لماذا عشق طرفة بن العبد الحياة والموت معاً؟!

لماذا عشق طرفة بن العبد الحياة والموت معاً؟!

لماذا عشق طرفة بن العبد الحياة والموت معاً؟!


18/01/2021

كلّما ذكرتُ قول المتنبي: "وأنا الذي اجتلب المنيةَ طرفُه؛ فمن المطالبُ والقتيلُ القاتلُ؟!"، قفز إلى ذهني على الفور، اسم الشاعر الجاهلي طَرَفَة بن العبد الذي ولد وشبّ وقال الشعر واشتهر ومات في غضون خمسة وعشرين عاماً فقط! فكيف تأتّى للشاب القتيل -كما لقّبه العرب- أن يفعل كل ما فعل ويحوز كل ما حاز خلال سنوات لا تكاد تُذكر من عمر الزمان المديد؟

ولد عمرو الملقّب بطَرَفَة في البحرين، قبل الهجرة النبوية بـ 60 عاماً. ولم يكد يُفطم حتى تجرّع مرارة اليُتْم مع أشقّائه. ولو أنّ اليُتْم وحده قد أحاق به لهان الأمر- لأن كثيراً من أبناء العرب ولدوا وعاشوا أيتاماً جرّاء كثرة الحروب والغارات ووجدوا من كفلهم وتعهدهم حتى كبروا- لكن طَرَفَة وأشقّاءه كُتب عليهم أن يتجرّعوا أيضاً مرارة ظلم ذوي القربى، فاستولى أعمامهم على ميراث أبيهم ثم تخلوا عنهم تماماً.

أخبار هذا الشاعر المغامر الجوّال طرقت مسامع ملك الحيرة عمرو بن هند، وربما كان للشاعر المتلمّس خال طَرَفة وأحد ندماء الملك دور في تضخيم هذه الأخبار وتزيينها

لم يتقبّل طَرَفَة ما تقبّله أشقّاؤه، وردّ على هذا التجنّي في سن مبكّرة جداً، بالاستغراق في حياة اللهو والعبث والمجون وشرب الخمر من جهة وبالاستبسال في حرب البسوس وقول الشعر من جهة ثانية، فكان نسيج وحده على صعيد الشيء ونقيضه؛ حب الحياة وحب الموت في آن واحد!

اقرأ أيضاً: لماذا انتقد نولدكه الشعر الجاهلي ثم طالب الألمان بالاقتداء به؟

ويبدو أنّ تهتّك طَرَفَة قد بلغ حداً لا يمكن السكوت عليه، وخاصة إذا نظرنا بعين الاعتبار الشديد إلى حقيقة أنه لم يتوقف عن التشهير بأعمامه الذين لم يدّخروا وسعاً للتخلّص منه والتحريض عليه، فطُرد وطُورد حتى صار كالبعير الأجرب على حد وصفه لنفسه في معلّقته الخالدة، وهام على وجهه يجوب صحراء العرب، متنقّلاً من حي إلى حي، وهو لا يملك من متاع الدنيا سوى ناقة طالما بدّدت سرعتها في العدو همومه وسيفه الذي طالما أطاح برؤوس الأبطال على حد زعمه وقربة خمره التي طالما خدّرت أحزانه وآلامه الممضّة.

اقرأ أيضاً: لماذا استنكر الفلاسفة المسلمون الشعر العربي؟!

كما يبدو أنّ أخبار هذا الشاعر المغامر الجوّال، قد طرقت مسامع ملك الحيرة عمرو بن هند، وربما كان للشاعر المتلمّس خال طَرَفة وأحد ندماء الملك دور في تضخيم هذه الأخبار وتزيينها، فدعي للإقامة في بلاط المناذرة الذين لم يدّخروا وسعاً لاستقطاب شعراء القبائل؛ طمعاً في مديحهم ودرءاً لشرور قبائلهم، فلم يتردّد طَرَفَة في إجابة الدعوة والالتحاق بركب ندماء الملك الأشهر، وأصاب بهذا القُرْب الذي امتد بضع سنوات، ضروباً من المسرّات واللّذات التي تكفّلت إلى حد بعيد بلئم جراحه النفسية، ومنحته الفرصة كي يلملم ما تفرّق من أبيات قصيدته الطويلة التي ناهزت مئة بيت؛ فنقّحها وأطلقها ليشدو بها الرواة بوصفها إحدى أبرز المطوّلات الشعرية التي استأثرت بالإجماع والإعجاب، وإن لم تستأثر في العصر الحديث بالدراسات والتحليلات التي تليق بجمالها وعمقها الشديد. ولولا أنّ سجلّ طرفة الذاتي والإبداعي تحديداً موثوق جداً، لداخَلَنا الشك في نسبة هذه المعلّقة التي تفيض بالتأمّل الوجودي لشاب غَرّ لم يكد يناهز العشرين، ومع ذلك فقد ظفر بأبدع وأوقع المطالع الطللية، وعاين بضراوة عبثية الحياة وحتمية الموت، وامتلك من الإحساس الإيقاعي والبلاغة والإيجاز وامتداد النَّفَس الشعري، ما جعل داليّته منجماً للأمثال التي طار ذكرها بين العرب.

أياً كان السبب الحقيقي الذي تمخّض عن إنهاء حياته فإنّ ما طمح إليه طَرَفَة وتمنّاه في لا وعيه العميق قد تحقّق

لكن كل هذا الفائض من الحكمة الوجودية المبكرة، لم يسعف طَرَفَة في النجاة من قدره المحتوم، بل لم يسعفه في مقاومة رغبته الشديدة في التواطؤ على ذاته والتلذّذ بإفنائها؛ وكأنه قد استكثر على نفسه إخلادها للدّعة ورغد العيش بعد طول تشرّد وشقاء، أو كأنه لم يحتمل اجتماع التضاد المأساوي في شخصه بين أفضل ما أحبّه العرب في الفتى الفارس الشاعر الكريم الحكيم وأسوأ ما أبغضه العرب في الفتى العابث اللاّهي المتمرّد المغامر، فأصر على نحو يدعو للعجب ولا يقبل اللبس، على وضع حد لحياته القصيرة جداً .

اقرأ أيضاً: هل كان الصعاليك فرساناً اشتراكيين؟!

وأياً كان السبب الحقيقي الذي تمخّض عن إنهاء حياته -فقد زعموا تارة أنه هجى الملك في لحظة نزَق وزعموا تارة ثانية أنه تغزّل بزوجته في لحظة تهوّر وزعموا تارة ثالثة أنه سار مترنّحاً بحضرته في لحظة استهتار- فإنّ ما طمح إليه طَرَفَة وتمنّاه في لا وعيه العميق قد تحقّق؛ إذ ضاق الملك به وبخاله المتلمّس ذرعاً وصمّم على قتلهما، فسطر كتابين لواليه على البحرين يأمره فيهما بقتل الشاعرين، وأمرهما بالتوجه إلى واليه وقد ركن إلى أنهما أميّان لا يقرآن ولا يكتبان ، فساور الشك الخال المحنّك وتدبّر من قرأ له الكتاب وأوقفه على مضمونه ففر ناجياً بنفسه، وأما صاحبنا الذي تدبّر من قرأ له الكتاب وأعلمه بما أضمره له الملك، فقد أصر على مواصلة السير حتى بلغ والي البحرين وسلّمه الكتاب بنفسه، فرفض الوالي قتله لما بينهما من قرابة وسهّل له سبل الفرار، فما كان من طَرَفَة الذي رفض الفرار إلا أنه اقترح على الوالي أن يطالب الملك بتسيير رجل من رجالاته لإنجاز المهمّة، فسيّر له رجلاً من قبيلة تَغْلب وخيّر شاعرنا في الطريقة التي (يحب) أن (يموت) بها، فاختار الموت فَصْداً بعد أن يشرب، فسقاه خمرا حتى روي ثم قطع شريانه، فقضى نازفاً دماءه الشابة الغزيرة الثائرة!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية