فك شفرة "المهاجر" (1).. الإرهابي أبو أيوب المصري

الإرهاب

فك شفرة "المهاجر" (1).. الإرهابي أبو أيوب المصري


23/11/2017

تحقيقات

دقّت أجراس منبّهي المزعج لتعلن عن اقتراب الساعة من الثانية فجراً.. أخذتْ دقات قلبي هي الأخرى في الخفقان، كنت قد عزمت شد الرحال إلى كفر الأعصر، إحدى قرى محافظة الشرقية، التي تبعد نحو 100 كيلو متر، شمال شرق القاهرة.
غلّفتُ خوفي بشيء من الحذر، وحملتُ حقيبتي على كتفي وشرعت في السفر.. تعبر السيارة بين الجداول والحقول، ويمر معها مشهد رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، على مخيلتي وهو يعلن من على شاشات التلفزة يوم 19 نيسان (إبريل) 2010 نبأ مقتل زعيمي ما كان يسمى تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق: "أزف لكم البشرى من الضربة التي استهدفت وتمكنت من قتل "أبو عمر البغدادي" و"أبو أيوب المصري""...
لقد أضحى موت هذا الشاب المصري المنسي في بلده "بشرى لعموم الشعب العراقي والإنسانية جمعاء" وفق المالكي.. ها أنذا أقترب من قريته، بعد أن أضناني البحث عنها، فقد أوقعتني مواقع الجهاديين وغيرهم على الإنترنت في التضليل، وادعت أنّه من سوهاج بصعيد مصر.. ولم يكن ذلك صحيحاً.

صورة تظهر مدخل قرية "أبو أيوب المصري"انقشاع الضباب

المالكي ذاته أخطأ وهو يكشف عن الاسم الحقيقي لــ"أبو أيوب المصري"، الشاب الذي طاردته قواته والمخابرات الأمريكية طيلة 10 سنوات كاملة، فقال إنّه شخص يُدعى "شريف هزاع".. مع أنّ اسمه الفعلي عبدالمنعم عز الدين علي البدوي، فبدا الزعْم أنه من سوهاج هيناً... لقد نجح الشاب الريفي الذي عُرف أيضاً بـ"أبو حمزة المهاجر" في أن يضلل أجهزة المخابرات العالمية حياً وميتاً.
حملت شخصيته قدراً هائلاً من الغموض، ونضبت المعلومات التي تناولت سيرته الذاتية، إلا من بعض ما تداولته وسائل إعلامية امتلأت بكثير من الأخطاء القاتلة، فراحت تخلط بينه وبين شريف هزاع، رفيق عز الدين البدوي في اليمن، الذي استلب منه البدوي كنيته "أبو أيوب المصري" فباتت النبذة المختصرة للتعريف بهزاع هي نفسها الخاصة بالبدوي.
لم يكن الفضول فقط هو الذي حرك غريزتنا في البحث؛ بل اكتشافنا أن هذا الرجل هو من وضع بنية التنظيم الذي شغل العالم فيما بعد، باعتراف أقرانه في القاعدة، وأعاد تموضعه من حالة التنظيم إلى حالة الدولة، وباتت "داعش" حديث العالم بتوحشها وتمددها، بقسوتها، وشراستها، حتى قال بعض المراقبين عنها إنها أضحت شبه دولة نظامية... تعيش في عصر العولمة وما بعد الحداثة بفكر عصور خلت وأيام مضت.. واضع حجر أساسها وأعمدتها هذا "المهاجر" باعتراف القاعديين أنفسهم.
طوت سيارتنا الطريق، وهي تهرول وسط الأشجار الشامخة، حتى اقتربنا من تخوم القرية، التي تقبع وسط قرى أنجبت عدداً من المشاهير، فكانت لافتة قرية العدوة تعلن نفسها، إنها مسقط رأس الرئيس المعزول محمد مرسي، وقبلها مررنا بقرية هرية رزنه التي أنجبت أحمد عرابي، وبعدها بـ10 كيلومترات تقبع قرية عادل حبارة، الذي أعدم في نهاية العام 2016 بتهمة قتل عدد من جنود الجيش المصري في رفح... هنا تقبع عشرات من القرى خرج منها مئات من قادة وعناصر تنظيم الجهاد.

كان مولعاً بتقليد الشيخ عبدالحميد كشك أحد أبرز خطباء المساجد في مصر في النصف الثاني من القرن الماضي

"أين منزل الحاج عز الدين البدوي؟".. لم يكن أحد يعرف من هو، لكنهم أشاروا لنا من بعيد إلى قرية كفر الأعصر... حتى نزلنا في مسجدها، إنه المسجد ذاته الذي كان يؤدي فيه "عبدالمنعم" الصلاة.
"هل تعرف شخصاً يدعى عبدالمنعم عز الدين البدوي؟" .. هكذا سألت رجلاً يتأهب للصلاة في المسجد، فأجاب بأنه يعرف عز الدين البدوي، وهو رجل يعمل في المعهد الأزهري.
"وماذا عن ابنه؟" أجاب: "يقال إنه كان له ابن سافر إلى السعودية العام 1990 لأداء العمرة لكنه لم يعد، ويقولون إنه قتل في العراق".. من الواضح أنه لم يكن ثمة أحد يعرف أهمية هذا الشاب إذ أبدى غالبية من سألناهم استغرابهم من تحملنا عناء السفر من أجله.

راحة بين الموتى

توضأنا وأقمنا صلاة الفجر.. اقتحم علينا عزلتنا رجل يبدو أنه تجاوز السبعين من عمره، فبادرنا بالسؤال: "هل تسألون عن ابن البدوي الذي قضى في العراق؟" فأجبنا بنعم .. قال: "كان هذا الشاب يجلس كثيراً هنا في المقابر"، وأشار بسبابته في اتجاه نافذة خشبية، عندما اقتربنا منها أطلت بنا على مشهد حزين لشواهد القبور، وسيدة تقوم بجمع ما تبقى من فوارغ بلاستيكية.

صورة لسيدة تجمع القمامة في قبور القريةهنا كان يجالس الموتى وتسكن روحه بين العظام الرميم، حتى هاجر فجأة تاركاً هذه السيدة تمارس مهمتها في جمع القمامة... فر الشاب الهادئ الوديع إلى مناطق الاشتعال، ليذيق الآلاف الموت، وليذوقه هو بعد 20 عاماً من مغادرته تلك المقابر.
كان مولعاً بتقليد الشيخ عبدالحميد كشك، أحد أبرز خطباء المساجد في مصر في النصف الثاني من القرن الماضي، هكذا قال لنا ابن عمه علاء البدوي، الذي حادثنا هاتفياً، دون الموافقة على اللقاء المباشر معنا.
"أقول للشيخ المفضال والبطل المغوار الهاشمي القرشي الحسيني النسب أمير المؤمنين أبي عمر البغدادي، بايعتك على السمع والطاعة.. معلناً ذوبان كافة التشكيلات التي أسسناها بما فيها مجلس شورى المجاهدين، وبالنيابة عن إخواني في المجلس تحت سلطة العراق الإسلامية..".

تعلو نبرات صوته وتنخفض في تلاوته لنص مبايعته، وهو زعيم القاعدة في العراق، لـ"أبو عمر البغدادي"، الذي نصبه هو أميراً للمؤمنين .. إنه بالفعل يبدو متأثراً بالشيخ كشك، لكنّ ابن عمه يقول: لم نتوقع يوماً أن يصبح "عبدالمنعم" زعيماً للقاعدة في العراق ووزيراً للحرب في تنظيم "الدولة الإسلامية" هناك.. لم يكن هناك في سلوكه وأفعاله ما يمكن أن يشي بذلك .. لقد كان منطوياً يهوى قراءة الكتب التراثية ولا ينخرط في اللعب مع أقرانه.

وقعت "حفريات" على دليل على لسان أيمن الظواهري نفسه يؤكد أن عبد المنعم ذهب إلى أفغانستان

تتعالى نبرات صوت عبدالمنعم حين يبايع "أبو عمر البغدادي"، أميراً للمؤمنين: "واضعاً تحت تصرفكم وإمرتكم المباشرة اثني عشر ألفاً هم جيش القاعدة، كلهم قد بايع على الموت في سبيل الله، وأكثر من عشرة آلاف لم تستكمل عدتهم المادية أعينهم تفيض من الدمع حزناً أن لا يجدوا من ينفقون".

وكما يقول الباحث في شؤون الحركات المتطرفة عمرو عبدالمنعم فإن هذا العدد لم يُذكر عبثاً؛ إذ له دلالة في أدبيات الجهاد حيث "لا يغلب اثنا عشر من قلة" كما جاء في الحديث.

توحش المسالمة الخادعة

لم يخطر في بال أحد حينها أن ذاك الصوت القوي هو للشاب هزيل الجسد ضعيف النظر عبدالمنعم عز الدين البدوي، الذي ورث تنظيم القاعدة في نسخته الأبشع بعد مقتل قائده في العراق "أبو مصعب الزرقاوي" العام 2006، بل إنه في العام 2007 يعلن عن قيام دولة في العراق نصّب لها مجهولاً آخر عراقياً كني بـ"أبو عمر البغدادي".
لقد شكل لدولته الإسلامية المزعومة في العراق هذه هيكلاً وإدارة، ودار الزمان دورته واقتطع تنظيمه بعد مقتله جزءاً كبيراً من الأراض الشامية لتضاف الشين إلى مختصر التسمية.. وتظهر "داعش".

 تولى المهاجر زعامة تنظيم القاعدة في العراق بعد مقتل "أبو مصعب الزرقاوي" العام 2006

يقول عالم الطب النفسي الدكتور محمد المهدي لـ"حفريات" إنّ مثل هؤلاء يميلون أكثر للانتماء للأفكار والمعتقدات، التي تترسخ في عقلهم ووعيهم، ولا يؤمنون بمفاهيم الوطن والأرض والدولة.. كما أن قدرته على تحديد الأهداف ترتفع للغاية.. وتعمل على الشحذ الأحادي لذاته دون أن يتسلل إلى عقله أفكار مغايرة أو مناقضة سوى الفكرة التي أغلق عليها عقله ووجدانه .. فتصبح شديدة الصلابة وعصية على التفكك..
يؤكد ابن عمه أن عبدالمنعم المولود العام 1965 أخبرهم بأنه ذاهب لأداء العمرة في العام 1990 ولم يعد منذ ذلك اليوم، "لكنه اتصل بعد ذلك بنا وأبلغنا بأنه سيعكف في المملكة لدراسة العلم الشرعي".

ونحن نتجول أمام مدرسة عبدالمنعم وبيته قابلنا جار له حدثناه عنه قائلاً إن أباه حاول أن يدخله كلية الشرطة وجهز له مبلغاً من المال لدفعه لوسيط لكنه لم ينجح في ذلك، "وبعدها بــ3 سنوات سمعنا أنه سافر إلى السعودية ولم يعد".

فوق ذرى الهندكوش

لم نعثر على معلومات مؤكدة حول سيرته في أفغانستان سوى ما ورد على شبكة الإنترنت من أنه تعلم فنون القتال في معسكر الفاروق وتدرب على صناعة المتفجرات، لكن معلومات الشبكة هذه لم تعد لنا دليلاً قاطعاً.
وقعت "حفريات" على دليل مؤكد يثبت أن عبد المنعم ذهب إلى أفغانستان، على لسان أيمن الظواهري نفسه، وهو يتحدث عن "أبو عمر البغدادي": "فقد زكاه الأمير"أبو مصعب"، رحمه الله، ووزير الحرب "أبو حمزة المهاجر" الذين زكاهم صبرهم وثباتهم تحت صواعق الغارات فوق ذرى الهندكوش، وهم ممن يعرفهم إخوانكم في أفغانستان".. إذن كان عبدالمنعم (المهاجر) في أفغانستان برفقة "أبو مصعب الزرقاوي".. وتعرضوا معاً للقصف على قمم جبال الأفغان.

حملت شخصيته قدراً هائلاً من الغموض وما تداولته وسائل إعلامية عنه حمل كثيراً من المغالطات

كان هذا القصف الأمريكي على جبال الهندكوش، في الضربات الأمريكية على أفغانستان بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر العام 2001، وكان برفقة الزرقاوي.. هل سافر من مصر إذن إلى السعودية ومنها إلى أفغانستان؟
لم يمكث في أفغانستان كثيرا في هجرته الأولى لها؛ إذ إن الحرب الأهلية هناك كانت قد اندلعت، وكان الاتفاق طرد من سُمّوا وقتها بــ"المجاهدين الأفغان" فتبعثروا أو بُعثروا، وانتقل جلهم إلى الخرطوم، وبعضهم إلى اليمن، إلى أن عبدالمنعم مكث في اليمن لسنوات.
بات وجودنا في القرية خطراً؛ فقد جاءنا اتصال من أخ لعبدالمنعم يهددنا بالخروج من القرية وإلا أرسل لنا من يخرجنا مرغمين.. حاولنا الاستفادة من الدقائق المعدودات المتبقية لنا، وذهبنا نتجول في مدرسته القديمة وأمام منزله.

صورة لمنزل عبد المنعم البدويسحر الغموض
ظهر اسم عبدالمنعم في سجلات الأمن المصرية في العام 1999 على ذمة قضية العائدين من ألبانيا، لكنه كان الأخير في القضية التي ضمت العشرات من القادة، وحكم عليه وقتها غيابياً بــ7 سنوات، ولم ترد في أوراق القضية عنه معلومات تذكر.
ذهبنا لمنتصر الزيات، بصفته المحامي عن تلك القضية، التي شغلت الرأي العام في مصر حينها، فحدثنا قائلاً: ألقت أجهزة الأمن على شخص يدعى، محمد السيد إبراهيم النجار، كان يشرع في ترتيبات لعودة عشرات المقاتلين من حقول الجهاد ومنها ألبانيا، للقيام بعمليات في مصر، فقام الأدلاء بمعلومات تفصيلية، عن عناصر القاعدة في اليمن والسودان وأفغانستان، بيد أن الزيات لاحظ أيضاً ورود اسم "عبدالمنعم" في ذيل لائحة الاتهام، وأجهزة الأمن لم تقدم معلومات عنه، بل ذكرت اسمه فقط خاليا من التفصيلات.
يعود الزيات ليحاول فك الغموض الذي اكتنف شخصية "المهاجر" فيقول: برع زعيم تنظيم القاعدة لاحقاً أيمن الظواهري، في المناورة، فاستطاع أن يجند عدداً من العناصر التي لم تكن تحت الرصد الأمني، ولم يكن لدى أجهزة الأمن خلفية عنهم، وذلك في فترة السماح لمئات من الشباب أن يغادر البلاد للقتال في أفغانستان للتخلص منهم من جهة، أو في ضوء السياسة الأمريكية التي كانت تهدف لاستخدام هؤلاء كمخلب في مواجهة القطب السوفيتي في ذلك الوقت.

 شكل المهاجر لدولته الإسلامية المزعومة في العراق هيكلاً وإدارة أضحت تعرف بعد مقتله باسم "داعش"

ويرى استشاري الطب النفسي إبراهيم مجدي حسين، في حديثه مع "حفريات" أنه "في التنظيمات الراديكالية، كلما كان المرء أكثر غموضاً كان أكثر قوة وقدرة، ومن ثم فإن تلك التنظيمات يعلو فيها ويصعد كل من اتصف بالغموض وأضاف على نفسه هالة من القداسة.. شخصيات معينة هي التي لديها قدرة على أن تبقى سرية، وسوف تجد في التنظيمات الراديكالية نوعاً مثيراً وغامضاً، وآخر يظهر ليتصدر المشهد وهؤلاء هم السطحيون"..

الأهل آخر من يعلم

عند مقابلتنا لأمه الثكلى، بدا أنها لم تكن تعرف أن ابنها أضحى من أكبر قادة التنظيمات الإرهابية في العالم، قُتل بإشارة من يده مئات بل ربما آلاف من الضحايا، كانت سيدة ريفية بسيطة وغير متعلمة، لم تذكر ابنها بسوء، بل قالت إنه ذهب ليجاهد في سبيل الله.

كان شغل أمه الشاغل هو فك حبل المشنقة من حول رقبة زوجة ابنها اليمنية حسناء التي كانت قد حُكم عليها في العراق بالإعدام، بعد أن نجت من القصف الذي أودى بحياة زوجها، وقضت بضعة أشهر في سجن الرصافة، كما كانت تطالب باسترجاع أولاده إلى أحضانها عل أفئدة أهله الملتهبة تبرد قليلاً، لكن هذه الأجواء لم تخلُ من طرافه عفوية... عندما كان يحاول الزوج إسكات زوجته منفعلاً ليقوم بالتحدث بدلاً منها.

والدة المهاجر ووالده في الخلفية


كان الأب هو ذاته الذي ظهر أمام الكاميرات بعد سقوط نظام الرئيس المصري، محمد حسني مبارك العام 2011 أمام السفارة العراقية في القاهرة، وحوله عدد من أعضاء السلفية الجهادية، متحدثاً عن بطولات ولده، "الذي وضعت أمريكا على رأسه 50 مليون دولار، إلا أنهم فشلوا في اصطياده 4 مرات على التوالي، حتى جاءت المرة الأخيرة، فلم يرضَ الاستسلام، ولم ينجحوا في القضاء عليه، إلا بعد استدعاء الطيران الحربي الأمريكي".
في ديوانه المعنون بـ"آمال وآلام" الذي نشرته المواقع الجهادية يتحدث عبدالمنعم عن والديه: "اتّصلت على أهْلي بعدَ فترةِ انقطاعٍ طَويلةٍ، وكانَتْ أمّي علَى الهاتِف تَنتظرُ، فما أن سمِعت صَوتي حتّى انخرطَتْ في البُكاء، فأخذَ منْها والدي السّماعة ريثما تهدأ ثم تكلمني كالعادة، إلا أنها هذِه المرّة لمّا جاءَت تكلّمني ثانيةً بكَت وبكَت ولم تستطِع قطّ أنْ تُكلّمني، إلا أنّها قالت يا ولدي أريد أن أراك".

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية