فبعد أن دخل العرب الأندلس، ووطدوا حكمهم فيها عبروا جبال البرانس، وبدأوا في فتح الأراضي الإفرنجية (فرنسا في الوقت الحاضر) على يد قائدهم في ذلك الوقت السمح بن مالك الخولاني، وتم على يده فتح مدن منطقة سبتمانيا أربونة وبيزارس وآجده ولوديفيه وماغيولون ونييمس.
جرت المعركة بين المسلمين والفرنجة العام 732م في موقع لا يبعد أكثر من 340 كيلومتراً عن باريس
رجع السمح إلى الأندلس ليجمع جيشاً يحاصر به مدينة طولوشة (أو تولوز) ويقال إنّه جمع أكثر من 100 ألف شخص من الفرسان والمشاة. قام المسلمون بحصار تولوز طويلاً حتى كاد أهلها أن يستسلموا، إلا أنّ الدوق أودو دوق أقطانيا (أكيتين) باغته بإرسال جيش ضخم، فقامت هنالك معركة عرفت في التاريخ باسم معركة طولوشة وقاوم المسلمون فيها قليلا بالرغم من قلة عددهم واستشهد قائدهم السمح بن مالك فاضطرب الجيش وانسحب المسلمون لقاعدتهم في بلاد الإفرنج مدينة أربونة وكان ذلك في 9 حزيران (يونيو) 721م.
4- كان السمح والي الأمويين في بلاد الأندلس وكان قد ولّاه عليها عمر بن عبدالعزيز العام 100هـ، وبعد وفاته قام الأندلسيون بتعيين عبدالرحمن الغافقي كوالٍ مؤقت حتى ينظر الخليفة الأموي بدمشق في من سيعين عليهم.
اقرأ أيضاً: علاقة الإرهاب بالدين.. قراءة في هجوم نيوزيلندا
5- عُيّن عنبسة بن سحيم الكلبي كوالٍ للأندلس فقام بإكمال ما بدأ به السمح بن مالك، وقد توغّل كثيراً في الأراضي الفرنسية حتى بلغ مدينة أوتون شرقي فرنسا، وفي طريق عودته إلى الأندلس فاجأته قوات إفرنجية فأصيب إصابة بليغة لم يلبث أن مات على إثرها في كانون الأول (ديسمبر) 725م، ثم جاء 4 ولاة للأندلس لم يحكم أغلبهم أكثر من 3 سنين حتى عُيّن عبدالرحمن الغافقي العام 730م.
اقرأ أيضاً: صناعة التطرف .. قراءة في هجوم نيوزيلندا الإرهابي
6- قام عبد الرحمن بإخماد الثورات القائمة في الأندلس بين العرب والبربر وعمل على تحسين وضع البلاد الأمني والثقافي، وفي تلك الأثناء قام الدوق أودو بالتحالف مع حاكم إقليم كاتلونيا المسلم عثمان بن نيساء وعقد صلحاً بينه وبين المسلمين وتوقفت الفتوحات الإسلامية في بلاد الإفرنج.
وكان الدوق أودو يعلم أن عدوه الأبرز هو تشارلز مارتل -وخاصة بعد معركة طولوشة- وأنه إذا صالح المسلمين فإنّه سيأمن هجماتهم من جهة وسيشكلون قوة ورادعاً في وجه تشارلز مارتل من جهة أخرى الذي لن يفكر في مهاجمته خوفاً من المسلمين.
7- قام عثمان بن نيساء بما لم يكن في الحسبان، عندما أعلن استقلال إقليم كاتلونيا عن الدولة الأموية، فما كان من عبد الرحمن الغافقي إلا أن أعلن الحرب ضده بصفته خائناً، ولم يستثن عبدالرحمن الدوق أودو من هذا الأمر فجهّز جيشه وأخضع كاتلونيا لدولته، ثم اتجه صوب أراضي أودو وحاصر مدينة البردال (بوردو) وفتحها المسلمون وقتلوا من جيش أودو الكثير حتى قال المؤرخ إسيدورس باسينسيز "إن الله وحده يعرف عدد القتلى".
اقرأ أيضاً: ماذا فعل الأفغاني عبدالعزيز لإنقاذ المصلين من هجوم نيوزيلندا؟
8- وجد تشارلز مارتل الوضع في بلاده مناسباً لإخضاع الأقاليم الجنوبية التي طالما استعصت عليه، وكان يعلم أنّ العقبة الوحيدة في طريقه هي جيش المسلمين، كان الجيش الإسلامي قد انتهى بعد زحفه إلى السهل الممتد بين مدينتي بواتييه وتور بعد أن استولى على المدينتين، وفي ذلك الوقت كان جيش تشارلز مارتل قد انتهى إلى نهر اللوار دون أن ينتبه المسلمون لقدوم طلائعه، وحين أراد الغافقي أن يقتحم نهر اللوار لملاقاة خصمه على ضفته اليمنى قبل أن يكمل استعداده فاجأه مارتل بقواته الجرارة التي تفوق جيش المسلمين في الكثرة، فاضطر عبدالرحمن إلى الرجوع والارتداد إلى السهل الواقع بين بواتييه وتور، وعبر تشارلز بقواته نهر اللوار وعسكر بجيشه على أميال قليلة من جيش الغافقي، لقد اختار مارتل بحنكته مكان المعركة وتوقيتها عندما أجبر المسلمين على التواجد في المكان الذي يريده لهم.
اقرأ أيضاً: هجوم نيوزيلندا.. مثقفون يحذرون من تنامي التطرف وصدام الأصوليات
9- حصلت بعض المناوشات بين الجيشين بما يشبه حرب استنزاف دامت من 6 إلى 9 أيام (هناك اختلاف بين المؤرخين على مدة المعركة)، وفي اليوم الأخير قامت مواجهة قوية بين الجيشين ولاح النصر للمسلمين. رأى مارتل شدة حرص جنود المسلمين على الغنائم التي جمعوها فأمر بعض أفراد جيشه بالتوجه لمخيم المسلمين والإغارة عليه لسلب الغنائم فارتدت فرقة كبيرة من الفرسان من قلب المعركة لرد الهجوم المباغت وحماية الغنائم، فاضطربت صفوف المسلمين واستطاع الإفرنج النفاذ في قلب الجيش الإسلامي.
ثبت عبد الرحمن مع قلة من جيشه وحاولوا رد الهجوم بلا جدوى، وقتل عبد الرحمن فازداد اضطراب المسلمين، وانتظروا نزول الليل حتى ينسحبوا لقاعدتهم أربونة قرب جبال البرانس، ومع صباح اليوم التالي قام الإفرنج بمواصلة القتال إلا أنّهم فوجئوا بانسحاب المسلمين ولم يجرؤ مارتل على اللحاق بهم وعاد بجيشه إلى بلاده.
اعتبر غالبية المؤرخين الغربيين نتيجة المعركة حكماً إلهياً حفظ المسيحية كديانة سائدة في أوروبا
10- ساهمت عوامل كثيرة في هذه النتيجة، منها، كما يذكر المؤرخون، أنّ جيش المسلمين قطع آلاف الأميال منذ خروجه من الأندلس، وأنهكته خلالها الحروب المتصلة في فرنسا، وطوال هذا المسير لم يصلهم مدد يجدد حيوية الجيش ويعينه على مهمته، بحكم بعد المسافة عن مركز الخلافة في دمشق.
وتبالغ الروايات الغربية في حجم جيش المسلمين وأسباب الهزيمة، وفق ما يذكر حسين مؤنس في كتابه "معالم تاريخ المغرب والأندلس"، الذي يحيلها إلى ابتعاد الجيش عن بلاد الإسلام بحيث أصبح على بعد 400 كم شمال جبال ألبرت التي تبعد عن قرطبة مسافة 900 كم مما جعل موالاته بالمؤن والإمداد أمراً عسيراً، بينما كانت خطوط إمداد الفرنجة سهلة ومتصلة، إضافة إلى أن المناخ لم يكن مناسباً لخوض الجنود والخيول العربية تلك المعركة القاسية، وأنّ المسلمين ساروا مثقلين بغنائم المعارك السابقة، مما دفع العدو إلى ضرب مؤخرة الجيش الإسلامي فارتبكت صفوفه، إضافة إلى أنّ إمارات غالة أو فرنسا كانت قد تكتلت جميعا لمواجهة جيوش الإسلام وصدها عن الجنوب.
اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن الجالية المسلمة في نيوزيلندا؟..(صور)
ويشير مؤنس إلى وجود خلافات في الجيش الإسلامي بين العرب والبربر لم يحسن الغافقي التعامل معها، ورغم شجاعته الفائقة "كانت تنقصه القدرة على وضع خطة محكمة للقتال.. كما فعل حسان بن النعمان وطارق بن زياد" من قبله.
11- ترتب على "بلاط الشهداء" تغيير حاسم في مجرى التاريخ، وتوقف المد الإسلامي عند حدودها، رغم أنّ المسلمين المرابطين، في قاعدة نربونة الإستراتيجية، لم يلبثوا أن استوعبوا صدمة تلك الهزيمة القاسية، بعد أن وصلتهم الإمدادات من الأندلس، وتحولوا من الدفاع إلى الهجوم، بعد حوالي سنتين من معركة البلاط، وذلك في مطلع ولاية عقبة بن الحجاج السلولي، على الأندلس (116-123ه/734–741م)، فاستعاد المسلمون جزءاً كبيراً من مدن وأقاليم جنوب وجنوب شرقي فرنسا، مما كانوا قد فقدوه قبل تلك المعركة.