لماذا لا تخشى "إسرائيل" من الإسلاموية؟(1)

الإسلام السياسي

لماذا لا تخشى "إسرائيل" من الإسلاموية؟(1)


14/05/2020

لا تنظرُ "إسرائيل" إلى التنظيمات الإسلاموية الراديكالية في المنطقة بعين القلق، رغم ما تدعيه تلك الجماعات، بكافة تنويعاتها، من اعتبار هذا الكيان ضمن قائمة أعدائها، لكنّ الوقائع تشير إلى أنّ هذا الصّدام عندها مؤجّل إلى أجل غير مسمّى، ربّما في مرحلة "معارك نهاية الزمان" الموعودة! والنتيجة؛ صراعات طاحنةٌ تدور رحاها بين تلك التنظيمات ودولها ومجتمعاتها، تكون ثمارها حصاداً من الدماء والدمار  والمرار، بينما  يكتفي الكيان الصهيوني بمراقبة هذا المشهد آمناً مطمئناً.

لا تنظر "إسرائيل" إلى التنظيمات الإسلاموية في المنطقة بعين القلق رغم ما تدّعيه من عداء لها

ومع أنّ الشريعة الإسلامية، واضحة في هذا الشأن وتُلزم المسلمين بالنّهوض الفوري لقتال الصهاينة الذين احتلوا قِبلتهم الأولى ومسرى نبيهم محمد -عليه السلام- وهو ما يُسمّى بــ"جهاد الدفع"، وفق ما يذكر ابن تيمية مثلاً في كتابه الفتاوى الكبرى "فأما إذا هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه، فإن دفع ضررهم عن الدِّين والنفـس والحرمة واجب إجماعاً"، إلا أنّ الانتقائية هي ما يحكم عقلية الجماعات الإرهابية فتختار من هذا  التراث فقط ما يدعم آراءها في مواجهة السلطة والمخالفين، ويُنحّون ما سواه حتى لو كان منسوباً إلى ابن تيمية مرجعهم الأول في فتاوى الإرهاب.
تتفق الجماعات الإسلامية كافة على وجوب بناء الدولة الإسلامية -وفق مفهوم كل منهم- وأنْ يُتبَع ذلك بإعلان الخلافة الإسلامية،  (وأضاف الإخوان أستاذية العالم)، ثم تحرير القدس من دنس الصهاينة، ثم فتح العاصمة الإيطالية "روما"، ويجترّ غالبيتهم سردية خروج المهدي المنتظر، وفق الرواية السّنية، عند الحديث عن هذه المرحليات؛ أي إلهاء الناس بأحلام مؤجلة عن الفعل والمقاومة باسم غيبيات دينية.

هروب من المواجهة باسم الشرع
للسلفيين في مصر تاريخ موثق برفض مقاومة الاحتلال البريطاني، فعندما اندلعت ثورة 1919 مطالبة باستقلال البلاد من الاحتلال البريطاني، وقف مؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية الشيخ محمد حامد الفقي، ليعلن رفضه لتلك الثورة، بحجة عدم الإيمان بالتغيير عبر فعل الاحتجاج الشعبي والحراك الجماهيري، الذي يرى فيه مظاهر الجاهلية، وأعلن الشيخ أنّ خروج الاحتلال لا يكون بالمظاهرات التي تخرج فيها النساء "متبرجات"، "ولكن بالرجوع لسنة الرسول - عليه السلام- وترك ونبذ البدع" .. لم يكتفِ الفقي بذلك؛ بل ذهب لإنكار مبدأ  ثورة 1919 الشهير "الدين لله والوطن للجميع".. وقد ذكر ذلك الموقع الرسمي للجماعة في مصر، بترجمته لمؤسس الجماعة، في إشارة إلى تأييدها لأفكار الشيخ فيما يتعلق بالثورة التي تزعّمها سعد زغلول آنذاك.

تحكُم الانتقائية عقلية الجماعات الإرهابية فتختار من هذا التراث فقط ما يدعم آراءها في مواجهة السلطة والمخالفين

مضت التيارات السلفية "الوعظية" و"العلمية" و"الحركية" على نفس المنهج عبر تاريخها وحتى اللحظة، وتبنّت المنهج ذاته تقريباً الذي انتهجته جماعة أنصار السنة والجمعية الشرعية حيال ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، فما حدث في هذه الثورة ليس هو السيناريو المرسوم في مخيلة جميع التيارات والجماعات الإسلامية، بأنّ الأنظمة ستظل قائمة حتى يربي شيوخ السلفية الجماعة المسلمة التي يجب أنْ "تصفّى وتنقّى" أولاً، ثم تقوم بعد ذلك بـــ"مفاصلة" الحكام ومن يوالونهم، ثم يعلنون دولتهم الإسلامية، وهو المنهج الذي دشّن له الشيخ الألباني فيما بعد.
ومن الملاحظ، أنّه في كل مرة تتعرض فيها فلسطين لهجمة شرسة من قوات الاحتلال، ينخرط شيوخ السلفية في مسائل متعلقة بالتوحيد والعقيدة، أو الاستغراق في ثنائية البدعة والسنة، وعندما يتعرضون لسؤال عن موقفهم من مجريات الأحداث، يجيبون إجابة مقتضبة تحمل إشارة أنّ العودة إلى منهجية التوحيد النقي والخالص هو الحل الوحيد لعودة الأمة إلى مجدها والخلاص من محنها، أما جماعة "الدعوة السلفية" فكانت ترفع شعار "ننشغل بالسياسة ولا نشتغل بها"، وهو شعار يعني إمكانية الحديث في المسائل العامة والسياسية، لمجرد إبداء الرأي دون المشاركة بفعل على أرض الواقع.
سلفيّون مع التطبيع
ولم يكتف سلفية "أنصار السنة" بذلك؛ بل خرج من بينهم من شرعن لعمليات التطبيع مع "إسرائيل" باعتبارها "مباحة" شرعاً، وهو الفعل الذي لم يستطع رجالات الدين المحسوبون على الدولة مجرد التفكير في التنظير له شرعياً، فذهبوا إلى التأسيس لجواز الصلح مع هذا الكيان، ثم بجواز بناء الجدار العازل، وعقد اتفاقات مع "إسرائيل"، وعدم جواز طرد السفير الإسرائيلي وبحرمة المقاطعة للمنتجات الإسرائيلية والأمريكية .

وقف مؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية الشيخ محمد حامد الفقي ليعلن رفضه لثورة 1919 ضد الإنجليز بمصر

فعندما حكمت محكمة مصرية بعدم مشروعية تصدير الغاز لإسرائيل كتب الشيخ محمود لطفي عامر، رئيس جماعة أنصار السنة في البحيرة شمال مصر، على موقع الجماعة الرسمي، أنّ تصدير الغاز "لا يخالف الشرع"، وأصّل لمقولاته بأدلة شرعية وعقلية "لقد تعامل الرسول بالبيع والشراء مع الكفار المحاربين رغم عقائدهم المخالفة، وعدم إيمانهم برسالته، ورغم محاربتهم له، ثم إنّ طعام اليهود والنصارى وذبائحهم حلال بنص القرآن، ولا يتصور إباحة هذا الحلال بدون بيع أو شراء، وهذه الآية نزلت والحروب منصوبة من الكفار على النبي – عليه السلام- والمؤمنين، ولم تفرق الآيات بين حالة السلم والحرب".
ومن ثم يؤكد الشيخ أنّ "تصدير الغاز جائز حتى لو كان بيننا وبين اليهود حروب، والبيع والشراء بيننا جائز وليس خيانة أو جريمة طالما أنها تسير وفق الشريعة والنظام العام الذي وضعته الدولة لهذه المعاملات، والقول بغير ذلك تقوّل على الإسلام بلا علم ولا بينة".

كل مرة تتعرض فيها فلسطين لهجمة شرسة ينخرط شيوخ السلفية بمواضيع أخرى إلا الحثّ على مقاومة المحتل

وهنا تلتقي المفاهيم الشرعية مع المفاهيم "الأمنية" عند عامر؛ فالرجل يرى أنّ غياب المفاهيم الشرعية الصحيحة يؤدي إلى حالة شديدة الخطورة على أمن واستقرار البلاد، ثم يدعو إلى لحظة تدبّر وتأمل قائلاً "هناك حالة من العبثية والفوضى".
ثم يتصدّى الشيخ للمعارضين الذين يطالبون بطرد السفير الصهيوني "ويحاولون أنْ يثيروا القلق بين العامة، ويوغروا صدورهم ضدّ حاكميهم"، فيقرر أنه لا يجوز طرد السفير "فتبادل السفراء هو المعهود بين المحاربين، فمن أين جاءوا بوجوب طرد السفير اليهودي؟ لقد أذهبت الأصوات الغوغائية العالية بعقول الناس، إنّ هذا ما قاله فقهاؤنا القدامى الذين أجازوا دخول الحربيّ ديار المسلمين إذا كان تاجراً أو سفيراً .. فأين حمرة الوجه وأين العقول؟"، على حد تعبيره.
انفجار خط الغاز بين مصر و"اسرائيل" ..بـ"سيناء"

براغماتية سلفية
ومع أنّ هذه السلفية تقدم النص على العقل، إلا أن الراصد لخطابهم سيجد أنّ العقل يطغى في هذا الخطاب على النص، فيتساءل أسامة القوصي أحد دعاتهم: "ماذا يستفيدون من فعل ذلك.. "المقاومة"؟ أصلح نفسك أولاً، ثم بيتك، نحن نتحدث عن إصلاح الكون ولا نحسن الوضوء، وخلافتنا الدائرة في بيتنا لا نستطيع إصلاحها، فلنبدأ حيث بدأ النبي محمد، عليه السلام".
ترتبط مقاومة المحتلّ عند الشيخ بالمصلحة من ورائها، ويخضع الأمر لمعايير الخسارة والربح؛ لأنّ الغرض في النهاية هو النفع، ولذلك فهو شديد النقد والهجوم على حركات المقاومة في فلسطين؛ لأنها لا تُحكّم هذا المعيار ووصفهم بأنهم "حمقى ومغفلون"، ونزع عنهم صفة المصلحين.

مع أنّ السلفية تقدم النقل على العقل إلا أنّ الراصد لخطابهم سيجد طغيان العقل عند الحديث عن المقاومة

وذهب الرجل إلى حثّ حركة "حماس" على قبول الصلح مع إسرائيل، كما فعل الرئيس الراحل أنور السادات، مستشهداً بصلح الحديبية الذي كان فيه "إجحاف بالنبي –عليه السلام- لكنه قَبِله؛ لأنه لم يكن قد تمكن من مقوّمات النصر، يعد هذا الحال نفسه الآن بيننا وبين اليهود فهم الأقوى ونحن الأضعف"!
القوصي يؤيد بشدة اتفاقية السلام مع "إسرائيل"، ويدين موقف العرب الذين رفضوا المعاهدة وخاصموا الرئيس السادات؛ بل إنه يدينهم بزعم أنهم لم يساندوا موقف مصر خلال حربها مع "إسرائيل"! ثم يصل إلى مدح السياسيين المصريين الذين ساروا في ركب الصلح، ويصفهم بأنهم عقلاء درسوا حقيقة الأمور، ونزلوا إلى أرض الواقع، وينفي عنهم تهمة التفريط مشدداً : "ليس هناك تنازل، وإنْ كان فهذا التنازل جعلنا نسترد سيناء، حتى لو قال قائل ليس هناك جيش في سيناء.. هناك جيش أم لا ليس هناك مشكلة".
ويضيف: "الآن نحن في وقت صلح، وهذا الصلح له بنوده، قد نتنازل وقد نوافق على بعض الشروط التي كنا لا نوافق عليها قديماً، وهذا نفس ما فعله النبي –عليه السلام- مع الكفار في صلح الحديبية، تنازل وقبل شروطاً فيها إجحاف للمسلمين؛ لأنّ وضع المسلمين من حيث القوة يقتضي ذلك.. وهذه العقود تعجبك أو لا تعجبك هذا صلح ويجب الوفاء به، يجب النزول إلى أرض الواقع (اتقوا الله ما استطعتم)"!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية