لحظة بـ 10 أعوام.. البحث في عقل هشام عشماوي؟

لحظة بـ 10 أعوام.. البحث في عقل هشام عشماوي؟


10/10/2018

تساقطت الدانات منهمرة فوق رؤوسهم، كانت تدوي وهي تختلط بهدير أمواج البحر الأبيض المتوسط، التي تضرب هي أيضاً شاطئ درنة الليبية.

تساقطت المشاعر والذكريات فوق رأسه وقلبه، كانت تضطرم وتتلاطم، كما تفعل الأمواج والقنابل المتساقطة من حوله، المكان يضيق برائحة الموت التي تفوح من كلّ الجوانب والأركان، لقد اشتمها كثيراً من قبل حتى امتلأت رئتاه، لكنها لم تبدُ كئيبة ومحزنة كما هي اليوم.

جهّز صاحبه إمام مرعي (أبو مريم)، بنفسهِ، يوم انطلق لتفجير مبنى "مديرية أمن الدقهلية" شرق دلتا مصر، مستخدماً سيارة مفخخة، وشاهد بعينيه عشرات الجثث، المقطعة الأوصال، وهي تخرج من تحت الأنقاض، لكنّه شعر بالانتعاش، لحظتها، فصاح "الله أكبر".

الحزام الناسف

ضاق الخناق مع اشتداد القصف وأزيز الطائرات المحلقة، ونفاد ذخيرته، فنظر إلى حزامه الناسف، وما إن تحسّسه بيده حتى أنزلها مرة أخرى، ثم تساءل: أين ذهبت الآية التي لطالما ردّدتُها في صلاتي وبين رفقائي: ﴿وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾، أم يا ترى تلك الدماء التي سفكتها لم تكن في سبيل الله والجنة؟ هل كانت هوى نفس من أجل الإمارة؟

الأسر مذلة وعارٌ يفضي إلى الموت أيضاً، في النهاية، أو إلى العيش تحت أقبية السجون ووراء القضبان

تذكّر ما تربى عليه في التنظيم "الموت لا الأسر"، فالأسر مذلة وعارٌ يفضي إلى الموت أيضاً، في النهاية، أو إلى العيش تحت أقبية السجون ووراء القضبان؛ حيث يقضي عمره، أيضاً، تحت رحمة السّجان.

الأَسر في خبرة تلك التنظيمات يعني الفتنة والنكوص عن المعتقدات والمبادئ؛ ففي السجن، إما أنْ تفترسه الوحدة المُوحشة، أو يصبحَ ويمسي على الوجوه نفسها، حتى يصاب بالملل وتتغلبَ عليه كراهية كلّ من حوله.

في كلتا الحالتين؛ تلوح التساؤلات له كأشباح مفزعة: هل كنت على صواب أم كنت على خطأ؟ ومن هنا، ربما، تبدأ إرهاصات المراجعة، وبعدها تنهار الصروح الوهمية التي أفضت به إلى ذاك المصير البائس؛ إذاً، فالموت أهون؟ لكن لماذا لم يشدَّ الخيط أو يضغطْ على الزرّ لينتهي كل شيء؟!

ثارات لا تنتهي

كان أزيز الرصاص يعزف سيمفونية الموت المتبادل، حتى توقف فجأة، ظنّ عشماوي أنّ مقاومتَهُ قد تكلّلتْ بالنجاح، وأّن قواتِ الجيش الليبي قد يئست من البؤرة التي يتحصّن فيها، في حيّ المغارة القديم، ذي الكثافة المعمارية والشوارع الضيقة الملتوية.

كم أفلت من معاركَ خاسرةٍ في دروب الصحراء، التي كان يعشقها؟ إذاً؛ فليبتعد الموت أو الأسر الذي هربَ منه مرات، وليمضِ هو ليخلدَ إلى النوم.

اقرأ أيضاً: عشماوي .. ضابط الصاعقة في وحل التكفير

نظر بعينيه إلى أطفال صديقه، عمر رفاعي سرور، ليعدَهُم بالثأر لمقتل أبيهم، ويحفّزَ نفسه. كان سرور صديقه الصدوق، فقد تعرّف إليه في حيّ المطرية (شرق القاهرة)، واتّخذ منه شيخاً ومنظّراً، وهو ابن المنظّر الجهادي القديم رفاعي سرور.

كان هواهما (غربياً)، فاجتازا معاً الحدود المصرية، ليستقرّا في بنغازي، وينضمّا لمعسكرات القاعدة هناك، وشاركا في ضرب القنصلية الأمريكية.

ساهم الصديقان في إرسال صناديق السلاح والذخيرة على الجِمال، لتنوخ بأحمالها في الشرق؛ حيث سيناء، وعندما عادا شرعا في تدشين تنظيم "أنصار بيت المقدس"، لكنّ التنظيم اكتُشِفَ مبكراً، فعُرف بأمر سرور، وظلّ عشماوي مختفياً عن الأنظار، حتى كانت واقعةُ فضّ اعتصام ميدان رابعة.

اقرأ أيضاً: الإرهابي المصري رقم 1 في قبضة السلطات الليبية.. من هو؟!

لم يشعرْ عشماوي بمرارة الفقد، كما شعر بها لفقد رفاعي؛ فعدا عن أنه كان رفيق دربه، فإنّه كان سبباً في مقتله. إنه من أصرّ على الزحف من سرت إلى درنة، رغم تحذير رفاعي له من ذلك، إلا أنّ عشماوي، ذا النفسية العسكرية، كان يرى أنه سيقاوم وينتصر، إلا أنّ الخسارة كانت فادحة، ودفن صديقه بيديه في مكان غير معلوم، فأدرك أنهم جميعاً يذهبون نحو الغروب.

الصدمة والرعب

فزع على وقع دبدبات الجنود الصائحين "الله أكبر"، ملثّمين مثله، وعناصره يصيحون صيحتهم نفسها، لكن خيار نزع فتيل الحزام الناسف، الذي ينام به، نزع منه هذه المرة فشعر بالضياع بعد أن تلقى ضربة على جانب وجهه الأيسر  فدارت الأرض من تحته، وكأنّ السقف خرّ على رأسه، ووقع الذئب في المصيدة.

هو الآن في قبضة أعدائه الذين لم يراعِ فيهم يوماً إلّاً ولا ذمة ولم يواجهّهم قبل ذلك سوى بالرصاص والسكين

ربما تذكّر رفقاءَهُ السابقين، عندما فاجأهم في الكتيبة (101)، شمال سيناء، حيث خرج ساعتها وعناصرُهُ من خزانات عربات المياه التي اعتاد الضباط والجنود دخولها يومياً إلى مقرّ كتيبتهم، إلا أنهم فوجئوا بأنها مملوءة بالنار والدم، بدل الماء، فغلبتِ الصدمةُ القوة والشجاعة، كما غلبته اليوم، قتل يومَهَا عشرات الجنود بدم بارد، وعلى حين غرّة.

هو الآن في قبضة أعدائه؛ الذين لم يراعِ فيهم يوماً إلّاً ولا ذمة، ولم يواجهّهم قبل ذلك سوى بالرصاص والسكين، لم يخضْ معهم حواراً إلا بالدم.

لم يكونوا يعرفون على من قبضوا، لم يكونوا يعرفون سوى أنّ في هذه البؤرة قادةٌ بارزين، وإلا فلماذا يستميتون هكذا في الدفاع عنهم بكل ما أوتوا من قوة؟ كانت خدعة ظنّها عشماوي السكون المصاحب لليأس.

أين المؤمن الحقّ؟

يجلس عشماوي بين أيدي معتقليه، كما الميت بين يدي مغسّله، يسألونه: ما اسمك، يجيب: أنا هشام عشماوي، لكنّ "الأنا" تتناثر من نبرات الصوت، ممزوجة بمشاعر الخنوع.

يحفظ هشام رقمه العسكري عن ظهر قلب، فينطق به لسانُه، عندما يسأله المحقق، حتى لو كان عقله مصاباً بالشلل

يبدو هشام كنَمرٍ غير مروَّض، وقع لتوّه في المصيدة، لم يستوعب بعد ما يجري له، فهو اعتاد التنمر والانقضاض على الفريسة، لا أنْ تُنصَبَ له الشباك فيقع فريسة للصيادين.

يقولون في الأمثال: "تغلب الكثرة الشجاعة"، لكنّ المؤمن الحقّ لا يهتزّ، وإن تمكنت منه الكثرة، نسي عشماوي ما تعلّمَهُ في محاضن التزكية في المعسكرات الجهادية، حينما وقف خبيب بن عدي، أسيراً في أيدي كفار قريش، بعد أنْ عذّبوه ووضعوه على المقصلة، ناهشين جسده بالسهام،  لكنّه قال: "ولست أبالي حين أقتل مسلماً، على أي جنب كان في الله مصرعي"، لماذا لم يحضر عدي في مخيلة عشماوي؟ وهل كان مؤمناً بعدالة قضيته؟ أم كانت الزعامة والإمارة هما الغاية؟

اقرأ أيضاً: مرصد الإفتاء المصري يرصد مؤشر الإرهاب في أسبوع

يحفظ هشام رقمه العسكري عن ظهر قلب، فينطق به لسانُه، عندما يسأله المحقق، حتى لو كان عقله مصاباً بالشلل (112079)، كما يردّ على رتبته العسكرية، بأنّه "رائد"، ثم يستدرك بكلمة "سابق"، لا بدّ من أنّه الآن يتذكر.

مرارة قديمة

ليس هيّناً على ضابط كان يعشق الصاعقة ومولعٍ بالصحراء، أن يقبض عدوّه على ياقة قميصه، ويلقيهِ في المدرعة، لكنْ؛ لا شكّ في أنّ شريط الذكريات يجري في رأسه.

لم يتذكّر أنّه خدم معهم لأعوام وتناسى أنّ من قتلهم علّموه كيف يُمسك السلاح ويطلقُ النيران على أعداء وطنه

نزع إلى التديّن، بعدما عاد من الولايات المتحدة الأمريكية، مجتازاً عدداً من الدورات التدريبية، فبدأ في ارتداء الجلباب القصير خلال استراحات الضباط، الذين سخروا من زيّه الجديد، فزادته تلك السخرية نزوعاً أكبر نحو التطرف.

وقبل اندلاع ثورة كانون الثاني (يناير) 2011، كان يعطي دروساً في المصلّى الذي تبرّع به والدُهُ لوزارة الأوقاف، فرصدته المخابرات الحربية، ثم أحالته للقومسيون الطبي، التابع للقوات المسلحة، والذي وصف حالته بأنه "مريض نفسي يجب أن يخضع للعلاج"، بعدها أحيل هشام إلى الأعمال الإدارية، فتعالى شعوره بالسخط، ونمت بذرة التطرّف في وجدانه، وفي عام 2012 خرج من الخدمة نهائياً، وتحوّل السخط إلى طلب للثأر.

دفع الثأرُ عشماوي إلى ارتكاب مذبحة كاملة ضدّ رفقائه السابقين في "كرم القواديس"، دون أنْ يهتزّ له جفن، ولم يتذكّر أنّه خدم معهم لأعوام؛ أكلوا سوياً (عيش وملح)، وتناسى أنّ من قتلهم علّموه كيف يُمسك السلاح ويطلقُ النيران على أعداء وطنه، فوجّههُ نحو صدورهم، بحجة أنّهم من أعوان الطاغوت.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية